مواضيع اليوم

حين تتوهّج سعديّة مفرّح .. و لم تمسسها نار .. !!

سعد الياسري

2009-03-08 16:25:09

0

حين تتوهّج " سعديّة مفرّح " و لمْ تمسسْها نارٌ
ديوان : ليل مشغول بالفتنة
للشاعرة : سعديّة مفرّح
قراءة : سَعْد اليَاسِري
 
 
مدخل :
 
لعلّ الشّعراء معنيّون أكثر من غيرهم بالتخلّص من السردية التي قد تجعل من النص الشّعري غذاءً منزوع الدسم يمكن تخصيصه لمرضى الذائقة . إذ قلّما صادفتُ (شاعرًا | شاعرةً) يعتني بالسردية دون أن يتلف الشِّعرية في نصّه دون قصد منه بالطبع . أمّا اليوم فأقف أمام ديوان شعريّ رصين و شهيّ (ليل مشغول بالفتنة) صادر عن (دار مسعى - الكويت) بالتعاون مع (الدار العربية للعلوم - بيروت) ، و يقع في ثمانين صفحةً من القطع المتوسط ، اجتهدت مبدعته الشّاعرة (سعديّة مفرّح) في القبض على مجد الدهشة من أطراف ثلاثة : الشعرية و النثرية و السردية .
 
وجوه :
 
في الواقع ؛ يتعكّز النصُّ بمرفقين قويين على صوت الراوي ، والذي تحاول الشّاعرة أن تكون منصفةً في استخدامه .. وأظنّها كانت كذلك ؛ رغم ميل هنا أو هناك مع الهوى الأنثوي ، أو انحياز إلى جانب الضحيّة . و لربّما كانت هناك إشارة جامعة لتلك الشخصيّات في النصّ :
 
 
ينامُ بعيدًا عنكِ و عنها ،
وعن قلبه المتهرّئ دخانًا . [ص 21]
 
هنا نستطيع تحسّس الشخصيات الرئيسة (هو | هي | أنتِ) بالإضافة إلى ما أسلفنا عن صوت الرواي الذي يمكن اعتباره الشخصية القيادية الأهم .. إذ لا تتوانى عن إطلاق معايير وقيم تسم بها وجوه الشخصيّات .
 
فتصف أحد وجوه المرأة بما تقتضيه لحظة الخسارة اللاذعة :
 
... بأنّكِ العاقر في أرض الخصب ،
و أنّكِ الباكية في بستان الفرح ،
و أنّكِ الكسيحة في حلبة الرقص ،
و أنّكِ العمياء في حفلة الألوان . [ص 44]
 
فيما كان وجه المرأة الآخر ينال حصّته من الدلال :
 
تدسّين الهاتف الصغير ..
المكتنز بلذائذ الكلام المكتوب تحت مخدّتك ،
تتوهّجين ؛
تضيئين ولم تمسسك نارٌ ،
تتراكمين على ذاتك نورًا على نور ..
تستحلبين اللّذائذ المخبوءة في بوتقة التكنولوجيا ..
شبقًا سورياليًّا ،
يستغرقك الشبق المستتر حتّى النهاية ..
شمسًا ضاحكةً . [ص 47 – 48]
 
و وجه آخر لامرأة بذاكرة جيدة و حاضر شحيح :
 
بطرف شالك ..
تمسحين ما تبقّى من حمرة شفتيك المتآكلتين . [ص 57]
 
و تتواشج مع الإرث :
 
للنساء حيلهنّ السريّة ؛
بين تجاويف كيدهنّ العظيم . [ص 27]
 
وتكره ثياب الحداد و أزياء الموروث :
 
ملفعةً بالأسود القاتم رغم أناقته المستعارة . [27]
 
أو
 
في كلّ قميص جديدٍ ؛
بورود ناعمةٍ ، وألوان مبهجةٍ ،
و أزرارٍ مصنوعة من الصدف اللاّمع ..
تلبسينه تحت أسودكِ الأبديّ . [ص 42]
 
و تنعى فقدان الرجل في أحد وجوهه :
 
الرجل الذي فقدتِه منذ أربعين عامًا ..
أو يزيد قليلاً ؛
في زحمة الولادات المتشابهة لليتامى المتشابهين . [ص 11]
 
وتصف وجهه الآخر باللهو :
 
تتسلقين معراجك البدائيّ ..
نحو جبّ الغَواية بين عيني الرّجل اللاّهي ؛
حيث يلهو فتألمين . [ص 29]
 
 و تلوم وجهه القاسي :
 
يسافر ..
لعلّه يسافر هكذا فجأةً ،
بين نورٍ ونارٍ يقرّر أن يغيبَ ،
بانتظار أن تتروّض المهرة الغبيّة . [ص 48]
 
وتعاتب إرثه الظالم :
 
للرجال حيلهم العلنية ،
فلهم تنحاز السّماء . [ص 28]
 
 
كلّ هذا نلمسه عبر صوت الراوي القيادي في هذا النص الشّعريّ ، و بالرغم من كلّ تلك الأمثلة أحبّ أن أقرأ النص على أنّه يترجم مئة انعكاس لوجه واحد في مرآة ماكرة .. وفق مبدأ (درويش) حين يقول في (جداريّته) :
 
لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبةِ ؛
هل أنا الفردُ الحُشُودُ ؟
 
أرشيف الجسد :
 
يحفل النص بالجسد فكرةً و شبقًا و نشوةً . فهو – أي الجسد - يحضر دفترًا للبدء منذ أطوار الجنين الأولى ، مرورًا بولادته وحتى اصفراره كورقة خريفيّة على غصن شجرة يبس جذعها و نخرته الديدان .. ليكون في نهاية الأطوار الهُويّةَ الوحيدة :
 
جسدكَ هو أنت ؛
جسدك هو معنى أن تكون أنتَ . [ص 70]
 
و يحضر وفيًّا للفطرة الأولى ؛ تنهكه الشهوة فيشكمها بالتلذّذ ، وهو ما يمكن تسميته المتعة المؤقتة | الناقصة .. حيث تتكفّل الأنا بتمتيع أناها . كما تمتّع الأهواء نفسها بنفسها عبر الموسيقى على حدّ تعبير (نيتشه) .
 
للجسد هيمنته وسطوته وجبروته ؛
إن حكى .
وله حكاياته المثيرة في نهاراته ولياليه ؛
إن اُستُثِيرَ .
وله أغنياته الجميلة المستلّة من محفوظات الذاكرة ؛
إن انتشى . [ص 69]
 
ويحضر نشوةً كاملة حيث يتجاسد مع الآخر فتتقاطع الشهوتان وإن في برهة عابرة كافية ؛ إذ لا تحتاج النار الكاملة – في رأيي - لأكثر من طفل يحمل عود ثقاب .
 
في تخوم سماء ثامنة ؛
تتجاسدان ولا تتجاسدان ،
تتقاطع شهوتان ..
فلا تلتقيان إلاّ برهةً . [ص 61]
 
و فيما الشّاعرة – في نصّها الجميل هذا – لا تغفل عن الأبعاد الجماليّة لاستخدام مهمٍ كـ (الجسد) ؛ تجنح إلى الحذر – في بعض الأحيان - حدّ الابتعاد عن اللّحظة الشعرية الملتهبة ، وتغليب لحظة الحكمة المشوبة بالفلسفة .
 
لا طمأنينة :
 
الشّاعرة مهتمّة على ما يبدو بإثبات نقطة – من جملة النقاط الكثيرة – بأنّه لا مجال للاطمئنان إلى شكل قصيدتها ولا حتّى طريقة صفّها أو استخدامها لنوعيْ خطٍّ (عادي | غامق) . فهي تكتب هذا النص كما قدّمنا وفق الشعريّ المنثور و الشعريّ الموزون و السرديّ الواضح . وحين نقرأ العمل سنعتقد – بعد تجربة أوّليّة – أنّ الخطّ الغامق – وبعيدًا عن الأصوات والشخصيّات - يتكفّل بالموزون من الشعر ؛ ولكنّها تباغتنا في أن الاطمئنان إلى هكذا أمر ترفٌ لا تمارسه الشّاعرة .
 
ومن الأمثلة على ذلك ؛ وفي أوّل استخدام لـ (الغامق) تتماهى الشاعرة مع بيت شعري تراثي لقصيدة شهيرة أظنّها لـ (البوسعيدي) .. والتي يقول في مطلعها :
 
يامن هواه أعزّه ، و أذلّني
كيف السّبيلُ إلى وصالكَ .. دلّني
 
فيما تقول الشّاعرة :
 
يا من هواه أعزه و أذلّني ؛
و أذلّه و أعزّني ،
وأقامني ..
في ظل عاطفةٍ تؤرّخ موتها بقيامتي ،
و أماتني . [ ص 30]
 
وفي موقع آخر تقول :
 
هو أجمل الشعراء في تحرير سيرته ..
بأغنيتين و قافيتين .
أطولُهم ؛
ليقطف من حقول الغيب نجمته . [ص 50]
 
ولكنها في الجزء الأخير من الديوان وفي عشر صفحات تمّت كتابتها بالنوع (الغامق) تجنح نحو السرد بأوضح أشكاله ، و كان يمكن أن تكون [معظم] الصفحات [62 – 71] وفق نظام الأسطر الكاملة لأنّها سرديّة خالصة بروح شاعريّة فذّة .
 
البزق التركيّ :
 
أحبُّ هذه الآلة الموسيقيّة لأنّها مميّزة و واضحة مهما كان ضجيج ما يصاحبها من آلات . و شاعريّة (سعديّة مفرّح) كالبزق التركي .. حنونة و واضحة و دافقة . شاعريتها تعلو و تخبو بحسب مزاج القصيدة ، ولا تغفل مطلقًا عن إقحام لذّة (البزق) دون ميعاد ؛ وكأنها تذكّرنا بالجمال الذي قد يخفت بريقه في حمّى المَشاهد . ومن أمثلةهذه الشاعريّة – بحسب ذائقتي - التي تنفلت فجأة من بين طيّات السطور لتعطينا جرعةً شعريّة كاملة .. جرعةً تختلف في سياقها عما سبقها أو ما سيلحق بها :
 
تتبادلان الحيل البشريّة كلّها ؛
وتغتنمين فرصة سانحة لخلق حيلة جديدة . [ص 18]
 
حالمًا بعالم أقلّ ازدحامًا ؛
و أصدقاء أكثر إخلاصًا و ظرفًا . [ص 20]
 
تضعين عطرًا ..
تعرفين أنّه لن يميّزه . [ص 23]
 
انتصارك اليتيم في حروبكِ اللاَضروريّة . [ص 26]
 
إنّها البدايات الغامضة ؛
وحدها التي تبرّر ذلك الفشل العظيم . [ ص 35]
 
يكتبُ قصيدةً في مديح عينيكِ ؛
ويعيد صياغتها ..
بوهجٍ من إعجابك الموضوعيّ . [ص 55]
 
وغيرها الكثير مما لا يسعنا المجال لرصده .
 
لمحات :
 
 جاء الإهداء إلى أحد وجوه المرأة الكثيرة في النص .. وتحديدًا إلى الوجه الأكثر خسارة :
 
إليكِ ؛
وأنتِ تنادمين العزلة بأقداح المعاني ..
لعلّك تنجحين في محاولتكِ .
 
 حفل النص بالرمز الديني ؛ و حاولت الشّاعرة المزاوجة بين عدّة أفكار و قصص بين تراثي و قرآني لتخدم صورها الشّعرية . فاستعملت مفردات كـ (البشر ، الإلهة ، السماء الأولى ، السماء السابعة ، الصلاة ، القسر ، المعراج ، الجب ، الغَواية ، الدود ، سفينة نوح ، المعجزات ، القيامة ، الأوّل ، الأخير .. إلخ ) .
 
 يخلو الديوان و بشكل كامل من علامات الترقيم كالفواصل (،) و الفواصل المنقوطة (؛) و علامات التعجّب (!) و الاستفهام (؟) .. و استعاضت الشّاعرة بالنقطتين (..) للاستمراريّة ، و الثلاث نقاط ( ...) للصمت المؤقّت ، و تشكيلات معيّنة كـ (/ ) للفصل بين المقاطع الشعريّة .
 
 
خاتمة :
 
في الوقت الذي يُمجَّد فيه الهذيان على أنّه أعذب الشعر ، وتُرفع من مكانة بعض المواهب (المتواضعة) على أكتاف الذائقات ومنابر النفاق الإعلامي في الكويت و خارجها ؛ في هكذا أجواء قاسية على قلبي كان لقائي بـ (ليل) سعديّة المشغول بـ (الفتنة) .. لأخرج من هزيعه الأخير متلحّفًا بانتشاءٍ و رضًا .
إنّ (سعديّة مفرّح) صوتٌ شعريّ هام ، وتجربتها الإبداعيّة (المكتملة) تزداد غَواية مرّةً بعد أخرى .. كثمرةٍ ناضجةٍ في صحنٍ من الفضّة الهادئة .
 
 
 
سَعْد اليَاسِري
نُشرت في مجلّة البيان الكويتيّة
عدد آذار | 2009



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !