قلمه يفتح ممرا بين الحياة والموت.. ليمرر لنا ضوءاً خفياً.. أحيانا يبدو ألقاً بعيداً.. يجذبنا صوبه لنقرأ: نبوءات العراف، وشذرات الشاعر، وألمعية الروائي.. وما دام الزمان عاصفاً في كل مكان على الخريطة العربية سيبهرنا آخر عمل روائي ضخم قدمه قلم الروائي الجزائري واسيني الأعرج «رماد الشرق» الصادر حديثا. فالرمادي المخاتل الذي يتشبث بمنطق خلط الابيض بالسواد ليصنع ضبابية تاريخنا وربما مستقبلنا يدفعنا للإنصات لروائي من طراز نادر هو واسيني الاعرج.
لينا هويان الحسن
التراجيديون الإغريق كانوا مثقفي شعوبهم، أعمالهم لم تحرك عواطف مشاهديهم وحسب ولكنها غيّرتهم .. ولاحقا عرف العالم هذا النمط من الثقافة المؤثرة أمثال شكسبير، والأدباء الروس وأدب أميركا اللاتينية بوصفها أعمالا تقدم رؤية للوجود ولكن، عربيا؟ كيف يرى واسيني الحال؟
يجب أن نقول إن التراجيديا لم تصل إلى سقفها إلا عندما وصلت التعقيدات المجتمعية إلى سقفها، بروز مجتمع الحروب واندحار مجتمع الثقافة، فكانت التراجيديا هي التعبير الفني الأسمى عن هذه التحولات الحاصلة في المجتمع الإغريقي القديم، بين مجتمع ينتفي وآخر ينشأ من الكسورات. حتى شكسبير، هو تعبير عن لحظة انهيار القيم العليا وظهور قيم أخرى بديلة، فكان شكسبير هو أهم من عبر عنها لكنه لم يحصل على الاعتراف بذلك إلا بعد قرنين من الزمن. أي أدب هو نوع من الظلم، لكن التاريخ يظل هو الحليف الطبيعي للكتابة، إذ يقود إلى الاعتراف ولو بعد زمن. فهو من أنصف في النهاية شكسبير وسقراط وأبا العلاء المعري، وغيرهم. الأدب الأميركي اللاتيني رسم الديكتاتورية في أفق بداية تحللها وصورها بقوة لينتج نصوصا عظيمة لم تجد تجلياتها القوية إلا في الثلاثين سنة الأخيرة ونحن نعرف سلفا التراكم السابق والكبير الذي كان وراءه أستورياس وغيره من الذين مهدوا الطريق لأجيال كاربانتيي، وماركيز ويوسا وفوينتيس. هؤلاء عبروا عن تراجيديا وضع مشترك وفق نص كبير ومميز اسمه الرواية الأميركية اللاتينية. في الأدب العربي نجد كاتبا عظيما بدأ ينسى للأسف هو عبد الرحمن منيف بملحمته الكتابية الكبيرة «أرض السواد» و«مدن الملح» وغيرها. فقد كتب عن مجتمع في قمة تحلله. ولم نر هذه التحولات إلا اليوم. فقد تجاوز منيف معطيات حاضر ميت نحو أفق خطير كان يرتسم في الأفق.
كلاوديل قال ذات مرة: لم تكن الكلمات هي التي صنعت الاوديسه وانما الاوديسه هي التي صنعت الكلمات. ما الذي يمكن أن تفعله الكلمة؟
ربما لا تفعل الكلمات الشيء الكثير أمام القنابل النووية الكيماوية أو الأسلحة التقليدية. لكن العكس أيضا صحيح. لا تستطيع الجرائم الأكثر فتكا أن تمنع الكلمة من أن تذهب بعيدا في الحياة. هل منع قتل الحلاج في بغداد، وتمزيقه وصلبه وتعليقه على بوابات بغداد الخشنة ثم حرقه ورمي رماده من أعالي مآذن بغداد، هل منع ذلك كلماته من التوغل فينا؟ ما زلنا إلى اليوم في عمق كتاباته وصوفيته وقلقه الوجودي، ونقرأه بقوة. غارسيا لوركا لا نعرف له قبرا. قتل في الحرب الأهلية الإسبانية ذات فجر. قتله المجرمون؟ من يتذكر؟ لا أحد، لكنه فينا وفي ثقافتنا المعاصرة بمسرحه وشعره وثقافته ونضاله العظيم. الكلمة لا تفعل الشيء الكثير، ربما، لكنها تملك قدرة منح الحياة والشهادة والهرب بالحقيقة نحو أدفأ مكان وأصدقه، أي الكتابة.
يقول بروست: إن العمل الفني هو حب بائس ينمّ حتما عن حبّ آخر؟ ما رأيك؟
الكتابة هي شمس تخترق ظلمة قاسية وبائسة. انظري من حولك؟ ماذا نرى وماذا نسمع؟ وماذا نكتب؟ في عز الحرب العالمية الثانية ظلت موسيقى كراجان وبوريس فيان ولوحات بيكاسو وكتابات ألبير كامي هي الشاهد الحقيقي على حياة لا تموت أبدا. حياة تنشأ في عمق بؤس الظلمة، ولكنها في الوقت نفسه هي إعلان حب ضد وضع بائس.
الأشباح التي تصعد من كهوفنا التحتية، ستظهر آجلأ أو عاجلا، عندما كتبت نصوصك إلى أي حد اثرت على قلمك تلك الأشباح؟
كل واحد فينا يحمل أشباحه ومقابره وهي لا تنغص عليه حاضره فقط لأنها في كل مرة تذكره بما نسيه. أن يكون صوت الذين لا صوت لهم. حاضرنا أصلا ليس جميلا، يتحول من حين لآخر إلى مرايا سوداء نرى فيها ما لا نراه في الحياة اليومية. أؤمن بأن كل أشباحنا في هذا السياق تتبعنا طويلا ولا تموت إلا وهي معنا، وقد تحتل معنا القبر نفسه. نحتاج إلى الكثير من الكتابة لكي نتخلص منها. شبح والدي الذي استشهد في 59 وهو العاشق للحياة. في ماذا كان يفكر يوم استشهد تحت التعذيب؟ والدي بلا قبر، شبحه فيَّ إلى يوم أقف على قبره ومثلي الملايين. شبح الحب الأول الذي لم نشبع منه وسُرق منّا؟ في كل مرة تمنحني الكتابة فرصة وضع زهرة على قبر والدي، أو الغوص في عمق حب لم تبقَ إلا علاماته المثالية بعد أن انتفى حياتيا.
هل تركت مخطوطات مهجورة في درجك؟
كثيرة. كتبت رواية قديمة في السبعينيات عن استشهاد والدي اسمها «الطريق الطويل» خبأتها في فترة الإرهاب ونسيتها، وظننتها ضاعت. فجأة، عثرت عليها مرةً من المرات وأنا أفك أغراضي من الصناديق، قفزت أمامي. أفكر في نشرها لأنها روايتي الطفولية. أفكر في نشرها يوما. لا تزال مخبوءة. رواية أخرى كتبتها هذه المرة بالفرنسية Le vertige du mirage دُوار السراب عن الوضع العربي القاسي قبل عشر سنوات، لم تنشر إلى اليوم. رواية أكاريا، كدت أنتهي منها وهي تسير على إيقاع التحول أو المسخ لكافكا. لم أعد لها مع أني ظللت متعلقا بها. إيروتيكا كتبتها وأنا في المستشفى في باريس يوم تعرضت لأزمة قلبية خطيرة. كتبت هذه الرواية بعنف غريب لم أعهده في نفسي. وخلقت شخصية مضادة هي خليط من الأزمات الخاصة والعامة. وهناك رواية عرش الشيطان التي ذكرتها في أصابع لوليتا، لم تر النور إلى اليوم لأني تركتها لأسباب أمنية. وسيرتي الذاتية: عشتُها كما اشتهتني التي لم أنشرها لأني أشعر دائما بأنها أقل مما في داخلي.
أتلفت شيئا كتبته؟
أبدا. خبأت الكثير من النصوص والرسائل غير المنشورة عند أصدقاء في فترة تسلط النظام أو تفشي الإرهاب. وهذا كان حفاظا على المخطوطات قبل نشرها، منها رواية سيدة المقام التي لازمتني كل فترة الموت اليومي. عندما نشرتها في ألمانيا تخلصت من ثقلها على نفسي. كانت شهادتي عن زمن شديد القسوة لأني كنت أرى نفسي ميتا. لكن الظاهر يبدو أن المرض الجزائري قد سرى في كل الجسد العربي الذي بدل أن ينطلق، يعود اليوم، بخطى حثيثة، إلى التمزق والتدمير الذاتي الممنهج. أنا في النهاية مثل جدي الموريسكي الأندلسي الذي ورثت الكثير من مقولاته عن جدتي. كان يقول كل من أحرق حرفا لحقته لعنته. تكفيني لعنة الكتابة.
الكتابة ضرب من الإدانة بماذا تشعر عندما تتأهب للبدء بكتابة نص جديد؟
مثل الذي يتهيأ لليلة حب. أتعلم كيف أدافع على حقي في بعض الأنانية والعزلة والخوف وحتى دفع الثمن عند الضرورة. خيار مدهش يكاد يشبه الكاتب فيه إلهاً، لكنه بدون سلطة سوى السلطة الروحية وخلق المصائر الصعبة والجميلة التي تقود في النهاية نحو الإنسان. الكتابة مع الممارسة تتحول إلى قدر مدهش وغريب. أنت تعرف سلفا أنها يمكن أن تقودك نحو تراجيديا غير مسبوقة، لكنك مع ذلك تذهب وراء قدرك حتى النهاية. حتى الموت. عندما وصله في غرناطة، خبر أن قتلة فرانكو وراءه، قال لوركا: لست شيئا. أنا مجرد كاتب. منحه القتلة مصيرا أكبر ليصبح جزءا من الذاكرة الجمعية الإنسانية. كلما تأهبت للكتابة شعرت بأن المتعة كبيرة ونتائجها يمكن أن تكون أكبر، لهذا أكتب كثيرا لكي أظل فقط في عمق متعة النص وجنونه.
كتابة رواية، ذلك أمر يشي بالجذر الفني للنص، والذي غالبا ما يتمثل في إنقاذ حبّ أو وهم أو أمل، من زوال حتمي، هل يمكنك البوح قليلا بما حاولت إنقاذه من خلال كتابتك؟
حاولت إنقاذ نفسي من جنون حقيقي في وضع لم يكن يسيرا. الكاتب هو مسار حياتي معقد فيه الأنا في عزلتها ولكن في تقاطعها مع الآخرين. هناك نوع من النصوص ترسم صورة عن عالم اندثر أو هو في طريقه إلى ذلك. كانت دمشق في نهاية السبعينيات بالنسبة لي، امرأة أحببتها لدرجة الجنون. سرقها البؤس الديني مني. هذا لم يمنع الحياة من أن تبلغ أفق هبلها حتى النهاية. لا قوة في الدنيا توقف الحب أبدا. عندما كتبت وقع الأحذية الخشنة رتبت أموري لكي أقول حبا كان يسرق من أبطالي، لكنهم ظلوا يصرّون عليه لدرجة التعرض لخطر القتل. كان في نيتي تثبيت حالة حب فيها الكثير من الجنون. لكني عندما أعدت كتابة النص بعد عشر سنوات: طوق الياسمين، عن نفس المشكل بصفاء، أبَّنت تجربة كان عليّ التخلي عنها وربما كنت في أعماقي أترحم على امرأة ولكن أيضا على مدينة وتجربة بكاملها عشتها في عز ألق الشباب. كل كتابة هي في النهاية تأبين لحالة مندثرة.
ماذا فعل سرفانتيس عندما كتب دون كيشوت؟ سوى أنه أبّن زمن الفروسية الذي أصبح سخرية في زمن غير زمنه. كلنا كروائيين خرجنا من هذا الجسم الهش وهذا الجنون الذي اسمه دون كيشوت الباحث عن عالم أفضل وأجمل.
بعض الروايات تشبه جردة لسيرة شخصية، أين أنت من ذلك؟
لا أعتقد أن النص الروائي هو هذا. السيرة الذاتية هي قرار مسبق أي أن يتخذ الكاتب قرارا أن يكتب حياته بكل تفاصيلها وفي هذه الحالة نعرف أن الأمر يتعلق بشيء له خصوصية كما يحددها الناقد فيليب لوجون سلفا في كتابه الميثاق السير ذاتي. لا أعتقد أنني كتبت سيرة ذاتية إلى اليوم، ربما لأني فشلت في فعل ذلك. حاولت كتابة سيرة: عشتها كما اشتهتني ولكني أخفقت. ربما لأني رفعت سقف السيرة الذاتية عاليا، وقلت إما أن أكتب سيرة في مسار ونمط ونموذج نيكوس كزانتزاكي: تقرير إلى غريكو، أو لا داعي. ليس المهم أن تحكي حياتك، الأهم هو أن تجعل من حياتك نصا معشوقا. عندما أقرأ تقريرا إلى غريكو ترتفع عاليا قيمة الإنسان وعظمته ونضاله وشعريته وإبداعيته وثقافته وجنونه وشهامته وهشاشته وفنه، هذه كلها عناصر تجعل من السيرة بنية فنية بالدرجة الأولى. لهذا لم أحاول كتابة السيرة. طبعا كتبت نصا مرتبطا بخروجي من الموت مؤقتا. لأن كل خروج هو فسحة فقط للموت النهائي وكنت مصرا على كتابة حياتي فكتبت نصا روائيا فيه الكثير مني: أنثى السراب، جار الآداب 2010 الذي قلت فيه ما كان من داخلي من حنين وأشواق. كنت أريد من النص أن يكون حميميا. لكنه لم يكن سيرة.
الالتزام، كيف تراه، وكيف تعاملت معه من خلال ما كتبت؟
كل وضع يفرض التزاما معينا وبشكل ما من الأشكال. ولكن يجب أن نخرج الكتابة من الدائرة السياسية الضيقة. الالتزام عند ألبير كامو وسارتر والمدرسة الروسية في الأربعينيات اتخذ هذه الصيغة وأثر عالميا. وكثيرا ما كان ذلك على حساب أدبية النص. أعتقد أنه يمكننا اليوم أن نقرأ قصة حب، لا علاقة لها بالسياسي مباشرة، ونجد أنفسنا متعلقين بالحياة بقوة ونناضل من أجل تغييرها. عندما كتبت رواية سيدة المقام عن راقصة بالي قاومت القتلة من الإسلامويين لم يكن أمامي شيء آخر سوى الدفاع عن حق الإنسان والمرأة تحديدا في أن تكون حرة وترى الحياة كما تشتهيها لا أن يفرض عليها نموذج قروسطي. قال بعض النقاد في الجزائر وقتها: كيف يكتب واسيني عن الرقص والموسيقى في وقت يموت فيه الناس يوميا بسبب الإرهاب؟ ونسوا أن الانتصار للموسيقى والباليه هو انتصار للحياة في النهاية وليس شيئا آخر. وعلى الرغم من المنع ومخاطر الموت، تؤدي رقصة ريمسكي كورساكوف ألف ليلة وليلة. وتموت من أجل الحياة وحريتها. الحرية هي رهان الكتابة الأسمى ولا شيء غير ذلك.
الحداثة، السؤال الحاضر دائما، كيف رأيتها؟ وكيف تجلت من خلال أعمالك؟
الحداثة هي دائما رهان حضاري لمقاومة أشباح حاضر كل يوم يموت قليلا ويفرض علينا رهانات مستقبلية معقدة وعلينا أن نعرفها، ولا قوة لترميمها إلا الانخراط في الحداثة من حيث هي سؤال دائم التحرك والتجدد. كلما كتبتُ رواية أطرح سؤالا واحدا على نفسي: إلى أي مدى كنت منخرطا في عصري الذي أعيشه أو أحاول بقوة وشراسة وارتباك وهشاشة والانتصار الدائم للإنسان كقيمة وليس لما يرجعه إلى الوراء؟ عشت شرطية الإسلامويين القاسية وعرفت عن قرب أنهم لن يأتوا بجديد سوى تقديم خدمة جليلة لأعداء التقدم برمي المجتمع العربي نحو التخلف والنقاشات البالية والرثة وإدخال العرب في عمق الصراعات الاثنية والدينية واللغوية، ولا يُنتظَر أي شيء منهم اليوم. يتغير الإسلامويون يوم يقفون أمام تاريخهم الدموي وينتقدونه بصرامة، ويصححون أخطاءهم وينخرطون فعليا في العصر. من السهل انتقاد الغرب ولكن من الصعب هز اليقينيات الداخلية. تجربة مصر مثلا بيّنت أن الحركة الإخوانية تعيش عجزا كبيرا في الأفكار والمفاهيم والثقافة وانتقاد الذات. ما الفرق بين إسلاميي مصر في السلطة ومبارك في النهاية؟ في قضايا العصر والتحرر وفلسطين؟ هذا ينطبق على كل الحركات الإسلاموية. كل من يعادي الحداثة هو معاد للتاريخ لأن الحداثة منجز بشري في النهاية اشترك فيه العرب برصيدهم وتاريخهم. أصبحت أقلق كثيرا من كلمة أصالة لأنها كثيرا ما خبأت عنصر التثبت في عمق التخلف. الحداثة ليست نفيا للتاريخ والخصوصية مطلقا.
ماذا تكتب الآن؟
أنهيت رواية جديدة حول فكرة العزلة ومخاطرها في عز الحروب الأهلية وما بعدها من خلال حياة عائلة عربية متعددة الأطراف والقناعات، لأن المكان مموّه وغير محدد عن قصدية مسبقة. عنوانها مملكة الفراشة. ستصدر في شهر جوان في سلسلة مجلة دبي الثقافية، وتصدر في جويلييه، في بيروت، في دار الآداب لتكون جاهزة في معرض الكتاب بالجزائر ومعرض بيروت. وتنشر في شهر سبتمبر في دار الفضاء الحر بالجزائر. كما أقوم حاليا بترجمة أهم رواية أنجبتها البشرية لتؤكد لنا في كل مرة أن العالم متغير وأن خياراتنا للحداثة ليست عبثا: دون كيشوت. أعتقد أن هذا الروائي العظيم هو جدنا الأبدي نحن الروائيين. أترجمها إلى العربية. منشغل بها منذ سنوات لا كمترجم محترف أو جامعي، ولكن كهاو وعاشق. هذا عملي في هذه الايام العربية القلقة التي لا تبشر بخير أبدا. أنا شخص لا يريد الانتفاء إلا داخل فعل الكتابة. كل رواية أكتبها هي توسيع لأفق الحرية وإلا لا قيمة لها.
التعليقات (0)