حَبَنْظَل بَظاظاْ الفصلُ الثاني
حتى تتصوروا أيها السادة مُجْريات الحِكاية.
لابُدَّ من وصفِ المكان الذي شهدَ أحداثَ الرواية.
القاعَةُ الكبرى في قصرِ السلطانِ المعَظَّم، الذي هو أنا.
خنزيرٌ بدينٌ جَلَسَ على كرسي العرشْ، والخنزيرُ وليسَ الكرسي، هو أنا.
يقفُ على رأسِ الخنزير بَبَّغاء، وترقدُ بين قدَمَيهِ حِرباء.
واللتانِ هما أنا.
بالقربِ منهم يقفُ السَيَّافُ حاملاً سيفهُ.
وتصوروا...السَيَّافُ أيضاً هو أنا.
الخنزير:
حينَ وَلَدَتني أُمي ورأتني أَخرُجُ من بينِ فَخذيها.
دَفَنت عينيها تحتَ الوسادة، وكانت آخِرُ مرةً تَلمسني فيها.
لم يُصدِّق أحد بأنَّ كُلَّ الحُسْنَ والجمالَ اللَّذانِ كانا لأُمي.
يمكنُ أن يُنتِجا مخلوقاً بَشعاً مشوهاً مثْلي.
رفضت أُمي رفضاً قاطِعاً أن تُقرِّبَني إلى ثَديَيِها.
وكانت كُلَّما سمِعَت بُكائي وصُراخي، تصُمُّ أذنيها.
أَوكَلَت أمرَ رِضاعتي لجارِيةٍ أرمَلَةٍ عظيمَةُ الثديَين.
التي كانت تستلقي على ظهرِها، وتضعُني فوقَ بطنها.
وتتْرُكُني طوالَ النَهار أمتصُّ نبعَينِ نَضِحَين.
ومع هذا كنتُ لا أشبع، أمُصُّ وأبلعُ كعلقةٍ وأمُصُّ وأبلعُ ولا أشبع.
جَفَّفتُ ثديَيِها وشَقَقْتُ حُلْمَتيها، ولم أشبع.
الببَّغاء:
حينَ كَبِرْتُ أيها السادة.
تزوجتُ من تلك الجارِية، لِأرُدَّ لها حليبها.
لا تستغرِبوا، فهيَ لم تكن يوماً أُمي، ولم أكن أنا رضيعُها.
فحدُّ الإحرام هو خمسُ رَضعاتٍ مُشبِعات.
وأنا لم أشبع منها، حتى صُرتُ حليلُها.
الخنزير:
حارت أُمي كيف تُشبعُني، في حِرصِها على وحيدِها أن يعيش.
أَرضَعَتني حليبَ الكِلابِ والخنازيرِ والحمير، والذئاب والرجال والخفافيش.
وفعلا عِشتُ وكَبِرْتُ بعدَ ما أضنيتُ الجميع.
فالسماءُ أرادت ليَ الحياة، لتجعلَني راعيَ القطيع.
الحِرباء:
كنتُ أتسَلَّلُ إلى غرفةِ نومِ أُمي، وأنتظرُ قابعاً تحتَ السرير.
هذا الذي كانت تُعقدُ فوقَهُ المؤتمرات، وتُمررُ المؤامرات.
وتُخْلَعُ سراويلَ الحرير.
وكم كنت أتلَذَّذُ بسمَاعِ معزوفَةَ الآهات، خاصَّةً مقْطعَها الأخير.
وبعدَ أَن يسودَ َالصمت، أعلَمُ أنَّ أُمي قد عَزَلَت قائداً أو خَلَعَت أمير.
الخنزير:
حينَ أصبحْتُ شابّاً، أرادت أُمي أن أكونَ فارسَ الفُرسان.
فأجبرتني وأبي على ركوبِهِ، لِنلعبَ معاً لُعبةَ الفارسِ والحِصان.
وما أن أتقنْتُ طريقةَ ركوبَ أبي، حتى خَلَعَت عليَّ لَقَبَ الفارسَ الذهبي.
وطلبت مِنَ السلطان المعَظَّم أن يُعَيِّنُني في سِلاحِ الفُرسان.
الذي سُرعان ما أصدَر أمرَهُ وهو يغتسلُ في الحمَّام.
وملأْتُ فَمَ الحاقدِين والمتربصين والمتفيهقين والمتحذلِقين.
بحِفنَةٍ من طين.
صحيحٌ أنّي لم أقدر على رُكوبِ الحِصان بالقفزِ فوقَهُ كما يفعلُ الفُرسان.
بل كنتُ أتعلقُ بِذَيلهِ وأتسَلَّقُ ظَهرَهُ، ثُمَّ أربُطُ خَصرِي بالعنان.
وصحيحٌ أني لم أستطع حمْلَ السيفَ الذي يحمِلهُ الرجال.
بَل عَلَّقْتُ سكيناً صغيراً تدَلَّت من رقبَتْي كالسِلسال.
لكن، كُلَّ هذا لاَ يَهُم، المهمُ هو أنّي أصبحْتُ سيَّدَ القوم.
الببَّغاء:
لقد كانت أُمي تفتحُ أمامي كُلَّ الأبوابَ المُؤصدة.
وتمهدُ ليَ الطريقَ نحوَ الأمجادَ المُرصدة.
صحيحٌ أنها حَرمتني حليبها ووهبتْهُ للسلطان.
وكرهتني وكرِهَت أبي، وأحبَّت المالَ والجَّاهَ والسلطان.
إلا أنها لو ما فعلت ما فعلت، ما كنتُ الآنَ في هذا المكان.
ولولا أنْ ضَحَّت، ما أَمسَيْتُ سَيَّدَ هذا الزمان.
ألا تَرَون معي أنَّهُ مِنَ الواجبِ مكافأةَ أمّي على ما فَعلَتْهُ من أجلِ وحيدها.
أليس عيباً أن أكون عاقّاً بالعجوزِ التي ما حَرمتني شيئاً إلا حليبَها.
يجبُ أن أُضَحي كما ضَحَت، وأبذلُ كما بذَلَت كي تفخرُ أخيراً بعِظَمِ صنيعها.
الحِرباء:
أليس من البديهي، بَل مِنَ ألازمِ أن تكونَ التضحيةُ على مستوى القضية.
عليَّ أن أتألَّمَ وأُقاسي، أضعافَ ما عانَتهُ هذه العجوزُ الغيرية.
وأيُّ ألمٍ وأيُّ مرارٍ آلَمُ وأمَرُّ من فُقدانِ الأُم.
إنهُ أبشَعُ من اجتثاثِ الأطراف، بَل حتى من تَجرُّعِ السُم.
إنَّ الفداءَ أيها السادة، لا بدَّ أن يكونَ على مُستوى الفادي.
وحَبَنْظَل بَظاظاْ رجلٌ ليسَ كَباقيَ الرجال، إنهُ رجلٌ غيرُ عادي.
يا سَيَّاف، اقطَع رأسَ أُمّي، لكن ترَفَّق، فالدَمُ الذي سيسيلُ هو دَمي.
البَّبغاء:
أرأيتم...أرأيتم أيها السادةُ عَظَمَةَ ما صنعت.
وأيُّ قُربان قَدَّمْت.
وأتحداكم...أتحداكُم أن يستطيعَ أيَّ واحدٌ منكم أن يفعلَ مثلَ ما فعلْت.
ويُضحِّي بنصفِ ما ضحَّيْت.
طبعاً هذا بديهي، أنا لستُ كأيَّ واحدٍ منكم.
أنا حَبَنْظَل بَظاظاْ.
وللحديثِ تَتمَّة
التعليقات (0)