حين يكون الجنس هاجساً
للدكتور تركي الحمد
في كتابه الجميل "حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية"، يروي الدكتور حسين أحمد أمين الطرفتين التاليتين. الطرفة الأولى تقول أن شخصاً مضى به أخوه إلى طبيب نفسي ذاكراً له أنه يرى الجنس في كل ما تقع عليه عيناه. فأقبل الطبيب يرسم له رسماً تلو آخر طالباً منه أن يذكر أول فكرة يثيرها الرسم في ذهنه: رسم دائرة فصاح الرجل: جنس! فمثلثاً فصاح الرجل: جنس! فمربعاً فصاح الرجل: جنس! فقال الطبيب للأخ: إن حالته خطيرة، فإذا المريض يهتف به: حالتي خطيرة أم أنت الذي ترسم لي رسوماً بذيئة؟! والطرفة الثانية تقول أن "صامويل جونسون" بعد فراغه من إعداد معجمه الشهير، دُعي إلى تناول الشاي مع سيدتين. وإذ هنأته السيدتان على معجمه، وأبدتا تقديرهما وارتياحهما لحذفه الكلمات الخاصة بالأعضاء والوظائف التناسلية، صاح جونسون بهما: قد كان أول ما فعلتماه إذن هو البحث في المعجم عن هذه الكلمات! كلا الطرفتين تحملان من المسكوت عنه الشيء الكثير. فذاك الذي لا يرى في الدائرة أو المثلث والمربع إلا أعضاء جنسية، إنما هو مريض بهجاس جنسي لا ريبة فيه، بحيث يتحول الوهم أو الرغبة الدفينة، إلى واقع لا علاقة له بالواقع المعيش. والنسوة اللاتي أعجبهن المعجم لفضيلته، كان هوس الجنس وراء البحث أولاً عن أسماء الأعضاء التناسلية في معجم يتجاوز الألاف في صفحاته.
والهجاس أو الهوس أنواع كثيرة، منها الهوس الديني مثلاً الذي يجعل المهووس يرى الصليب أو نجمة داود، أو غيرها من رموز "الكفر" في كل شكل من الأشكال، أو الهوس الإيديولوجي الذي يجعل المصاب به يرى أن مؤامرة تحاك ضده طوال الوقت، ومنها ما هو متحدث عنه هنا، أي هجاس أو هوس الجنس، بحيث يرى من تمكن منه هذا الهاجس الجنس، أو ما يقود إليه، في كل شيء وكل فعل وكل شكل من الأشكال، وذلك مثل أولئك الذين حرموا أن يجلس الرجل في مقعد المرأة حالما تغادر الأوتوبيس، لأن حرارة جسدها لا تزال عالقة بالمقعد، وفي ذلك إثارة كبيرة قد تقود إلى ما لا تٌحمد عقباه، أو الذين رأوا في برج القاهرة رمز إثارة للمرأة، وهذه قصص حقيقية رغم غرابتها، رغم أنه لم يعد هنالك ما هو غريب في عالم الأفتاء اليوم، بعد أن سمعنا بفتوى رضاعة الكبير، وغيرها من عجائب لا شك في براءة الدين منها.
المهم، طافت هذه الطرف في ذهني، وتلك الفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان، وأنا أرى ردة فعل البعض على مشروع حضاري متقدم سوف ينقل السعودية إلى القرن الحادي والعشرين بعزم وقوة، ويبشر بفلسفة تعليمية جديدة تقطع دابر ثقافة الإرهاب والعنف، ألا وهو جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، بترهات كلها تدور حول الجنس، أو هاجس جنس مضخم حقيقة الأمر، حتى أن الفقه تحول لدى البعض إلى فقه جنس في مجمله، بحيث أصبح الهم هو كيفية التفريق بين الذكر والأنثى، وكأن غاية الدين هي هذا الشأن ولا شأن غيره. فرغم أن الملك عبدالله أوضح في كلمته الإفتتاحية للجامعة، بأنها ستكون "بيت حكمة" جديد لنشر قيم العلم والتسامح والاعتدال، هذه القيم التي بدونها لا يكون الإنسان إنساناً، وبها ينتقل من عالم البهيمية إلى عالم الإنسانية والفعل الحضاري، إلا أن البعض ممن عشعشت أوهام الجنس في رؤوسهم، وفوبيا اجتماع "الذئب والنعجة" في أدمغتهم، والخوف من انفلات الأمر والوصاية على المجتمع من أيديهم، والذين اختزلوا قيم الدين إلى كراهية مرة لكل ما هو جميل وإنساني في هذه الحياة، وجعلوا العلاقة بين الرجل والمرأة موضع شك دائم، وخوف كامن، وأصبحت المرأة هي شغلهم الشاغل وقضية الساعة وكل ساعة، لم يروا في مثل هذا المشروع الحضاري إلا كارثة "اختلاط" لا ريب أنها ستؤدي إلى انتشار الرذيلة وتفشي الفساد، أما بقية الأمور الجميلة في مثل هذا الصرح الحضاري، من نشر قيم العلم وثقافة التسامح ومباديء الإنسانية، فإنهم لم يتعرضوا لها على الإطلاق، كل ما هو مهم لديهم هو فصل "الذئب" عن "النعجة"، فما الرجل في النهاية إلا ذئب متوحش في عرفهم، وما المرأة إلا نعجة مستضعفة في فهمهم.
الغريب في مثل هذا المنطق أن القائلين به، أو المهيمن عليهم هاجس الجنس وأوهام الشك، أنهم يفترضون أن ألاختلاط لا بد أن يقود إلى الرذيلة، وكأن المرأة لا إرادة لها ولا شخصية، بحيث تستجيب لكل داع وكل عابث، أو أن الرجل لا هم له إلا هم الجنس، بحيث ما أن يرى امرأة حتى يسيل لعابه، ويستعد للإنقضاض على فريسة متاحة، أما أن يكون هنالك علاقة إنسانية بين ذكر وأنثى، أو علاقة تعاون في مجال علمي أو ثقافي، دون أن يكون الجنس وارداً في الموضوع، فهذا ما لا يرد على أذهانهم، رغم أن واقع الإنسان في كل مكان يقول بغير هذه الأوهام وتلك الهواجس.
العالم، كل العالم بما فيه عالمنا الإسلامي، ليس لديه موقف من قضية الاختلاط هذه، بل ولا تشكل لديه أية قضية، لأن الاختلاط من طبيعة الأمور، ولم نسمع أن كل العالم أصبح ماخوراً أو ينخره الفساد والرذيلة نتيجة الاختلاط، فالفساد والرذيلة موجودة في كل مكان وزمان وليست قصراً على هذا المكان أو ذاك الزمان، ولكنها تبقى ظاهرة غير عامة، مثلها مثل الجريمة وغيرها من سلوكيات منحرفة. أن تعالج الرذيلة بالتعسف في الفصل بين الجنسين، قد يؤدي إلى فساد أكبر، فحين يتحول المجتمع إلى كيان غير طبيعي، يتعسف في الفصل بين الجنسين، فإن من المتوقع أن تنتشر فيه السلوكيات المنحرفة أكثر من غيره من المجتمعات ذات الصفة الطبيعية، وهذا ما أكد عليه كثير من علماء الاجتماع الذين درسوا المجتمعات المنغلقة والمنفتحة على السواء، فوجدوا أن المجتمعات المهووسة يشيء ما، مثل العلاقة بين الجنسين، تكون معرضة لما تحاول أن تمنعه أكثر من تلك التي تكون فيها الأمور على طبيعتها. فمثلاً في عهد الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، كانت "الصرامة الأخلاقية" هي عنوان المرحلة، فكانت الفضيلة الأخلاقية هي شعار الدولة، وكان لها حراسها والمحافظين عليها.
ولكن رغم كل هذه الصرامة، كانت العلاقات الجنسية المحرمة بين الجنسين تشكل سلوكاً عاماً بعيداً عن أعين الرقباء وحراس الفضيلة، بل حتى أن هنالك من الشائعات التاريخية ما يقول بأن ذات الملكة كان لها العديد من العشاق، وكذلك حراس الفضيلة أنفسهم. فالفضيلة في النهاية، أخلاقية كانت أم غير ذلك، هي مسألة قناعة ذاتية، وإحساس يملأ النفس ويهيمن على الروح، وليس تعليمات وأوامر تُفرض على الذات. فإذا لم تكن القناعة الذاتية متوفرة، فإن الفرض المبالغ فيه قد يؤدي إلى عكس المرجو، وهو كذلك يفعل. الاختلاط بذاته ليس أمراً مستهجناً ولا بوابة حتمية للرذيلة، ففي كل العالم، وفي أيام حضارتنا المنسية، لم يكن الاختلاط قضية حتى جعله البعض قضية، إما لموقف فكري معين ليس من الضروري أن يكون هو المعبر وحده عن الحقيقة، وإما لغاية أخرى في نفس يعقوب قضاها. ولو كان الاختلاط هو المدخل إلى الرذيلة والفساد، لما رأينا فتياتنا يذهبن إلى الدراسة في الخارج، ويتعاملن مع زملاء من الذكور في كل مكان، ويعدن وهن في كامل عفافهن وشخصيتهن المصقولة بالعلم والثقافة.
بل لو كان الاختلاط مدعاة حتمية للرذيلة والفساد، لما وجدنا فتيات لنا ينبغن في الخارج فيما يقف لهن حراس الفضيلة المفترضة بالمرصاد في الداخل، وكم من فتاة كان لها أن تكون شيئاً مذكوراً، مثلها في ذلك مثل الدكتورة حياة سندي أو غادة المطيري وغيرهن، ولكن هاجس الفضيلة وبارانويا الشك في كل ما هو أنثوي، حولها إلى نعجة قابعة في زريبتها تنتظر زوجاً لا تدري كيف يكون أو الموت، أو تفترسها أمراض النفس وعلل الذات. يقول مثل انجليزي ما معناه أنك تستطيع أخذ الحصان إلى الماء، ولكنك لا تستطيع اجباره على الشرب، وبذات المعنى يمكن القول أنك تستطيع فرض الفضيلة، وفق فهم معين، على مجتمع ما، ولكنك لا تستطيع أن تجعله فاضلاً. جامعة الملك عبدالله هي رمز لفلسفة تعليمية جديدة تبشر بثقافة الحياة بعد أن شلتنا ثقافة الموت، ومنارة لنشر قيم الحب بعد أن أفسدت النفوس منا ثقافة الكراهية، وبؤرة لخلق مجتمع جديد يقوم على مباديء الإنسان، بعد أن دمرت ثلاثة عقود من الزمان كل ما هو جميل في مجتمعنا، وكل ما هو إنساني في حياتنا.
التعليقات (0)