حين نُحوّل الانتصار إلى هزيمة
تاريخ العرب الحديث شاهد على هزائمنا،وهو لا يكاد يُسجّل لنا انتصارا إلا وسعينا،بسابق إصرار وترصّد،إلى تحويله لهزيمة تجهض على الأمل في إمكانية استرجاع أمجادنا الغابرة والثأر لكبريائنا المهدورة.
ليس بالعهد من قدم،وتحديدا في أكتوبر 1973،خاضت الأمة العربية وفي مقدّمتها مصر حربا مصيرية ضدّ عدوّها الكيان الإسرائيلي من أجل الدّفاع عن حقوقها المشروعة ،وهي حقوق تتصدّرها تلك التي تعني الشعب الفلسطيني الذي كان ضحية أفظع مظلمة عرفها التاريخ الحديث...
والقضية الفلسطينية،كما كانت في النضال القومي العربي-ولا أخال أنها اليوم كذلك بكلّ ذلك الزّخم الذي كان يهزّ الوجدان العربي قيادات ونخبا وشعوبا-هي قضية عربية بالأساس،بل هي الترجمة العملية للوجود العربي مشروعا ورهانا وحلما،أو هكذا أُريد لها أن تكون لتنوء بثقل الهمّ العربي صراعا مع ضعفه وهوانه وبحثا عن سبيل لوحدته وتضامنه وخلاصه وترجمانا لرفض استكبار الآخر المهيمن...كانت القضية الفلسطينية تختزل مشروع الوحدة العربية ونهضتها،واستطاع من يركبها من قادتنا ونخبنا،لغرض شريف أو للنيل من شرفها،أن نبايعه-دون حاجة لانتخابات-أمينا على القومية العربية،وأن يستحوذ على قلوبنا وعقولنا وأن يسحرنا بمجرّد الوعد "بمشروع انتخابي" يتضمّن بندا واحدا،ألا وهو تحرير فلسطين...وعليه فالشعوب العربية،جميعها من المحيط إلى الخليج،وثقت في الراحل جمال عبدالناصر،وعلّقت عليه آمالها في تجسيم الحلم العربي...ولئن قادها إلى هزيمة نكراء مع العدوّ الصهيوني،فإنّ هذه الشعوب-لتأصّل الطيبة والتّسامح فيهاـ لم تحقد عليه ولم تعمد إلى تنحيته أو اغتياله،بل انشغلت عن جرحها النازف،وعبد الناصر يُفاجئها بإعلان استقالته،بترميم معنوياته والخروج في طوفان عارم من البشر تُنادي بصوت واحد بعدول "رمز حلمها" عن الاستقالة،وهو الذي قادها إلى هزيمة مُذلّة،لأنها كانت ترى في تخلّيها عنه تخلّيا عن حلمها،ولتأكيد رباطة جأشها وصمودها،اعتبرت هزيمة 1967 "نكسة" ليس إلا...
لم تكن الهزائم التي مُنيت بها الشعوب العربية-رغم بشاعتها وثقل وطأتها عليها-لتفُتّ من إصرارها على تحرير فلسطين وعزيمتها على تحقيق حلمها في الوحدة العربية،لقد ظلّ هذا الحلم مُتوهّجا بعد "نكبة 1948" وطيفا جميلا يُطلّ بطلعة بهيّة من تحت أنقاض "نكسة 1967" إلى أن استعاد عنفوانه وعافيته مع "انتصار العبور" في (حرب أكتوبر 1973). وبين هذه المحطات التاريخية البارزة ظلّ مراوحا بين كلّ هذه المشاعر المفعمة بالأمل بالرّغم من الآلام والدموع والفواجع واستفحال الاستبداد وهُزال الحصاد...
لكنّ لحظة فارقة أيقظت الضمير العربي على حقيقة مرّة قاسية أشبه ما تكون بمن كان يتغذّى من جرحه النازف غير مُدرك أنّه إلى حتفه ذاهب...لقد فعلها رئيس مصر "المؤمن" السادات،في تلك اللحظة الفارقة،من غير أن يدرك أو لعلّه كان يدرك...
لقد كان مشهد أنور السادات،وهو "يحجّ" إلى الكنيست الإسرائيلي ثمّ يُوقّع على معادة سلام منفردة مع إسرائيل لا تهمّ من العرب إلا مصر-كان مشهده-لايختلف كثيرا لدى الجماهير العربية عن مشهد من فوجئ بخيانة زوجية على فراشه تقترفها زوجة أحبّها وأودعها أسراره وشرفه وآماله ووثق في وفائها وعفّتها وعوّل على تأصّلها وشهامتها لتقيه غوائل الدّهر...يا لهول الفجيعة والصدمة.ا..
إنّ السلام المنفرد الذي انقاد إليه حاكم مصر"المغتال"لم تكن كارثته تكمن في المسعى إليه،ولا في الشروط المجحفة التي كبّلت مصر مقابل سيادة "مشبوهة" على أرض لها اغتصبت بالقوّة،ولا حتى في مكانة مصر المحورية في الصراع العربي الإسرائيلي-على أهميتها وثقلها خصوصا في زعامتها لمشروع القومية العربية-لم تكن الكارثة العربية في كلّ هذا،بل كانت بالأساس في المغزى الانفرادي لعملية سلام لا تعني إلا مصر،بما يعني أن القضية الفلسطينية،فجأة،لم تعد قضية عربية وتخصيصا مصرية-كما كان يُروّج لها-وبالتالي فإنّ المشروع العربيّ الذي اختُزل في تحرير فلسطين-بقرار فردي وفي لحظة مُريبة-لم يعد قائما،اللهمّ في أحلام الشعوب العربية،ومراهقة فكرية مضللة...
ثم إنّ "توقيت السلام الساداتي" كان توقيتا متآمرا على حالة انتعاش الأمل في الثأر للكبرياء العربية المهدورة لدى شعوبها...إنّه كان انتعاشا مُبرّرا بطعم الانتصار الذي حققته حرب أكتوبر 1973-رغما عما قيل من تشكيك في هذا النصر-إذ هو،بكلّ المقاييس،يبقى نصرا لإرادة عربية لأوّل مرّة تُجسمّ وحدة صفّ وتضامن استنفرت لأجلهما كلّ الإمكانيات المتاحة للضغط على العدوّ وحلفائه بما في ذلك استعمال سلاح النفط العربي...
هكذا تُصاغ القرارات الفوقية المسقطة على الجسم العربي المنهك لتُحوّل الانتصار إلى هزيمة مُدمّرة لم يقدر العدوّ بكلّ جبروته وقوّته وغطرسته أن يلحقها به(الجسم العربي)...
وما الانتصار المجيد لحرب أكتوبر الذي تحقق بقيادة السادات وتحويله إلى هزيمة "قاتلة" بفعل نفس الرجل إلا مشهد ماثل بوضوح ضمن مشاهد أخرى تماثله تُدين إصرارنا على التآمر على أنفسنا تيسيرا لنيل العدوّ منا...
ولعلّ حاضرنا "الأكتوبري" (نسبة لهذا الشهر) يأبى إلا أن يقيم الدّليل،من جديد، على أننا ما نزال "أوفياء" لتحويل انتصاراتنا إلى هزائم حتى إن كاد العالم بأسره يُشفق علينا بإنصافه لنا،وهو ما نفعله مع إدانة موثّقة لجريمة حرب إسرائيلية وقائعها "غزة" وضحاياها فلسطينيون والشاهد عليها يهوديّ أكدها وضمّنها هذا التقرير الذي سُمّي باسمه:"تقرير غولدستون"...
ومع ذلك فإننا نبذل كلّ الجهد لنحوّل هذا الانتصار إلى صراع داخلي بيننا نتبادل فيه التهم والشتيمة ونستنفر فيه كل مواهب الهجاء "بحروف الهجاء"...
التعليقات (0)