مواضيع اليوم

حَمِية الجاهلية

إبراهيم أبو عواد

2014-04-25 03:45:51

0

 حَمِية الجاهلية

 

من كتاب/ الأساس الفكري للجاهلية

 

تأليف: إبراهيم أبو عواد 

 

..................

 

     قال اللهُ تعالى : ] إِذْ جَعَلَ الذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [ [ الفتح : 26].

     والحميَّة ههنا تعني العزة بالإثم والتكبر والرفعة الممقوتة . وهي إحدى الخِصال الرئيسية لحقبة الجاهلية . فهذه الخِصلةُ المذمومة هي حِجاب يمنع وصول نور الحقيقة إلى القلب ، وبالتالي فإن المرء يَسقط في مستنقع الهوى والعصبية والتشنج، فيتحول من كائن عاقل ناضج إلى كائن غريزي هائج، لا يضع الأمورَ في نصابها الصحيح ، ولا يُدرك أهمية العقل في تصحيح المسار الواقعي .

     وفي صحيح البخاري ( 2/ 974 ): (( وكانت حَمِيَّتهم أنهم لم يُقِرُّوا أنه نبي الله _ أي النبي محمد صلى الله عليه وسلم _، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت )) .

     فهذه الغطرسةُ ، والتكبر على الحق ، ورفض الإيمان عناداً وعنجهيةً ، كلها قيم جاهلية شَكَّلت فلسفةَ المشركين في التعامل مع المؤمنين . وتتجلى خطورةُ الحميَّة في كَوْنها مانعاً يَحول بين الحق والقلوبِ، مما يؤدي إلى انحراف الناس عن المنهج الإيماني القويم ، والركون إلى تطرفهم العقائدي، وسوءِ أخلاقهم ، وعدمِ موازنتهم للأمور . فبسبب اعتدادهم الأعمى بأنفسهم ، وتقديسهم لبيئتهم الوثنية، وتعظيمهم لتاريخهم الأسود يَرفضون طوقَ النجاة ، ويواصلون الغرقَ ، غير شاعرين بالكارثة التي يَرتعون فيها .

     قال سيد قطب في الظلال ( 26/ 115 ): (( وهذه الحميَّة إنما هي حميةُ الكِبْر والفخر والبطر والتعنت ، الحميَّة الجاهلية التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، يمنعونهم من المسجد الحرام، ويحبسون الهدي الذي ساقوه أن يبلغ محله الذي يُنحر فيه، مخالفين بذلك كل عرف وكل عقيدة، كي لا تقول العربُ : إن محمداً دخلها عليهم عُنوة . ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عُرف ودين ، وينتهكون حُرمة البيت الحرام الذي يعيشون على حساب قداسته ، وينتهكون حُرمة الأشهر الحرم التي لم تُنتهك في جاهلية ولا إسلام )) اهـ .

     إن هذه الحمية الآثمة وُلدت من رحم الاستكبار وازدراء الحق ، وولَّدت جيلاً غارقاً في رفض الحقيقة الحاسمة . إذ إن سيطرة الرفعة والعلو بغير الحق على العقول والممارسات والسلوكيات نتج عنه قيم مضادة للحق المطلق. والسلوك المنحرف اخترق الوجودَ الإنساني من كل الجهات، فجعله هشاً قابلاً للتمزق الذي صار مصير الإنسانية المحتوم .

     وقد كان المشركون غارقين في حمية الجاهلية، وعقلية رفض الحق ، وعدم تقبله. فلم يتعودوا على الاعتراف بالذنب أو الخطأ، والرجوع إلى الصواب، لأن تربيتهم قائمة على العناد والمكابرة ، وتقديم الأهواء على الحقيقة بدون وجود منهج عقلاني مستقيم يتعامل مع طبيعة السلوك الاجتماعي من ناحية الإيجاب أو السلب . 

     وفي يوم أُحد اتضحت _ عند المشركين _ معالم حمية الجاهلية ، والتكبر ، ورفض الإذعان للحق المتجسد في الرسالة النبوية. وقد بدا ذلك واضحاً على سَيِّد قريش، وزعيم المشركين _ آنذاك_، أبي سفيان بن حرب .

     فإذا أبو سفيان يَصيح في أسفل الجبل : أُعْلُ هُبَل ، أُعْلُ هُبل ، يعني : آلهته. أين ابن أبي كبشة ؟ ، أين ابن أبي قحافة ؟ ، أين ابن الخطاب ؟، فقال عمر : يا رسول الله ألا أجيبه ؟ ، قال : (( بلى )) ، فلما قال : أُعْل هُبَل ، قال عمر : الله أعلى وأَجَلُّ ، فقال أبو سفيان : يا ابن الخطاب ، إنه يوم الصمت. فعاد فقال : أين ابن أبي كبشة ؟، أين ابن أبي قحافة ؟ ، أين ابن الخطاب ؟، فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، و ها أنا ذا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، الأيام دُوَل ،  والحرب سِجال، فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ، قال : إنكم لتزعمون ذلك ، لقد خِبنا إذن وخسرنا ، ثم قال أبو سفيان : أما أنكم سوف تجدون في قتلاكم مُثلة ، ولم يكن ذلك عن رأي سُراتنا ، ثم أدركته حَمِيَّةُ الجاهلية ، فقال : أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه {(1)} .

     وتتجلى الحمية الجاهلية في عقلية أبي سفيان حينما رفض الاعتذار عن التمثيل بجثث قتلى المسلمين ، فقد أخبر أن هناك مثلةً ، لكنها لم تصدر عن رأي سُراة المشركين _ أشرافهم _ ، ومع هذا فلن يكره المشركون عملية التمثيل بالجثث ، وهذا انعكاس للحمية ، حيث أخذته العزة بالإثم ، وساند قومَه في إثمهم تعصباً للشرك والقبيلة والعقلية الجاهلية ، ولم يعتذر عن فعل ذلك .

     والإفرازات السلبية المنضوية تحت عناوين التكبر الممقوت هي تشكيل يرمي إلى تقطيع أوصال الجماعة ، عن طريق توليد تصنيف يقسم الناس إلى عبيد وسادة . ويصبح السادة يفكرون ويتخذون القرار نيابةً عن العبيد الذين لا وزن لهم . ومهما اقترف السادة من آثام فإنها مُبرَّرة ومُصانة ، لأنهم يتمتعون بحصانة جمعية . أما العبيد فهم الذين يدفعون الثمن في كل الأحوال .

     وهكذا كان أعداءُ الدعوة الإسلامية التي حملها الأنبياء _ عليهم الصلاة والسلام _ من عِلْيةَ القوم، لأنهم خافوا على امتيازاتهم الظالمة ، ونفوذهم المبني على ظهور العبيد المشققة من أثر السياط . أما العبيد فلم يكن لهم دور سوى الاتباع والرضوخ لأمر صاحب السوط. وهذا لا يُعفي العبيد من المسؤولية ، فقد كان عليهم أن يثوروا من أجل الحق ، وأن يكسروا السَّوْط . وبالطبع ، فقد كان هناك ثائرون امتلكوا الشجاعة لرفض الباطل واعتناق الحق ، ودفعوا الثمنَ غالياً . وهذه التضحية لم تذهب أدراجَ الرياح ، بل زادتهم إيماناً ورِفعةً في الحياة الدنيا والآخرةِ . وعلى مدار التاريخ لا تكون المواقف المشرِّفة مجانية، بل لها ضريبة كبيرة ، لا يدفعها إلا الرِّجال الحقيقيون .     

     وهذه الحمية _ حمية الكِبْر والتعنت _ جعلتهم يعتقدون أن بيت الله الحرام مُلكٌ شخصي ، أو عَقار يشترك في مُلكيته القبائل المتنفذة . ويا له من اعتقاد فاسد أوردهم المهالك ، وجعلهم يتصرفون بكل وقاحة وعنجهية . فقد منعوا المؤمنين الصالحين من المسجد الحرام ، وحبسوا الهديَ أن يبلغ محله . وإنه لتصرف أخرق موغل في التعنت وغير مسبوق. فلم يكن أحد يجرؤ على اقتراف هذا الفعل الدنيء المخالف لعقائد الجاهلية فضلاً عن عقائد الإسلام السمحة والتي تسمح للمخالفين عَقدياً بممارسة شعائرهم بكل حرية ضمن الضوابط الشرعية التي ما جاءت للتقييد على الناس بل لتنظيم أعمالهم .

     إن الفعل الجاهلي يجسد الطموح التوسعي لكسب مزيد من الامتيازات ، ومزيد من السيطرة على الأماكن المقدَّسة . وليس أدل على ذلك من حادثة وضع الحجر الأسود الذي كادت القبائل أن تتقاتل على وضعه ، وتنشب بينها حروب ، لولا حِكمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .

     قال ابن إسحاق : إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها . كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا للقتال لعقة الدم، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب ابن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسُموا لعقة الدم، فمكث قريش أربع ليال أو خمساً . وجاء الرأي من أحدهم أن اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا رأوه قالوا هذا الأمين رضينا{(2)}.

     فتعظيمهم للكعبة المقدَّسة مشوب بتحقيق نفوذ أوسع ومكاسب قبلية ذاتية، وتحقيق سمعة ومجد ورفعة بين القبائل . فالكائن الجاهلي كان هاجسه تحقيق الرفعة والمجد لكي يتيه فخراً على أقرانه، وهكذا كانت القبائل تتعامل مع المقدَّسات.

     إن طريقة التعامل مع المقدَّس المبنية على أساس باطل من الفخر الدنيوي تختصر كلَّ طموحات الإنسان الجاهلي الخام غير المصقولة والمهذبة . والتنويعات الفلسفية تبزغ من جديد في رحم تُفرِز فلسفةً جديدة قائمة على النفعية . ولا يهم _ حسب التصور الجاهلي _ كيف جاءت المنفعة . المهم أنها جاءت وانتهى الأمر. لأن الثقافة الوثنية المشوَّشة ليس لها قواعد أخلاقية شرعية تكون دستوراً لحياة الفرد .فالغاية تبرر الوسيلة مذهبٌ جاهلي صرف تم إفرازه كنتيجة طبيعية للظلم واضطهاد الآخر، وتم تطبيقه قبل مجيء ميكافيللي {(3)} بقرون طويلة .

     والتوظيف التأسيسي للعقيدة الجاهلية في المجالات الحياتية يعد النواة المكوِّنة للتشكيلات الوجودية المتعلقة بالفرد والقبيلة . إن الفرد الجاهلي يطرح أسئلته الوجودية بينه وبين نفسه دون أن يجهر بها مخافة بطش السُّلطة الحاكمة، لكنه_للأسف_ لا يجد غير الشك والريبة اللذين يتلاعبان به ويوجهانه في الطريق المشوَّش ، وبما أنه قد استمرأ المشي في هذه الطريق المظلم ، فلن يشعر بقيمة النور ، لأن المحجوب عن ضوء الشمس يظن كل من حوله خفافيش .

     إن  الأيديولوجية  النفعية  المكرَّسة ، والتي يتم  إعادة  بلورتها  كلما استجدَّت الظروفُ تقوم بدور حيوي وهام من أجل تعميق الفجوة السياسية والاجتماعية داخل القبيلة الواحدة . فالوجود القمعي ذو الصبغة الفلسفية في السياسة الجاهلية ليس بأكثر من محاولة حثيثة لتكريس التخلف وتغييب المعاني الثورية وتثوير المعنى . فالحياة في التجمع الطارد للإبداع ما هي إلا صورةٌ قاتمة لحالة الانحسار المعرفي الذي يتفاقم أو يُراد له أن يتفاقم. وهكذا يتجسد الوصول إلى المعرفة في صورة موغلة في القمع والاضطهاد .

     ونفي المعاني السامية هو الخطوة الأولى في طريق مقاومة التطور الاجتماعي ، والأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى تأسيس صيغ متخلفة وتقديمها كأساس متجذر غير دخيل في القيم السلوكية المسيَّسة . وهذا الإرباك الأيديولوجي نتاج طبيعي وثمرة متوقعة للارتباك في البُنى المؤسَّسة على اللايقين العملي والنظري . وهذا يدعونا إلى البحث عن نشأة القوى المؤدلَجة الخاصة بالتيارات المضادة للمسيرة الجماعية في قلب التجمع القَبلي الذي تحدد قيمَه الروحية تشكيلاتٌ من القوى المادية ، لذا فإن الاقتصاد الجاهلي المتركز في أيدي حفنة قليلة من المتنفذين هو الذي يُسيِّر طبيعةَ العلاقات الاجتماعية، لأن المجتمع بدائي ومتخلف وغارق في الوثنية العمياء. وبالتالي فإن المادية المطبقة والمتغلغلة في العبادات والمعاملات تفرض كلمتها فرضاً رهيباً في اتجاه سير الجماعة البشرية .

     صحيحٌ أن هناك قيماً أخلاقية ومكتسبات قِيَمِيَّة سامية ، إلا أنها مجرد معاملات عابرة ذات أهداف دنيوية بحتة ناتجة عن توارث العادات والتقاليد ، وهيمنةِ الاعتيادية على السلوك الإنساني. أي إنها غير منتمية إلى شريعة سماوية عليا. وهكذا تتحول الجماعة إلى شكل آخر للانسحاب الاجتماعي المؤطَّر داخل براويز ذهبية خالية من المعنى والمفهوم البشري . لكن المنظور البنائي القائم _ أصلاً _ على تفكيك المدلولات السلطوية لا يمتاز بالقسرية والإجبارية فحسب ، بل يتعدى ذلك وصولاً إلى حالة من الاختلال الوظيفي ، حيث يغدو كل فرد نافياً للفرد الآخر ومضاداً له في طبيعة المعرفة الوظيفية ، بسبب استغلال الكائن بحثاً عن تمايز خلاق غير موجود إلا في الأذهان ، لأن ما بُنِيَ على الخيال المرَضِيِّ لا يجد له منفذاً إلى النور الواقعي .

     إن الحمِيَّة انعكاس لإشكاليات الوهم المرحلي المتجذر في طبيعة السلوك الإنساني السلبي الذي يفرض على القيم البشرية انتهاج طريق مناوئ للعدالة والحق والعقلانية . وبالتالي تختفي الحقيقة في زحمة إرهاصات التعصب الأعمى ، والخضوعِ للمعطيات الجاهزة المفروضة على السياق الإنساني بحكم قوة رابطة الدم ، لأن الحمية _ كمفهوم سلوكي وبنية معرفية _ هي تجسيد لقوة الرابطة العائلية التي تتكرس كمبدأ وجودي حاسم بغض النظر عن الشرعية المنطقية أو عدمها .

     ووفق هذه المعقوليات الذهنية المعادية للمعقوليات الواقعية ، تحال قيم العدالة والشرف والحق إلى مبادئ فضفاضة محكومة بالولاء الديني للتيارات الوثنية ذات الصبغة السياسية المجتمعية .

     أي إن السلوكيات الأخلاقية تغدو مفردات نسبية لا مطلقة ، فتكتسب القيمةُ الأخلاقية معناها من اتجاه القبيلة وعنصريتها وكيانها الذاتي دون اعتبار للحقيقة. لذا تصبح " الحقيقة " مادةً إعلانية دعائية تأخذ معناها وحدودها من رؤية الجماعة البشرية القاصرة . وهذه المسألة بالغة الخطورة ، لأنها تنتج منظومةً أخلاقية فوضوية نسبية لا مطلقة ، ومحكومة بالأهواء الشخصية ، والاعتباراتِ السياسية المصلحية .

     فالمبدأ الأساسي الذي يحفظ تماسكَ المجتمعات ينبع من التمحور حول الأخلاق كقيم مُطْلقة ذات معنى ذاتي مستقل عن الأنساق البشرية الاستهلاكية . فلا يمكن تصور الكيانات الأخلاقية مثل : الحق ، العدالة ، الحب ، الكرم ، الشرف .. إلخ ، تتغير معانيها حسب الأهواء السياسية ، أو تنتقل ماهيتها من الموجب إلى السالب أو العكس وفق رؤية شيخ القبيلة وما ينبثق عنه ، لأن المصلحة الشخصانية حينما تتحكم بالقيم السلوكية التي تملك تاريخاً شرعياً ومصداقيةً في الذوات البشرية ، سوف تنتحر قيم الولاء والانتماء والإخلاص ، لأن الفرد _ حينئذ_ سيؤمن أن شمس الحق صارت عدوة له ، وتقوم بعملية حرق منهجي ، وعندها سيقاومها بكل قوة . فاختلاط المفاهيم وأدلجتها بشكل مصلحي نفعي سيحرق المجتمعَ ، لأن المخلِص يصبح خائناً ، والخائنَ مخلص . مما يؤدي _ بالضرورة _ إلى إنتاج جيل لا يؤمن بأية مرجعية إلا مرجعية الهوى ، وهذه المبدأ نجده بكثرة في سياقات الحياة الجاهلية ذات الإفرازات الطبقية متعددة المستويات . 

     فالإنسان عندما يقتنع بأن وجوده كعدمه ، والقاضي هو جلاده ، وقبيلته هي سجنه ، وأصدقاءه هم اللصوص الذين يسرقونه ، سوف ينسحب من الحياة لفقدانه الثقة بكل الأنساق الوجودية المحيطة به ، وهكذا يتكرس مجتمع العزلة ، والحواجز الذهنية والواقعية بين أفراد البيئة الواحدة .

     والحميةُ تجسيد طبقي ينزع إلى سلوكيات بالغة التعصب ، كما أن الماهيات الدينية والسياسية المنبثقة عن الحمية قد تداخلت مع الإشكاليات النسبية ، بحيث صار السلوك الإنساني يستمد شرعيته المفترَضة من سياسة الأمر الواقع ، ورؤيةِ عِلْية القوم ، لا القيمة المعنوية السامية .

     إن تجذر المبادئ النسبية الفضفاضة المتسعة للفعل ورد الفعل ، والفكرةِ ونقيضها ، أدى إلى تفشي الأضداد في المبادئ الأخلاقية ، فصار الذهن الفكري مشوَّشاً ، وعاجزاً عن صياغة منظومة قِيَمِية. الأمر الذي أفرز تياراتٍ سالبية معتمدة على الارتجال في تحليل الفكري ، والعصبية للذات العشائرية المهزوزة . لذلك تأتي الحمية تتويجاً لانكسار الفرد الجاهلي أمام شراسة العناصر المجتمعية المسيَّسة من أجل تعزيز مكانة الأسطورة في الأنساق الحياتية المعاشة .

     فالأساطير _ في كثير من الأحيان _ تخلق نوعاً من الحماية للأنظمة الطاغوتية ، وتوفِّر شرعيةً افتراضية للنظام السياسي القائم بحكم الأمر الواقع. ووفق هذه المعاني يقوم النظام السياسي الصحراوي في الجزيرة العربية بابتكار متواليات هندسية متكاثرة من الأساطير والميثولوجيا البدوية بُغية تعميق سيادة عِلْية القوم على العامة ، مما يضمن استمرار السلطة المالكة لأمور الناس في سدة الحكم ، وعدم تهديد مصالح الطبقة الحاكمة .

     وتأتي الحمية كاختراع بوليسي لإحاطة الإفرازات السياسية بالحماية ضد المناوئين ، وتشييدِ أنظمة الردع ضد الخارجين على قانون القبيلة . وبما أن الحمية الجاهلية هي إشكالية التعصب المبني على الانتماء الأيديولوجي شديد التكثيف والعدمية ، فإن ماهية الانتماء إلى السلطات الأبوية الحاكمة سوف تنتقل إلى فكر إقصائي يثبِّت الأنا كمركز ، وينبذ الأطراف بعد أن يتم تهميشها استناداً إلى سيف العادات والتقاليد .

     ومواصلةُ تسييس القيم الأخلاقية الذاتية ، ومحاولة توجيهها نحو نفي الهويات عن الكيانات الإنسانية ، وتأطيرها في نسغ يكرِّس الخديعة كبؤرة مركزية حياتية استقطابية . كل ذلك من شأنه نسف البناء المنطقي للموضوع الفكري التاريخي ، فيصبح الفردُ الجاهلي رجع صدى لتاريخ واهم يولد من تكثيف الخديعة ، انطلاقاً من تجذير البنى الأسطورية كرَحِم قادرة على صناعة أجنة الانكسار المعرفي الشامل.

     فليست الحمية ردة فعل عابرة . إنها ماهية إستراتيجية مستندة إلى خلفية أيديولوجية شرسة للغاية . وهذه الخلفية منقوعة في التكثيف اللاأخلاقي للسلوك الإنساني ، وحصرِ طاقة حركة الاندفاع البشري في خانة تمجيد الأصنام البشرية والحجرية ، وتأطيرِ الدافعية الإبداعية للأفراد في دائرة التبعية ، والتشييدِ الوهمي على تقاليد الآباء دون السماح بطرح الأسئلة على هذه التقاليد المتوارثة ، أو مساءلةِ الموروث ، أو نقدِ أفعال سدنة الموروث الجاهلي وحماته .

     إذن ، لا تتوقف فكرة الحمية عن سلوك بشري روتيني حسن النية ، بل هي منطلقة من فوضى حاكمة على شكل نظام حاكم . وهذه السياسات العابثة تنتج عصابةً حاكمة ، لذا فإن الطبقة الحاكمة في التجمعات الجاهلية الصحراوية عبارة عن مافيا إقطاعية وثنية ، ومجموعةٍ من العرَّابين الطامحين إلى حفظ ماء وجوههم ، وحمايةِ امتيازاتهم الشخصية ، والحفاظِ على نفوذ عائلاتهم وحاشيتهم .

     ومن أجل ابتكار سياج حارس محيط بالمكتسبات الشخصية لتجار العقائد الجاهلية ، تم توظيف الحمية في قالب التناحر القَبَلي ، والصراعاتِ المستحكمة بين سادة العرب بُغية توسيع دائرة السيطرة والنفوذ .

     وقد ساهمت ثقافة الصراع في توجيه المفردات الإنسانية السلوكية نحو تكثيف الأبعاد الاجتماعية للمعاني الفكرية. فلم يعد الفكرُ ممارسةً ذهنية مجردة ، بل أضحى فعلاً معاشاً ، وخطوةً أساسية بُغية تطبيق الثقل المعرفي على أرض الواقع .

     فالفروسية لا يمكن حصرها في دائرة سلوك الرجال الأحرار الشجعان ، لأنها  _ كمفهوم أيديولوجي مجتمعي _ انتقلت إلى فكرة ردع الأعداء ، وإعلاءِ صوت القبيلة بين القبائل عبر إظهار قوة الرجال الصناديد حماةِ شرف القبيلة .

     والكرم لا ينحصر في مفهوم الضيافة وحسن الاستقبال ، لأنه _ أي الكرم _ انتقل إلى مفهوم إعلاء شأن الفرد والقبيلة أمام الضيوف ، والقادمين من المجهول ، وذلك لكي يتكرس الرياءُ والسمعة بين كل القبائل ، ويزداد الفردُ سمعةً ، وتُصبغ القبيلة بصفة الكرم ، وتقديم المعونة .

     والخطابةُ لا تنحصر في دائرة الاعتناء اللغوي بالمعاني والألفاظ ، بل تنتقل إلى وسيلة قتالية لردع القبائل المنافسة وتعريتها من كل الفضائل ضمن ثقافة " البقاء للأقوى " . فيتم توظيف اللغة في الحرب الكلامية بين القبائل التي قد تنتهي بحرب فعلية ، أو قد تكون الحرب الكلامية تمهيداً لحرب حقيقية ، فتصير اللغةُ وسيلةً للردع ، وبث الرعب في نفوس الأعداء ، وإعلاء صوت القبيلة على الأنداد .

     والحميةُ الجاهلية هي ثقافة ملوَّثة تتجذر كَسُورٍ واقٍ ضد الأعداء، وسياجٍ وقائي يحمي الإنجازاتِ العشائرية ، ويُعلي من أمرها . فتغدو القيم الأخلاقية_ الإيجابية والسلبية _ أسلحةَ ردع شامل تُوظَّف لخدمة المسار العقائدي للقبيلة سياسياً واجتماعياً وثقافياً .

     والإسلامُ عندما جاء ، هدم عُبِّيةَ الجاهلية ( كِبْرها ) ، فانتزع الأحقادَ من النفوس ، وبثَّ روحَ التعاون والتواضع بين أفراد المجتمع ، ولم يَترك للحميَّة البائسة فرصةً للظهور بين الناس والتكاثر كالفِطر السام . وبالطبع ، لا تَظهر هذه الحميَّة إلا في المجتمعات التي يختفي فيها نورُ الشريعة ، فتُصبح تقاليد الآباء والعادات المتوارثة هي الشريعة التي لا يمكن الاعتراض عليها أو مجابهتها . وهذه الفلسفةُ الجاهلية تظهر بأشكال مختلفة في أزمنة متعددة ، وأمكنة عديدة . 

     وعن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أمَّا بعد أيها الناس ، فإن الله قد أذهب عنكم عُبِّيةَ الجاهلية _ يعني كِبْرها _ )){(4)}.

     فالكِبرُ لم يكن مستشرياً في المجتمع الجاهلي فحسب، بل كان أحد أعمدة الثقافة الجاهلية السائدة . وفي واقع الأمر، فلا معنى للكِبر والفخر بالآباء والنخوة المذمومة لأن الجميع من أصل واحد ( التراب ) ، والكلُّ إخوة . أمَّا باقي العناصر مثل الغنى والنسب الرفيع فهي أعراض طارئة . فالإنسانُ الذي أوَّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة ، وبين يدي ذلك يَحمل العذرة ، لا ينبغي له أن يتكبر أو تأخذه العِزَّةُ بالإثم . ومقياسُ التفاضل بين الناس قائم على التقوى . فالتقيُّ هو الشريف ، والعاصي هو الوضيع ، بغض النظر عن المستوى العلمي أو الطبقة الاجتماعية .

     ومن وصية أبي بكر الصِّديق ليزيد بن أبي سفيان_ رضي الله عنهما _ حين وَجَّهه لفتح الشام : (( فَإِيَّاكَ وَعُبِّيةَ الجاهلية ، فإن الله يُبغِضها ويُبغِض أهلَها )){(5)}.

     وهذا يدل على خطورة " عُبِّية الجاهلية " ، وضرورة التحذير منها . فخليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكرها في وصيته لقائد عسكري متوجِّه لفتح الشام . مما يشير إلى خطورة الكِبر والعنجهية الجاهلية على مجريات الأمور، ومسارِ الأحداث العسكرية، ومعنوياتِ الجند، والعلاقةِ بين المسؤول والرَّعية . ولو لم تكن هذه القضية شديدة الخطورة لما تم التحذير منها في هذا الظرف الحساس ( ذهاب الجيش لفتح الشام ) .

     وفي صحيح مسلم ( 3/ 1476 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((...ومن قاتل تحت راية عُمِّية، يغضب لعُصبة، أو يدعو إلى عُصبة، أو ينصر عُصبة ، فقُتِل ، فقِتلةٌ جاهلية )) .

     فهذا القتالُ نابع من شهوة النَّفْس ، والعصبيةِ البغيضة للقوم والهوى، والتطرفِ الأعمى . وليس قتالاً نابعاً من الحق سائراً على هدى وبصيرة . فالذي يُقاتِل بهذه الصورة العمياء إنما غضب لنفسه ، ولم يغضب من أجل الله تعالى . وكلُّ هذه التضحيات وبالٌ على صاحبها ، لأنها كانت في سبيل الشيطان .

     وهذا التصويرُ النبوي للأحداث هو تلخيص للحالة الجاهلية التي كانت سائدةً بين العرب الذين يبذلون أرواحَهم من أجل نصرة القبيلة، وأهواءِ النَّفس ، والحفاظِ على ميراث الآباء ، دون أدنى اهتمام بمعرفة طريق الحق والالتزام به .

..............الحاشية......................

{(1)} رواه الحاكم في المستدرك( 2/ 324 )برقم ( 3163 )وصححه،ووافقه الذهبي.

وقال الحافظ في الفتح ( 7/ 352 ): (( قال ابن إسحاق حدثني صالح بن كيسان قال: خرجت هند والنسوة معها يُمَثِّلْنَ بالقتلى، يجدعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هند من ذلك حزماً وقلائد، وأعطت حزمها وقلائدها أي اللاتي كُنَّ عليها لوحشي جزاء له على قتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتْها )) .

{(2)} انظر السيرة النبوية لابن هشام ( 2/ 18و19 )، وتاريخ الطبري ( 1/ 526 ).

{(3)} نقولا ميكافيللي ( 1469م _ 1527م ) . ركز تعاليمه على مبدأ " الغاية تبرِّر الوسيلة " وفيه ينصح الحكامَ والأمراءَ بأن يلجأوا إلى أية وسيلة للحفاظ على سُلطتهم، ولو كانت هذه الوسيلة مؤذية . من أبرز إنجازاته كتاب " الأمير " .

{(4)} رواه ابن حبان في صحيحه( 9/ 137 )برقم ( 3828 ). وقال الحافظ في الفتح ( 6/ 527 ): (( ورجاله ثقات))اهـ.وقال ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الأثر ( 3/ 369 ) عن عبارة " عُبِّية الجاهلية " : (( يعني الكِبْر وتُضَم عينُها وتُكسَر . وهي فُعُّولة وفُعَّلية ، فإن كانت فُعُّولة فهي من التَّعْبِية ، لأن المُتَكبر ذُو تكلُّف وتَعْبِيَة خلاف من يَسْتَرسِل على سَجِيَّتِه . وإن كانت فُعِّيلة ، فهي من عُبَاب المَاء وهو أولُه وارتفَاعُه )) .

 

{(5)} جمهرة خطب العرب ( 1/ 197و198 ) .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !