التاريخ في مصر لا يمر عابرا. يُقيم. يُكتب. يُنقش. يترك أوابد. ترك أهراما ت وأبا الهول. ترك مسلات ومقابر فرعونية ومومياء, ترك فن التحنيط عصية أسراره على التفسير الحديث. في كل خطوة من خطاه ترك أثارا تقول من هنا وهنا كان الإعجاز. لم يترك الأساطير محكية فقط وإنما مجسدة تشهد على عظمة الإنسان المصري. يأتي لسماعها ورؤيتها ودراستها ومحاولة الوقوف على أسرارها جهابذة من المؤرخين والعلماء. وليتوافد على زيارتها ملايين السوّاح من كل أصقاع الكون وعلى امتداد الأزمان والفصول.
حين كتبت مصر تاريخها المعاصر كانت قناة السويس بجهد ودم وعرق الإنسان المصري. وكان السد العالي. كان عظماء الشخصيات السياسية والقانونية والفكرية. كتبت أصالة غير مستنسخة أو منقولة. كتبت أدبا وفنا وإبداعا لم يبق محصورا في مصر وحدها وعلى ضفاف نيلها, ولكنه عمّ المنطقة العربية فجعل من مصر منارا. ازدهرت بازدهارها فنون وآداب وعلوم تلك المنطقة.
ومع ذلك فقد كُتب في تاريخها نكسات انتكست معها المنطقة العربية كاملة. مع السادات ومع مبارك عرف المصري محنة حقوق الإنسان وقمع الحريات و"مجازر" القضاة. عرف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وأزمة هوية. وُلد في حقبتهم أدباء وكتاب وشعراء وفنانون وحقوقيون, ولكن لم يبدعوا ولم يعطوا ما هم قادرون على إبداعه أو عطائه. ليس لعدم خصوبة, وإنما لإقفال الاستبداد أبواب العطاء وانحرف الإبداع عن مساره ليصبح, إلا أقله, في خدمة النظام السياسي الشمولي. انزل الاستبداد والفساد الدولة إلى مصاف الدول التي لا تاريخ ولا وزن ولا كرامة لها. وُضع الفاسد والمزيف في مكان النظيف والأصيل. وقف في مصر التاريخ وكف عن السير الطبيعي وكأنه غريب عن نفسه, لا علاقة له بتاريخه. فوقف معه تاريخ كل المنطقة وافرز ما أفرزته مصر المأزومة من أنظمة شمولية مستبدة, وما ينتج عن ذلك بالضرورة من تكاثر الطحالب والغرق إلى ما فوق الأذان في الفساد والتخلف. وفقد الإنسان مع فقدانه حريته وكرامته وسائل العيش الشريفة. فلم تعد مصر تعرف نفسها وتطاول عليها من تطاول. ضاعت الأصالة.
اليوم شرعت مصر في كتابة تاريخيها, فكانت كتابة إبداعية, كانت ثورة غير مسبوقة قوامها ملايين المصريين دون سلاح. سابقة فريدة. ثورة دون سلاح دون عنف, رغم تلقي ثوارها في الصدور العارية الرصاص الحي ووسائل العنف من رجال النظام البائد وبلطجيته. لم يسبق هذه الثورة والثورة التونسية في شكلهما ووسائلهما وعمادهما واتساعهما, ثورة أخرى في العالم.
كتبت مصر في تاريخها, وللتاريخ, بان ثورة عمادها الشباب لم تكن تؤمن بالقتل أو السحل أو حرق الممتلكات العامة أو الخاصة, لم تكن تؤمن بالتطرف والتعصب والكراهية. تؤمن بالحياة وبناء حياة جديدة هدفها سعادة الإنسان, ومحورها الإنسان. كانت اعتصامات مليونية سلمية في الشوارع. أبدعت شعاراتها وفنها الثوري. رفض شبابها الثائر الخوف والخنوع والدعوات للصبر والتحمل على حساب الحرية والكرامة, رفضوا كل صيغ الحكم والوصايا وثقافة الطاعة والخنوع والترويح عن النفس بالنكات. رفضوا هذا الميراث. تجاوزوا الأحزاب السياسية التقليدية المعارضة ومعارضاتها الوهمية المخصية. رفضوا آلياتها وتلك الذهنية. معارضات لم تختلف في شكلها ومضمونها ووسائلها عن النظام الحاكم. ولم تستطع أن تذهب ابعد منه في كل هذا. أعطت مؤسساته, الشكلية الفاسدة , شرعية, دخلتها وتنافست فيما بينها ومع النظام نفسه لدخولها, فساهمت في مأسسة الفساد. لم تشكل يوما قلقا للنظام. ولم تعيق مشاريعه ومنها, أو أهمها, توريث مصر كاملة, بملايينها التي تزيد على الثمانين وتاريخها الحامل لحضارة البشرية, لمبارك يخلف أبيه. هذا ما كُتب في تاريخ مصر التي أُريد لها أن تكون مصر السادات ومصر مبارك.
بعدها كتبت مصر في تاريخها عبرا للتاريخ ودروسا. كيف يكون إسقاط الطغاة. كيف يُكنس الفساد. كيف تنتصر الشعوب. كيف تشتعل الثورات. كيف لا تتقادم الجرائم وتترك دون حساب وعقاب. كيف أن في دولة القانون لا كبير أمام القانون, حتى ولو كان جملا أو جاموس.
كتبت مصر في تاريخها إنها بإرادة الشعب المقهور, التي تحولت إلى إرادة ثورية لا تقهر, وضعت الطاغية ووريثه المنتظر وأعوانه وأزلامه في قفص واحد من صنع مصري خالص في شكله وترتيبه وإجراءات دخوله. الخروج منه لا يكون إلا بقرارات عادلة تصدر باسم الشعب, تعيد الحق للشعب.
وفيه كتبت أنه كان هنا يوما طاغية تكبر وتجبر وأدل شعبه ودواته فأُودع القفص. كان خلف القضبان على سريره كمومياء فرعونية محنطة عائدة من أعماق التاريخ, رغم اختلاف اللون بين الموميائيتين, ورغم بعض مظاهر الحياة في موميائنا الحديثة, المعبر عنها بين الحين والحين برفع أحد الإبطين, ودوران زائغ في العينين. وقلق من رؤية حسم القضاة, ومحاولة التخفي عن المشاهدين, حتى لا تلتقي العين بالعين.
كتبت مصر في تاريخها, مستوحية عصر الفراعنة, أن لا عظمة ولا جبروت لإنسان أي كان. ولو كانت فيه صفات مميزة لصيقة به فطرية ومكتسبة توحي بموهبة و بتفوق . فكيف إذا كانت مظاهر العظمة والجبروت في زعمائنا, المصطنعين, مجرد ثياب خارجية نسجها منافقون ومراءون وانتهازيون منتفعون في الداخل, ووضعت عليها علامات الجودة في الخارج ومن الخارج؟!!!. حين خلعت الثورة تلك الثياب عن طاغية مصر بان مرتديها عاريا مسكينا, ولكن لا يحمل براءة المساكين, ضعيفا لا حول له ولا طول, وارتسمت على وجوه الملايين سمات الاستغراب والعجب, كيف كان ذلك بالإمكان !!! كيف كان بإمكان لأمثال هؤلاء الصغار التحكم بالأقدار. أقدار الدولة وأقدار الملايين.
وكتبت في صفحات تاريخها الحالي المشرقة, والمفتوح دائما أن السلطة لا تمنح القدسية لممثلها, كان من كان, أرفع شعارات الديمقراطية أم تمسح بالقرآن. السلطة مسؤولية يحملها من ينتخبه الشعب لحملها. ويحجبها عنه متى شاء. وان القضاء مستقل ونزيه يتساوى أمامه الجميع بمن فيهم الرؤساء, والقضاة لا سلطة عليهم إلا سلطة القانون. وكتبت مصر, لتاريخيها, ان ميادين التحرير والساحات العامة رقابة حقيقية وفعالة على تجاوز السلطات, أو الانحراف بها عن أهداف الثورة وإحباط الثورات المضادة. وأن نهاية الطغاة قفص وقضاة.
طارت الأخبار, بما كتبه ثوار مصر, إلى الجوار, القريب والبعيد, فارتجفت لها ركب الطغاة في كل مكان ممن رؤوا في الطغيان وحده وسيلة حكم, فتصورا أنفسهم في أقفاص كقفص كبيرهم وأولاده وأعوانه, وطنية الصنع بقضبانها ومقاعدها وحُرّاسها. الحضور وطني. والادعاء وطني. والمطالبون بالحق المدني, وهم بالملايين, وطنيون ضحايا مظلومون. والدفاع وطني. و المحاكم والقضاة وطنيون.(لا نتمناها محاكم جنايات دولية). وأحكامهم وطنية. و بـاسم الشعب.
كتبت مصر, لتاريخها, أن من تاريخه المذكور بدأ بناء دولة الحق والقانون. وما تكتبه مصر الثوار يطير سريعا للعرب في كل الأقطار.
د.هايل نصر
التعليقات (0)