حياة أنعام!؟
يمكن بسهولة أن نلاحظ أن جل ما صار ينجز في وطننا العربي يصب في اتجاه واحد، ألا وهو تهيئة الناس في وطني وتشكيلهم ماديا وفكريا و ذوقيا لخدمة الإنسان الغربي وضمان رفاهيته ومتعته، فلا الأرض بقيت أرضنا ولا الثروات عادت إلينا منافعها ، ولا الإنسان تحرر ليكون سيد نفسه دون وصاية، "فهم السادة ونحن العبيد و الخدم فوق أرضنا"، ورضاهم عنّا غاية ما نطمح إليه ونطلبه : شواطئنا ننظفها ونتعهدها ليرضى عنا السائح الغربي، خيراتنا ننتقيها ونقطفها لترسل إلى بلاد الغرب، وأماكن إقامته، بناتنا، نساؤنا نعريهن، نبيعهن في سوق النخاسة ، حتى صرن كاسيات عاريات، مشاغبات لمواكبة تقليعات السيدة الغربية، مشاريعنا ، قناطرنا ننجزها حتى نكون أهلا لمشاركة السيد الغربي فتات موائده و نيسر له طرق استغلال ثروات بلادنا، أينما وليت وجهك لمحت سعيا لإرضاء الغرب أو مشاركته أو (الدعوة الفارغة من المضمون) للحاق بركبه الحضاري والعلمي، فقدنا كل شيء ولم نملك أي شيء! ؟
ومنذ خروج المستعمر الغربي من ديارنا عملت بعض القوى الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية و الدينية التي خلفته على إذلال المواطن العربي وإخضاعه وتهيئته لتقبل النهب والإستغلال برضا تام لأن كل ما يصيبه " هو قضاء من السماء و ليس له إلا الصبر و الرضا"!؟ وقد استطاعت هذه القوى الدينية و السياسية و الإقتصادية المجرمة... جمع ثروات طائلة بفضل ما نهبته وسرقته من عرق جبين العمال العرب ظلما واعتسافا، ونتيجة لما يلقونه من حماية من حماة الإستبداد : ظلموا الناس وأذلوهم واغتصبوا حقوقهم وأكلوا أرزاقهم حتى تنكسر شوكة هؤلاء العمال فيكثر أنينهم وتستفحل أسقامهم، فيعجزون عن مقاومة الإستغلال والظلم المسلط عليهم .
لقد توهمنا أن خروج المستعمر الغربي من ديارنا سيمكننا من التحرر وتحقيق سيادتنا على أرضنا، فإذا الواقع يلطمنا بشدة وعنف وينزع عنا هذا الوهم!؟ إي مهزلة صرنا نعيشها في بلادنا العربية؟! الناس صاروا يكرعون من المذلة والهوان أصنافا، لا أحد راض عن حاله، الكل يشكو والكل يتألم في صمت، والكل صار يعيش ليأكل ويلبس (يأكل في القوت و يستنى في الموت)، والسعيد السعيد من صار له مرتب شهري يفي له بحاجياته اليومية، وبدون أي حرج أقدم بعض ضعاف النفوس على بيع أعز ما يملكون من عزة وكرامة ليحصلوا على كفايتهم من المأكل والملبس و تبوء المناصب الخدماتية، ولم يعد يهمهم ما ينجزونه في حياتهم في سبيل تقدم وطنهم وازدهاره و نموه، لأنهم صاروا يحسون أن الوطن لم يعد وطنهم ولا الأرض أرضهم، ولا من يحكمونهم من بني جلدتهم بل هم ألدّ أعدائهم وسبب تعاستهم.
إن أول شروط الوعي المطلوب للتحرر من كل هذا :أن يضع الإنسان العربي في حسبانه أن هذه الأرض التي يرويها بعرق جبينه هي ملك له ولكافة أبناء وطنه ولا يحق لأي كان أن يحتكر ثروات هذا الوطن العزيز – تحت أية مسميات - ، و لا يحق لأي كان أن يحتكر حب هذا الوطن الغالي ، فكلنا نشترك في حب وطننا و نعشق كل ذرة فيه ، و لكل مواطن الحق في أن يحصل على نصيب وافر من ثروات بلاده الكثيرة و المتنوعة، ولا أقل من أن يحصل على موازنة بين مجهوده في العمل وبين ما يقبضه من مقابل مادي بشرط أن يوفر له ولأسرته حياة كريمة حتى ينعم بخيرات هذا الوطن المعطاء، ويذود عنه ويحمي استقلاله إذا ما تكالب عليه الأعداء، أما أن يعيش عبدا و خادما في ركب الفراعنة طوال حياته، يتعب ويشقى و يعمل في شركات متعددة الجنسيات ما قدمت من وراء البحار إلا لنهب ثرواتنا و استغلال سواعد عمالنا وفروج بناتنا ... ثم يعاني من ويلات الحرمان والخصاصة فهذا ما لا يرضاه أحد ولا حتى العبيد، فكيف بسيد على أرضه، وأرض أجداده ومستقبل أبنائه!؟
أمة الإسلام... أمة الشهادة على الناس ؟
خلق بديع السماوات و الأرض الكون .. و ملأه بمخلوقات شتى .. و عوالم مختلفة.. متنوعة في أجناسها و متكاملة في أدوارها لحفظ نظام الكون في صيرورته .. و استخلف بني آدم لعمارة هذا الكون و صناعة الحضارة و المدنية دون سائر المخلوقات.. و أنزل الأمطار و جعل الليل و النهار خلفة لمن أراد أن يتذكر من بني آدم أو أراد شكورا .. و لقد حد بديع السماوات و الأرض حدودا وضبط سننا أزلية ثابتة لجميع مخلوقاته .. لا تحيد عنها .. – طوعا و كرها - تحيى بمقتضى السير على هداها كل الكائنات و تضمن بها لنفسها صيرورة سالكة و طبيعية و حياة هانئة .. طيبة..
إن خروج أين من هذه الكائنات عن حدود الله و نظامه و سننه الأزلية الدقيقة في الكون الذي أبدعه بقدرته الفائقة و حكمته الأزلية يعني حتما فقدان هذه الكائنات الضعيفة في أصل خلقتها .. لتوازنها الحيوي و اندثارها .. أو موتها و هلاكها : فخروج كوكب الشمس عن مداره الذي خلق له و اقتراب الشمس و لو قليلا من الأرض يعني حتمية احتراق الكون برمته كاحتراق القطار الذي يحيد عن سكته، أو تحطم السيارة الجانفة عن الطريق المعبدة لسيرها.. كذا تضطرب حياة الإنسان و تنتابه شتى الأمراض و المهالك و تتقاذفه الوساوس إن حاد قليلا أو كثيرا عن ( الصراط المستقيم) المعبدة له منذ الأزل ، و قد فصلت له معالمها تفصيلا بينا في كل الكتب السماوية التي أوحى الله بها إلى كل أنبيائه عليهم السلام ، حتى يبلغوها إلى أقوامهم بألسنتهم عبر مختلف الأزمنة و الأمكنة التي استعمروها .. و عمروها .
إن قوانين الله و سننه في الكون و الإنسان و الحياة – إذن- هي قوانين أزلية /أبدية ثابتة خلقت مع خلق كل هذه العوالم .. و كانت مهمة كل الأنبياء عليهم السلام ، منذ أقدم العصور تقضي بأن ‹‹ يذكروا أقوامهم بحتمية الإصطباغ و السير طبقا لهذه القوانين الأزلية إذا ما أرادوا الأمن و السلام و العيش الطيب الرغيد في الدنيا و الفوز برضوان الله و جنته في الآخرة ... أما الزيغ عن هذه القوانين و السنن الفطرية التي فطر الله الناس عليها منذ خلقهم : فيعني حتمية نيلهم الخزي و الشقاء في الدنيا و خلودهم في عذاب جهنم يوم يقوم الناس لرب العالمين. ›› .
إن قراءة متبصرة لآيات القرآن الكريم لا تلفها الأهواء و التأويلات المغرضة ... تكشف لنا عن كل القوانين و السنن التي تحكم جميع العوالم التي خلقها الله و الخاضعة طوعا أو كرها لمشيئته عز و جل لا تحيد عنها منذ الأزل .. كما تحتوي هذه الآيات - وخاصة الآيات المدنية - على كل سنن أمة الإسلام الأبدية التي قد سار على هديها الصالحون من عباد الله و الأنبياء منذ أقدم العصور ، و ملخصها : ( أعبدوا الله مالكم من الاه غيره)، والتي تكررت على ألسنة كل الأنبياء عليهم السلام . فتوحيد الله و خضوع الإنسان لشرع الله و قيمه الثابتة التي فطر الناس عليها في الأسرة و المجتمع و كل علاقات الإنسان بنفسه و بربه و بأخيه الإنسان ... كانت و لا تزال جوهر كل الرسالات السماوية .... و لذلك وهبت الأمة المستمسكة بهذه القوانين الأزلية الثابتة المفصلة في كتاب الله:"الشهادة على الناس أجمعين ".
إن تشبث أمة الإسلام بقوانين الله و سننه الأزلية الثابتة يخضع في التطبيق للنسبية التي يخضع لها سائر عمل بني آدم القابع في إطار زماني و مكاني محدودين في حياته الدنيوية .. إن خضوع المؤمن في أي عمل يكتسبه هو عمل نسبي لا شك في ذلك لأنه يتم في مكان و زمان محدودين حتما .. فما ارتآه الرسول الكريم و صحابته في الخضوع لشرع الله و تشكيل مختلف الأجهزة التنفيذية في الميادين الأمنية و العسكرية و الإجتماعية و الإقتصادية و السياسية و غيرها .... لتسيير و تيسير حياة المسلمين في إطار دولتهم الفتية آنذاك .. قد تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي يرتئيها المسلمون في العصر الحديث لبعث "دولة الإسلام" – دولة توحيد الله - القادرة على لمّ شعث المسلمين و تفرقهم .. و توحيدهم في كيان واحد و قوي ، قادر على نصرة المسلمين و حماية مصالحهم المادية و المعنوية و كل المستضعفين في الأرض و نصرة دين الله .
إن تغير العصر و تطور أساليب الحياة فيه و تقدم منتجات الحضارة.. لا يعني مطلقا تغيير المسلمين لصراط الله المستقيم و سننه الأزلية التي فصلها الله في كتابه العزيز.. بل يعني فقط الأخذ بأسباب الحداثة المادية في الخضوع لكل هذه السنن و كيفية تطبيقها التطبيق الأمثل و الإجتهاد في تنفيذ "الأحكام القرآنية" قدر المستطاع .. إذ لا بد من الأخذ بأحدث الأساليب الأمنية و العسكرية و الجهادية والإقتصادية و غيرها لحماية كيان الدولة والأمة الإسلامية من الأعداء المتربصين ... و لا بد لاستحداث الوسائل و الآليات و الأجهزة التنفيذية المناسبة الكفيلة بتوزيع ثروات المسلمين في أرض الإسلام بأقصى درجات العدالة و الأخوة الإسلامية و مراقبة الله التي تجمع المسلمين حكاما و محكومين .. و لا بد من استغلال منتجات الحضارة المعاصرة لاستنباط كل قوانين الله المفصلة في الذكر الحكيم .. حذرين من الوقوع في استنباط قوانين متضاربة متناقضة لأن الإختلاف في "استنباط الأحكام الشرعية" برهان قوي عن زيغنا عن الطريق المستقيم الذي سطره الله في كتابه العزيز، لأن الله قد أخبرنا "أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، كما هو شأن المدارس الفقهية الإسلامية التي تتضارب الأحكام فيما بينها و تتناقض و تختلف باختلاف المجتهدين مما يبرهن بقوة عن انحراف كل هذه المذاهب الفقهية و المدارس الإجتهادية عن الإسلام الصحيح %.
بقايا الإستعمار في ديار الإسلام
منذ انجلاء الإستعمار العسكري الغربي عن أرض العروبة والإسلام نشطت قوى الردة من بقايا هذا الإستعمار بكثافة لضرب مقومات أمتنا الإسلامية و تقزيمها وطمس هويتها الحضارية وتكريس واقع التخلف و"حياة الأنعام" لدى المواطن العربي وكل ما من شأنه أن يؤبد تبعيتنا الحضارية واستكانتنا للعبودية و الإستغلال و التخلف ، ومن ثمة يسهل إلحاق هذه الأمة العظيمة ذليلة محطمة بمصاصي دماء الشعوب.! وقد تنوعت أنشطة هذه القوى السياسية و الدينية و الإقتصادية و الثقافية و تكاثفت في العشرية الأخيرة !؟ حتى شملت كافة الميادين المؤثرة تقريبا، وسأكتفي بذكر بعض النماذج من التخريب الذي أحدثته قوى الردة و التغريب في تونس الخضراء ، بلاد عقبة بن نافع و طارق بن زياد .
ففي ميدان الشاشة الصغيرة نجد عديد المسلسلات التي تكرس العقلية الخرافية لدى المواطن العربي التونسي وتقترح عليه حلولا وهمية للمشكلات الكثيرة التي يعاني منها كمشكلة الفقر والبطالة ، فتحلها له هذه المسلسلات بالعثور المفاجئ على كنز مدفون، أو أن يمن عليه الملك/ الإله ، بثروة تقلب حياته رأسا على عقب، أو يزوجه ابنته الوحيدة فيصبح ذلك الفقير المعدم وزيرا يتكلم فيطاع!!؟ وجماع هذه المسلسلات نجدها في حكايات "عبد العزيز العروي" الذي لا تزال حكاياته المسجلة إذاعيا و تلفزيا ، تبث ويعاد بثها المرات العديدة منذ حصول تونس على "استقلالها" وإلى اليوم .
ولمحاربة فكرة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" المتأصلة في ديننا الإسلامي ، نجد مسلسلات يعاد بثها باستمرار حتى ترسخ في وعي المواطن، من قبيل "مسلسل الحاج كلوف" تنفر الناس من التدخل في شؤون أفراد المجتمع وتصور الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر "بهلوانيا" لا يجلب سوى الإشمئزاز أو الضحكة، وقد صارت المقولة السائدة عندنا في تونس "الحاج كلوف يستأهل عشرة كفوف" (أي عشرة صفعات).
وفي السنوات الأخيرة لم يعد هم السينما التونسية التي تدعمها وزارة الثقافة و المحافظة على التراث بالمليارات من مليماتنا ، سوى محاربة القيم العربية الأصيلة، و رسم ملامح حضارية لا تمت لقيمنا الإسلامية بصلة فيصبح المجتمع في شريط "عصفور السطح" لفريد بوغدير لا يعرف أفراده سوى الجري وراء تلبية غرائزهم الجنسية الملتهبة بكل السبل ، وتتحول المرأة إلى جسد عار لا يعرف الإحتشام إليها سبيلا، بل وتصبح الفتاة التونسية في شريط "صيف حلق الوادي" تلهث وراء من يَفتض لها بكارتها ، متحدية جميع القيم المجتمعية السامقة ، ولا يهمها من يكون خدينها يهوديا أو نصرانيا أو "مسلما"!؟ ويتحرر المجتمع من كل ثوابته وقيمه فيغلب على الأفراد شرب الخمرة والتسكع في الشوارع ومراودة الفتيات واختلاط الحابل بالنابل في مناسبات الفرح ، واتخاذ العشاق وبيع الذمم وتفضيل معاشرة الأسر اليهودية والمسيحية و التماهي كلية مع تقاليد المجتمع الغربي والولاء لكل ماهو غربي وكل ذلك رمز على تقدم الوطن وتحرره! " لأن التحرر الجنسي هو بداية لتحرير المجتمع !؟
أما مهمة الثقافة في بلادنا فقد صارت " المحافظة على التراث " !!؟ و ياله من تراث ؟ التراث : هو لباس تقليدي يحول التونسي و التونسية إلى موضوع فرجة و "كركوز" في خدمة السياحة ... !!؟ أما المشاريع الهامة فتسمى بأسماء ذات مرجعية وثنية قديمة : من قبيل قرطاج و عليسة و حنبعل ...! لفك الإرتباط النفسي و الفكري بين أمتنا الإسلامية و مجتمعنا التونسي ذو المرجعية العربية الإسلامية ، وقد ارتفعت في مجال العمران – النزل السياحية والبنوك عاليا في سماء مدننا وقرانا لتأخذ بذلك مكان الصومعة والمسجد ( المغلق كامل اليوم إلا خلال توقيت أداء فريضة الصلاة !؟) و المؤسسات العلمية، وكل ذلك من شأنه أن يعطي انطباعا عاما بأن الرفعة والولاء قد تحول من الولاء لله ولدينه ولقرآنه و للأمة الإسلامية ، ليصبح الولاء "للدينار وللغرب"!؟ وقد صارت البيوت والمنازل مكشوفة، وتبنى بطريقة لا يراعى فيها الحياء ولا أسرار الناس وبيوتهم ولا كون المرأة عرضا يجب أن يحفظ ويصان كما أمر رب العزة .
أما اللغة الفصحى فهناك من أصبح يتمعش بمحاربتها ويزعم أن اللهجة الدارجة المحلية أفضل وأنجع من لغة القرآن، اللغة التي كتب بها الجاحظ والمعري وابن سينا وابن خلدون ... وغيرهم من جهابذة الحضارة الإسلامية، ولسان حاله يقول بفجاجة: "من أراد التقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة الغربية فلا يتكلم العربية الفصحى!" وقد صدرت حتى الآن – على حد علمي- صحيفتان أسبوعيتان ناطقتان كليا أو جزئيا باللهجة الدارجة وهما "الصريح" و"الأخبار" وقد صرح رئيس تحرير "الأخبار" نجيب الخويلدي ( أصبح يعمل مع أسبوعية أخبار الجمهورية المروجة للعرافة و العرافين و الدراويش و محاربة كل نفس إسلامي ) منذ مدة على الفضائية (تونس7) بأن اللغة الفصحى قد صارت في العصر الحديث عاجزة عن التعبير عن كل مشاغل الإنسان! وهنا يتبادر إلى الذهن، أي علم سنكتبه بلهجات تفتقد إلى المصطلحات العلمية والأدبية التي تشتمل عليها اللغة الفصحى بالإضافة إلى اختلاف هذه اللهجات من بلد إلى آخر، كما تختلف في البلد الواحد باختلاف مناطقه وأجيال أبنائه!! لقد استنبطت الشعوب هذه اللهجات الدارجة لتيسير التعامل اليومي فيما بين أفرادها وقضاء الحاجات اليومية البسيطة فكيف نسمح باتخاذها بديلا عن اللغة الفصحى للتعبير عن حضارتنا وإبداعاتنا وابتكاراتنا؟! وإني أتحدى كل من تحدثه نفسه باتخاذ اللهجات الدارجة بديلا عن لغتنا القومية ، أن يكتب مقالا بلهجة دارجة عن نظرية ابن خلدون مثلا في علم العمران البشري أو ابن سينا والرازي في الطب أو غيرهما من النظريات العلمية أو الأدبية!
أما مهرجاناتنا فقد صارت مناسبات لممارسة العهر السياسي و الثقافي و الفني و ضرب كل القيم النبيلة النابعة من قيم ديننا الإسلامي الحنيف و الترويج للذوق السمج و دعم العهر و الميوعة ماديا و إعلاميا باسم التفتح على الثقافات العالمية .
هذا بعض ما فعلته قوى الردة و التغريب في تونسنا العزيزة ولا تزال تخطط وتجتهد وتتحرك في كل المجالات الثقافية والتعليمية والسياسية و الدينية لتكريس واقع جديد يقضي على ما تبقى من هوية هذه الأمة العربية المسلمة، لتقضي بذلك على أي أمل يمكن أن يراود هذه الأمة العظيمة للنهوض مرة أخرى من كبوتها والتحرر من براثن الإستعمار و الإستبداد والتخلف و التبعية الحضارية المهينة % .
أنظمة حكم فاسدة ؟
لعل أبرز انجازات حرب غزة الأخيرة أنها كشفت – بما لا يدع مجالا للشك - سبب تخلف وانحطاط أمتنا العربية و الإسلامية : "خير أمة أخرجت للناس" في العصر الحديث، فهذه الأمة العظيمة قد ابتلاها الله بأنظمة حكم فاسدة جعلت همها الرئيس تكبيل أفراد الأمة ومنعهم من إنجاز أي عمل حضاري من شأنه أن يعيد للأمة القوة والإزدهار، حتى تتمكن من أداء المهمة المناطة بعهدتها... وهي : (الشهادة على الناس وقيادة مسيرة الشعوب نحو التآخي والتعارف والرحمة و الحياة الحقة ) ، تبعا لقوله تعالى: "و كذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس .." وقوله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه و سلم "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "...
لقد برهنت الأنظمة الحاكمة لبلاد العرب والمسلمين أنها وريثة للإستعمار الغربي .. وأن الغرب الإستعماري قد بوأها مكانته إبان استعماره المباشر لديارنا، حتى تنجز المهمة التي من أجلها استعمر ديارنا .. والمتمثلة أساسا في نهب ثرواتنا والخيرات التي رزقنا الله بها في أرض الإسلام .. وتكبيل القوى الحية للمجتمع لإدامة تخلفنا وتبعيتنا المهينة للمستعمر الغربي حتى يواصل هيمنته علينا سياسيا و حضاريا و عسكريا... وبذلك تتحقق مقولة "السيادة والعبودية" التي يؤمن بها فلاسفة الغرب منذ عهد اليونان .. ! فهم "السادة" ونحن "العبيد" و " الخدم " كأننا ما خلقنا إلا لتحقيق سيادة الرجل الغربي على شعوب العالم والسهر على رفاهيته.. وهكذا تصبح رفاهية الغرب الإستعماري لا تتحقق إلا بفقرنا نحن وفقرنا هو وليد رفاهية الغرب الناهب لثرواتنا و المهيمن على قادتنا أعانهم الله...؟!
لقد مثلت الحركة الإسلامية الفلسطينية طلائع هذه الأمة المجاهدة .. فكان لابد من "تأديبها" بل تصفيتها.. فأوكلت هذه المهمة القذرة لقاعدة الإستعمار الأولى المتمثلة في الكيان الصهيوني اللقيط ، بمساعدة أنظمة لقيطة ، منصبة تنصيبا من قبل أجهزة المخابرات الغربية ، لا دخل للشعوب بها و لا بعمالتها و إجرامها في حق القوى الحية ببلداننا . !!
إن المساندة القذرة للصهيونية المقيتة في محاصرة الشعب الفلسطيني قد جاءت من قبل نُظُمٌ قطرية متخلفة أغلقت الحدود أمام شرفاء الأمة والتنكيل بكل من سوّلت له نفسه دعم طلائع هذه الأمة المجاهدة و المتمثلة في الحركة الإسلامية الفلسطينية المجاهدة.
فالغرب الإستعماري تفتقت ذهنيته الإجرامية إبان استعماره لديارنا على زرع غدّة سرطانية في قلب الأمة وأمدها بالمال والسلاح وكافة أنواع الدّعم و الحياة ...! وساند و دعم لتولي الحكم و المسؤولية في ديار الإسلام مجموعة أشربت ثقافته وفلسفته للكون و الإنسان والحياة، تولت الحكم وتسيير بقية أعضاء هذه الأمة ... مما حكم على جسد الأمة بالمرض والهزال والتخلف..! ؟
لذلك لا يمكن الحديث عن زوال هذه الغدة السرطانية ، وهي الكيان الصهيوني اللقيط المنغرس في قلب أمتنا ،إلا بزوال أنظمة قطرية لقيطة ، فاسدة لا ترى مانعا من التوحد إلى حد التماهي مع هذه الغدة السرطانية ، وهي أولى الخطوات لتحرير أمتنا من براثن التخلف والإستعمار والنهب وعودة أمتنا الإسلامية الواحدة للفعل الحضاري وقيادة الشعوب لما فيه خيري الدنيا والآخرة ورحمة الله .
مصطلحات مضللة
درجت جل صحفنا ومجلاتنا الوطنية والقومية على استعمال مصطلحات غريبة، منبتة عن قيمنا الحضارية، تؤذي الذوق العام وتساهم في تكريس مفاهيم يبتهج لسماعها العدو و تثلج صدره وتعينه على تعميق الهوة التي صارت سحيقة بين مفاهيمنا وقيمنا الحضارية و معاييرنا الإسلامية ، وبين ما يظهر من استعمالات اصطلاحية في المراسلات والتحاليل السياسية خاصة. والخطورة تكمن في أن هذه المصطلحات وقع تبنيها من قبل صحف ومجلات جديرة بكل احترام، والتي أصبحت تعكس بحق ما يختلج في صدور أبناء هذه الأمة العظيمة، وسأضرب لذلك أمثلة وقع استعمالها مرات عدّة في صحيفة القدس العربي.
"عملية انتحارية" تعبير تستعمله كل صحفنا تقريبا إثر كل عملية استشهادية يقوم بها أبناء الحركة الإسلامية في فلسطين، واستعمال هذا المفهوم يكشف عن غياب مفهوم الإسلام الذي يحرم الإنتحار وقتل النفس ويعتبره من الكبائر التي تحرم على مرتكبه دخول الجنة، أما الشهادة أو الاستشهاد – فهو من أكبر القربات إلى الله عز وجل ،لأنه يأتي استجابة لأوامر الله بالقتال في سبيله ويضحى بالنفس و المال و الأهل لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق وكل القضايا العادلة و إعلاء كلمة الله و التمكين لشريعته العادلة في الأرض ، ومن استشهد في سبيل الله لإخراج العدو من أرض مغتصبة ونصرة المستضعفين من الرجال و الولدان و النساء ... في الأرض من الظلم المسلط عليهم فهو حي لا يموت بفعل حضوره الدّائم في الذاكرة الجماعية وتحفيزه لقوى الأمة على مزيد التضحية والنضال و الجهاد من أجل استرجاع الحقوق المغتصبة.
"التطرف، الإرهاب، متشددين.." هذه تسميات تطلق على جميع الإسلاميين في العالم مهما اختلفت مفاهيمهم و طرق عملهم وأساليبهم، ولا أعرف ماهو مرجعنا في هذه التسميات؟ هل هي مبادئ الإسلام وقيمه و معاييره أو مبادئ الغرب وضلالاته! فالله قد خص هذه الأمة الإسلامية لتكون هي الشاهدة على الناس بحكم ما تملكه من قرآن كريم يحتوي على كل المعايير الفطرية للسلوك البشري ( ما فرطنا في الكتاب من شيء) مما يكسب هذه الأمة القدرة على معرفة الحق من الباطل والغث من السمين ، والفصل في القضايا الخلافية، فالأمة الإسلامية هي أمة وسط أي أمة العدل و القسطاس المستقيم ، إذا التزمت بتطبيق الإسلام و شريعته العادلة، عادلة لا تبخس حقوق الآخرين أبدا .
وها نحن ندرك اليوم الظلم والطغيان والقهر المسلط على جميع شعوب الأرض – بما فيها شعوب الغرب نفسه - في ظل هيمنة مقاييس الغرب وقيمه و معاييره الخاطئة و الظالمة و المنحرفة عن سواء السبيل!.. فهل يعقل بعد ذلك أن نعتمد مقاييس هذا الغرب في إطلاق تسميات غير محايدة بل متفجرة وتحمل طابع مفاهيم الغرب وتصنيفاته الظالمة!
بقي أن ألاحظ شيئا هاما جدا يخص تحليل الخبر وهو ما أسميه بـ " المكيافيلية " في التحليل السياسي، كأن نعتبر مثلا إعلان دولة عربية عن عدم حضورها "قمة ما" عملا قوميا جليلا متناسين حقائق هذه الدولة التاريخية وعمالتها للصهيونية والإمبريالية الأمريكية بشكل مؤكد و دائم، فكيف نسمح لأنفسنا بإقناع القراء – الذين هم مسؤولية في رقابنا - أن مجرد الإعلان عن عدم الحضور للقمة يمثل حدثا بارزا يحسب لهذه الدولة أو تلك مما يوقعنا في التناقض والتحاليل القاصرة لنفاجأ بعد حين أن هذا الإعلان ماهو إلا مجرد تكتيك سياسي وليس حقيقة قابلة للتطبيق! إن تاريخ الأفراد والدول له أهمية قصوى في تحديد صدق توجهاتهم المستقبلية . فقراءتنا لتاريخ الصهيونية والأسلوب الذي اتبعته لاغتصاب فلسطين من أهلها ، يجنبنا الوقوع في أحابيلها وإضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه : كأن نصدّق إمكانية إرجاعها الحقوق إلى أصحابها دون قتال كبير وجهاد متواصل!! و محاربتها الند للند أي مقارعتها بدولة تملك من الإمكانات أكثر مما تملك ماديا و معنويا ، فالمجرم يبقى مجرما حتى وإن لبس زي النساك والمتنسكين%
ردا على الدكتور محمد عمارة :
إِنَهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوب !
سئل الدكتور محمد عمارة من قبل إحدى المجلات الأدبية الأسئلة التالية و سنعتمد إجاباته على أسئلة هذه المجلة منطلقا لردنا على أطروحاته في تفكيك المجتمع العربي الإسلامي .
- يتحدث البعض عن موت الأمة الإسلامية، ترى ما مفهوم الأمة .. وما مقومات وجودها ؟
يحدد الدكتور محمد عمارة مفهوم "الأمة" فيقول:"المسلمون أمة بمعنى جماعة .. تربطها وتجمع بينها وتوحدها عقيدة واحدة، وشريعة واحدة، حضارة واحدة .. وهناك عنصر آخر هو دار الإسلام أو الوطن، هذه ثلاثة جوامع .. على أساسها تكونت أمة إسلامية، وهي لا تزال موجودة إلى الآن بكل مكوناتها ومظاهرها منذ أن كونها الإسلام...!!؟
يلاحظ بادئ ذي بدء أن هناك خلطا فضيعا في ذهن الدكتور محمد عمارة بين مفهوم الأمة ومقوماتها وبين حضارة الأمة وإبداعاتها، فالإسلام بما هو "دين الله وشريعته" قد دعا على لسان كل الأنبياء والمرسلين عليهم السلام إلى عبادة الله وحده دون شريك وإفراده بالطاعة والخضوع :"اعُبُدُوا الله مَا لَكُم مِنْ إِلاَهً غَيْرَهُ" وقد لبث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة يدعو قومه إلى وحدانية الله وإفراده بالربوبية والطاعة وكانت المحصلة (86) سورة مكية لغرس عقيدة التوحيد في نفوس المؤمنين بالله حتى إذا ما تم له ذلك كوّن عليه السلام "أمة إسلامية" بالمدينة يتبع أفرادها الشريعة الإسلامية في علاقات بعضهم ببعض في جميع ميادين الحياة حتى كانت المحصلة (28) سورة مدنية محدّدة وضابطة لشريعة "الأمة الإسلامية" وبذلك يكون مفهوم الأمة في الإسلام يعني:"مؤمنون بالله ربا وخالقا وهاديا ومشرعا واحدا لا شريك له، تصطبغ كل مفاهيمهم عن الكون والإنسان والحياة بصبغة مفاهيم القرآن المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم".
فالأمة الإسلامية كائن حيّ فاعل ومنتج يشبه إلى حدّ بعيد الشجرة المباركة الطيبة أصلها ثابت لا يتغير (وحدانية الله وربوبيته ) وفرعها في السماء (الشريعة المنبثقة عن الله وكلماته) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (إنتاج الحضارة والمدنية) و بهذا المفهوم تكون حضارة الأمة الإسلامية هي نتاج مقوماتها الربانية الثابتة وليس جزءا من الشريعة أو العقيدة، فالعقيدة والشريعة الإسلامية قد اكتملت معالمها منذ اكتمال نزول الوحي"اليَومَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمْ الإسْلاَمَ دِينًا " (المائدة الآية 3) وتتلخص في "آمَنَ الرَسُولُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌَ أمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبَهُ وَرُسُلَهَ لاَ نُفَرِقُ بَينَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" (البقرة الآية 285). وهي ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان لدى كل من أسلم وجهه للحي القيوم ، ومعلومة علما يقينيا كي "يخضع المؤمن لضوابطها ومعانيها بملء إرادته.."
أما الحضارة فهي متغيرة ومتطورة لأنّها نتاج الأمة الإسلامية و إبداعاتها عبر مختلف العصور و كل ما أبدعه بنوها في مختلف ميادين العمران البشري كالطب والجراحة والهندسة والفلاحة وعلم التاريخ والجغرافيا وتكنولوجيا الإتصال والتعليم والحرب .. كما أن الحضارة تأتي نتيجة تراكمات معرفية وتجريبية وإنسانية في مختلف ميادين الحياة والعيش وتفاعل الإنسان مع مختلف العوالم المخلوقة لله ربّ العالمين . كما أنها قاسم مشترك بين كل البشر مهما كانت أديانهم وشرائعهم.
إن من بديهيات معنى توحيد الله أن يحيا الإنسان المؤمن والأمة المسلمة في أرض الله وتنتظم حياتهم في الأسرة والمجتمع طبقا لما يرضى الله. وما يرضي الله مفصّل في كتاب الله تفصيلا بينا، والتعامي على هذه الحقيقة تحول الإنسان مهما علا شأنه ، إلى أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع وجاهل لا يعلم من حقائق الحياة شيئا ، فيعيش الإنسان في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها وإن رآها يراها على غير حقيقتها، فتدلهم السبل أمامه وتقلب كل مفاهيم الحياة في ذهنه رأسا على عقب، ولا عجب بعد ذلك أن يرى مؤلف أكثر من 200 كتاب في فكر التجديد الإسلامي أن الأمة الإسلامية التي كونها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال "إلى الآن موجودة بكل مكوناتها ومظاهرها"! ! ؟؟ واعجبي أين هي ؟ لعله يقصد مصر حليفة إسرائيل !!!؟
لقد أقام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم سلطته على أرض المدينة المنورة/ أرض أنصار الله التي آمن جل سكانها بوحدانية الله خالق الكون والإنسان والحياة.. كما آمنوا بربوبية الله للمجتمع المسلم فهو المشرع الوحيد ، وهو مدبر الأمر كله ، وهو الحاكم لا معقب لحكمه ، وقد خلع المسلمون عنهم آنذاك رداء الجاهلية عقيدة وأخلاقا وعادات ومعاملات.. وقالوا لخالقهم ومدبر أمرهم بإيمان ويقين "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرَ" وكانوا "يوفون بالنذر" و"يُؤْثِرُونَ عَلىَ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٍ" مما شكل منهم "خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" "تَأمُرُ بِالمَعْرُوفِ المُفَصَلِ فِي الذِكْرِ الحَكِيمِ وتنْهَى عَنْ المُنْكَرِ المذكور في القرآن ، وتؤمن بالله ربّ كل شيء الذي أمرها بالجهاد في سبيل إيصال كلماته وبصائره للناس كافة ومن ثم وراثة الأرض/كل الأرض التي وعدها الله عباده المتقين /الصالحين. فالوطن لم يشكل في أي يوم جامع من جوامع الإسلام كما يزعم الدكتور محمد عمارة وإلا لما وصلت تعاليم الإسلام مصر أو شمال إفريقيا .. أو غيرها ، فالأرض في المفهوم الإسلامي كلها لله عزّ وجلّ وهي وقف على عباده الصالحين الذين يحتكمون إلى شرع الله عزّ وجلّ في كل صغيرة وكبيرة.. والأمة الإسلامية مطالبة - إذا ما وجدت - بالجهاد والقتال في سبيل الله حتى يكون الدين كله لله وتعم شريعته ورحمته أرض الله كلها.
إن العمى الفكري وغياب البصيرة القرآنية جعل الدكتور محمد عمارة يرى "أن الاختلاف سنة من سنن الله سبحانه وتعالى" وأن الأمة الإسلامية فيها "تنوع ديني .. شرائع وملل.." وكما ألمحتُ من قبل فإن شريعة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل لأنها مبنية على حقائق الكون والإنسان والحياة و فطرته التي فطر الناس عليها ، والحقائق لا تتغير ولا تتبدل "أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَطِيفُ الخَبِيرُ"
لقد علّم الله آدم الأسماء كلها وحقائق الأشياء ومعانيها منذ خلقه ، وشرّع لأمة الإسلام ما وصى به كلّ الأنبياء عليهم السلام من قبل "شَرّعَ لَكُمْ مِنْ الدِينِ مَا وَصَى به نُوحًا وَالذِينَ أَوْحَينا إليكَ وَمَا وَصَيْنَا به إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أقٍيمُوا الدِيْنَ وَلاَ تتََفَرَقُوا فِيهِ"(سورة الشورى الآية 13). إن أوامر الله ونواهيه ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وبالتالي ليس هناك إمكانية للإجتهاد في الدين لأن الإجتهاد معناه استنباط أحكام جديدة تختلف باختلاف المجتهد و باختلاف الزمان و المكان ، كما أن الإجتهاد معناه الطعن في قول الله عزّ وجلّ "وَنَزَلْنَا عَليك الكِتًابَ تِبْيَانًا لِكُلِ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٍ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (سورة النحل الآية 89) وقوله عز وجل "وَمَا اخْتلَفُتُمْ فِيهِ مِنْ شَيءٍ فَحُكْمُهُ إلىَ الله" (سورة الشورى الآية10 ) . فالحلال بين والحرام بين ولا يعبد الله إلا بما شرّع ، واجتهاد الإنسان المؤمن يجب أن يقتصر على ما من شأنه أن يرتقي بنوعية حياته الإجتماعية والإقتصادية و السياسية والعلمية و غيرها... كاستنباط طرق ووسائل حديثة ومتطورة في ميدان الفلاحة والصناعة وتيسير تنقل الإنسان والمعرفة... وإحداث وسائل جديدة لطلب العلم والمعرفة... و أيجاد المؤسسات الكفيلة بتطوير الإقتصاد و الإرتقاء بالأداء السياسي و الحكم الرشيد و تجسيد عدالة الإسلام في كافة ميادين الحياة : ما سئل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) في أمر يهمّ عقيدة المسلمين وشريعتهم في الأسرة والمجتمع والحياة إلا وكانت الإجابة قاطعة من الله عزّ وجلّ : "يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ" (النساء الآية 176) "وَيَسْتَفْْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللهُُ يُفْتِيكُمْ فِيهُنَّ" (النساء 127) "قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنَ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ ولاَ أقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إَنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ" (الأنعام 50) "اتّبِعْ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إلاَهَ إلاَّ هُوَ وأعْرَضْ عَنِ المُشْرِكِينَ" (الأنعام 106)، فإذا كان الأنبياء عليهم السّلام مأمورون بإتباع الوحي مع أتباعهم و الخضوع التام لشريعة الله المفصلة بالوحي وعدم أعمال العقل في أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين لأنّ كتاب الله قد فصل القول في كلّ صغيرة وكبيرة.. فإنّ ألأوْلى بالمؤمنين عدم الاجتهاد في أي مسالة تخصّ حياة المؤمنين الإجتماعية والإقتصادية والسياسية مادام كتاب الله قد فصل فيها القول تفصيلا...
لقد كان لهذه الفكرة الخاطئة "الإجتهاد في الدين" و ظهور المدارس الفقهية ... دور أساسي في ظهور الفرق والطوائف الدينية عبر مختلف أحقاب التاريخ الإسلامي...! وقد ساهمت هذه الفكرة في تمزيق وحدة الأمة الإسلامية وتشرذمها إلى ملل ونحل متقاتلة.. متعادية مما حول "أمة الإسلام" إلى لقمة سائغة بيد "المغول والمستكبرين في الأرض و الفراعنة المتألهين" قديما وحديثا.
إن الأمة التي يدعو إليها الدكتور محمد عمارة بل يقر بأنها لا تزال موجودة منذ أن كونها الرسول الكريم (صلى الله عليه و سلم) أمة قد تبرأ منها الرسول الكريم نفسه وكل الأنبياء من قبله :"إِنَ الذِينَ فَرّقوُا دِينَهُم وَكَانُوا شِيعًا لَسْتُ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللهِ ثُّمَ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ"(الأنبياء الآية 159) .
أخرجت معصية واحدة أبانا أدام من الجنة، فما بالك بمن يقدمون للناس مفاهيم مغايرة تماما لما قد فصّله الله في كتابه العزيز في آيات بيّنات لا يخطئ إدراكها وفهم معانيها من خلص عمله لله رب العالمين : إن مخالفة المعاني الواردة في كتاب الله قد أنتج "أُمَةٌ ميتة مزقوها إربا إربا باجتهادات ضالة عن هداية الله ، وأمة مزقوا وحدتها حتى صارت تحارب بعضها بعضا.. أمة حُرُماتها قد انتهكت من قبل أبنائها .. أمة انتهكت حرماتها من قبل مفكرين صمّ بكم عمي شرّعوا للعصبيات والقوميات.. خلعوا لباس الإسلام على حُكّام لا يحكمون بما أنزل الله .. شرّعوا للعنف والقتل بدعوى "الجهاد" شرعوا للإصطفاف وراء ظلمة لشعوبهم .. خاضعين تابعين للهيمنة الغربية.. فهل يطمع أي مسلم صادق بأن يكون مفكرا مسلما دون تقصّي مفاهيم القرآن و اتباع مفاهيمه في كل صغيرة وكبيرة خاصة وأن الله قد أخبر المؤمن أنه "مَا فَرَطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيءٍ" و"كُلَ شَيءٍ فََصَلْنَاهُ تَفْصِيلاً""وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَلْنَاهُ عَلَى عِلْمِ هُدًى وَرَحْمَةٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُوُنَ" (الأعراف الآية 52). ثوبوا إلى رشدكم أيها المتاجرون بالدين يرحمكم الله !!؟
حصوننا تتهاوى من الداخل !؟
إن المرء لتعتصره الآلام ألوانا كلما تأمل أحوال أمتنا و رأى حصوننا تتهاوى من الداخل منذ أن استبدل الغزاة و المستعمرون غزوهم العسكري لديارنا بغزو العقول ، و قد نشطوا لغزو الإنسان في عقيدته ، و في لغته ، و في نمط معيشته ، من خلال إحلال نماذج معينة من التفكير و النظر إلى الحياة و السلوك ، محل النمط السائد و النابع من روح شعبنا العربي المسلم ، ، من قيمه و تقاليده و عاداته و أخلاقه ... و لقد نجح الغزو الحضاري الغربي في زرع أبناء جلدتنا ممن يتكلمون لغتنا ، و يتبنون نظرته لحضارتنا و يحملون أفكاره و قيمه إلى حد التماهي التام معه !
من ذلك نجد مثلا أن السينما العربية ترتكز في كل الأفلام التي تنتجها على فلسفة قوامها اتخاذ الواقع المادي للحياة البشرية مصدرا وحيدا لاستنباط القيم ، و الأخلاق و الحلول التي يسير على هداها الإنسان ، لمواجهة مشكلات الحياة المختلفة ، و أبعدت تماما فكرة استلهام ثوابتنا الإسلامية و بصائرنا القرآنية و قيمنا الحضارية للإستعانة بها على حل مشكلات المجتمع الفردية و الأسرية و الجماعية، بل واستجمعت كل الحجج " الشرعية " و "الدنيوية" من قبل المفكرين و رجال الإعلام العرب لإقناعنا بمشروعية " الأسوة الغربية "، ليتخذ بذلك شرط الإزدهار الحضاري معنى التماهي مع الغرب الإستعماري الداعي إلى وجوب اعتماد التنظيمات و المؤسسات العصرية الأوربية .
من ذلك أن فيلم " المصير "للمرحوم يوسف شاهين و الذي شكل حدثا بارزا خلال بدايات عرضه ، يوحي بادئ ذي بدء بعجز اللغة العربية الفصحى عن التعبير عن رموز حضارتنا الإسلامية و أفكارها عندما أنطق المرحوم أبطال فيلمه و من بينهم ابن رشد ( نور الشريف ) باللهجة المصرية الدارجة ، مستجيبا بذلك لدعوات رموز الإستعمار مثل (ولمور) الذي ناشد الحكومة المصرية مرارا أن تمد يد المساعدة" للعامية" ، : ( لتخليص الطبقات المثقفة – حسب زعم "ولككس" – من السخرية العقلية التي دامت أربعة ألاف من السنين ): ( المرجع : تاريخ الدعوة إلى العامية ، نفوسة زكرياء ص 28 - 41- 42) . كما مضى هذا الفلم " المصير "
قدما في الإيحاء بأن هناك تعارضا تاما بين حرية البحث العلمي و بهجة الحياة، و بين ما تغرسه مفاهيم الإسلام و آيات القرآن في نفوس المسلمين من تزمت و إرهاب !! ؟ و يقترح علينا الفيلم في لقطة معبرة بين ابنة رشد و يوسف الشاب اليافع أن نتعلم أصول الحب و أحواله من هذا الأخير رمز الحضارة الغربية !؟
أما سياستنا الرعناء في مواجهة قضايا العصر فقد غيبت عنها تماما فكرة الأحوال الثابتة في ميدان السياسة الإسلامية الرشيدة التي أنزل الله في شأنها آيات بينات نبراسا للحاكم العادل و الناجح في خدمة أمته ، كوجوب الشورى ، و تشريك كل المواطنين في تحمل المسؤولية في إدارة شؤون المجتمع ، و تكوين " أمة " تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر " و تذكر بقوانين الله الفطرية في الأسرة و المجتمع ... و لو عن طريق وسائل الإعلام المختلفة ، و الرجوع إلى كتاب الله لفض النزاعات التي تحدث بيننا حكاما و محكومين ، و نصرة المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان .. بل أصبح في عرفنا السياسي أن هؤلاء المستضعفين أولى ضحايا الصراع على السلطة ، و ضحية يسهل تقديمها كبش فداء للفوز بكراسي الحكم و المسؤولية ، مثلما حدث في فلسطين مؤخرا ، و ا لتي لا تزال تنزف و لا من مجيب ، كما أصبح الولاء للغرب و ديمقراطيته المتوحشة ، لافتة لكل السياسات العربية ، معارضة و حكومات رغم كل المساوئ التي بانت للعيان ، و قد نسي قادتنا و زعماؤنا : أن هؤلاء يرضوننا بأفواههم و تأبى قلوبهم إلا الحقد و الكراهية لكل ما يمت لهذه الأمة العظيمة بصلة . فمتى نعود إلى رشدنا ؟! %
وعــي زائــف !؟
من المخجل حقا أن يتصدّى لقيادة هذه الأمة الإسلامية العظيمة ، أشخاص لا يعرفون حقيقتها ولا يدركون عناصر القوة في هويتها الحضارية ، ولا أسباب الضعف و التخلف فيها ، فيساهمون من غير قصد في تأبيد تخلفنا وتبعيتنا المطلقة لعدو همه الوحيد إذلالنا والنكاية بنا واستغلال ثرواتنا والإستحواذ عليها و تسخيرنا لخدمته و رفاهية شعوبه .
إن من جملة ما ابتليت به هذه الأمة الإسلامية ، تذبذب أبنائها المخلصين بين مناهج مختلفة ومتضاربة في تحليلهم لمجمل قضايانا الحيوية ، أو غياب المفهوم الصحيح و المعيار السليم في أحايين كثيرة مما يوقعهم في غموض الفكرة وقصورها وهذا قد يوصلنا إلى التهلكة مكرهين : فهناك كتاب ومفكرون و محللون سياسيون كثر ، تغيب عن أذهانهم فكرة أن الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية ووحدة أهدافها وكل من يمس الشعب الفلسطيني من قريب أو بعيد يهز كيان الأمة الإسلامية جميعا ويضربها في العمق، بل ويفترض أن تهب كل أحزاب هذه الأمة – جيوشا وأفرادا و حكومات - لنجدته إذا ما تعرض لسوء عملا بقوله عز وجل " وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ". إن الوعي الزائف الذي غرسه الإستعمار ولا يزال يقوم بغرسه عملاؤه وبقايا قوى الردة في بلادنا الإسلامية ، القائل بأن لكل شعب من شعوبنا شأنه الخاص الذي يغنيه عن الإلتفات لكل آلام الأمة العربية و الإسلامية لهو السبب المباشر في كل هزائمنا تقريبا، فهذا الشعور الزائف و المفهوم الخاطئ ، هو الذي أضعفنا ومكن قوى الإستكبار العالمي من الإستفراد بنا كل على حدة : " فالولايات المتحدة تحارب العراق لأنها ضامنة استفرادهم وإسرائيل تفتك بالفلسطينيين لأنها ضامنة استفرادهم ... لم يحدث أن حارب أحد العرب كلهم "
أما من نصبوا أنفسهم الممثلين الشرعيين والوحيدين للشعب الفلسطيني فيتجاهلون أن كل الشعب الفلسطيني "بمتطرفيه ومعتدليه، بحمائمه وصقوره" تجب حمايتهم من العدو الصهيوني وحفظ أرواحهم وممتلكاتهم ولا يتذكرون هذه الحقيقة إلا تحت ظروف قاهرة ولأسباب تكتيكية بحتة !!؟ بل و يتحالفون مع الصهيونية المقيتة للقضاء على مواطنيهم في غزة و حتى في الضفة الغربية ،علهم يفوزون بمنصب قيادي لوطنهم المحتل تحت ظل الإحتلال !؟
ولقد أصبح هم بعض قادتنا – حفظهم الله - محاربة شعوبهم ورعاياهم تحت لافتات التطرف والإرهاب أو باسم الديمقراطية التي أشربوها فعرفوا أن بعض مواطنيهم لا ينتمون إلى عالم البشر!!؟ بل وصاروا يرددون مصطلحات اختلقها أعداؤنا لمحاصرة أي شعلة نور يمكن أن تبزغ في سماء هذه الأمة العظيمة التي ابتعثها الله لتكون رحمة للعالمين%
التعليقات (0)