في حوارات جمعتني مع بعض الأصدقاء كان يطغى على هذه الحوارات في بعض الأحيان سؤال واحد ، كيف نفكر بالمستقبل العربي ومن أية زاوية ؟ ثم يتعمق السؤال ليتحول الى سؤال في الوجود العربي الاسلامي ومستقبل هذا الوجود ؟ ثم الى سؤال الهوية الشائك الى ذلك ندخل في اطارات مختلفة من التحليل في فك طلاسم الثنائية النموذجية القاتلة . لتلك المزدوجات : العقل والنقل، الدين والعلم، الأصالة والمعاصرة، الإبداع والإتباع، التقليد والحداثة، الاستقلال والتبعية، التقدم والتخلف، الأنا والآخر، الوحدة والتجزئة، الديموقراطية والاستبداد العوملة الأنكفاء ...الخ .
ولأن موضوع الهوية بحد ذاته يملك من الإشكاليات الفكرية والتصورية الشيء الكثير ينتهي الحديث عادة الى بناء تصور ما ما يلبث أن يتلاشى أو يتهدم مع كل تحليل جديد أو انبثاق فكرة جديدة ، فمثلا كانت ثمة رهانات تحيل جميعها في نهاية المطاف إلى قضية الهوية كمعطى فكري وجودي . ينبثق السوال عن الهوية مرة أخرى عن تحديد هذا المعطى بمنحناه الفلسفي ، واذا تم تحديد معنى متدارك للهوية من هذه الزاوية . يبرز السوال حول المعنى والمفهوم وقيم التلقي للهوية ومدى توظيف هذا المفهوم للبناء عليه قصد حل تلك الاشكالات.. وكذا نجد أنفسنا في فضاء مشحون بكم هائل من الأسئلة ..على كل كان بعض من أصدقائي دائم التركيز على الهوية الخالصة التي لم تنل منها عوارض الزمن، وبالتالي لا ترى المستقبل الا بعيون الماضي في العودة إلى الماضي. وهناك من رأى الهوية الحقة في التحديث الشامل والقطيعة التامة مع الماضي. وهناك من راهن على إمكانية التوفيق بين الموقفين بحيث تظل رؤيتها للمستقبل رؤية مدعومة بجانب من جوانب تاريخنا. وهناك من يتخذ موقف شديد التطرف حيث يرى أن التفكير في المستقبل يجب أن يتم بدون ذاكرة تاريخية عربية إسلامية. ولذلك يمكن القول بإجمال أن الفكر العربي المعاصر الذي نحن جزء منه، أضحى ميدانا للصراع لا يهدأ إلا ليشتد، بين مرجعيتين: مرجعية تراثية تنتمي إلى الماضي، ومرجعية نهضوية تنتمي إلى المستقبل... والنتيجة هي ما نراه من تنازع بين خطابين يقدم كل منهما قراءة خاصة لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون في الساحة العربية الاسلامية اليوم وأمس وغدا . ولذلك راحت هذه المعركة تشتدبيننا حينا وتخبو في أحيان وكأننا نستعيد تلك الحالة الصراعية المدوية بين المفكرين العرب المعاصرين ذاتها التي غرقوا بها حتى هذه اللحظة دون الوصول الى نتيجة تذكر .. فمنهم من يعتبر أن الرؤية المستقبلية الحقة والجديرة بهذا الإسم تتطلب الجرأة والقدرة على التحرر من الآراء المتحكمة في نظرتنا الحالية إلى الأمور، وبصفة خاصة التحرر من التبعية المطلقة للماضي وقيمه؛ وأن ذلك لن يتأتى إلا بإحداث قطيعة مع الرؤى التقليدية التي لا تطمح إلى أكثر من أن يتخذ المستقبل شكل الماضي البعيد، بحجة أن عطاء الماضي كاف وحده لبناء المستقبل. ومن منظور صديقي المدافع عن وجهة النظر هذه أننا إذا كنا نتطلع حقا أن يكون فكرنا المعاصر فكرا مستقبليا فلا مناص لنا اليوم من الدخول في معركة داخلية مع الذات وتصفية الحساب نهائيا مع تلك الرؤى التي تنظر إلى المستقبل كامتدادا للماضي وتفكر فيه وكأن مسار التاريخ قد توقف. ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن قطيعة من هذا القبيل لم تتحقق بعد في أي مجال؛ لأنه ما من قضية من قضايا الفكر العربي المعاصر إلا والماضي بثقله حاضر فيها كطرف اساسي . حتى ليبدو أن هذه معركة تؤجل دائما ولا يُجرأ حتى الآن على خوضها خوفا من اغتيال التراث . ومما يعزز موقف صاحبي أن الحديث عن الهوية والخصوصية في فكرنا العربي المعاصر أضحى يرتبط في غالب الأحيان بالماضي أكثر مما يرتبط بالمستقبل. ويتجلى الأمر في أننا حتى عندما نعبر عن حاجتنا إلى التحديث والانخراط في الحداثة، فإن ذلك يقترن عندنا عادة بتعاظم هواجس الخوف من ضياع هويتنا كثمن يجب بذله مقابل هذا التحديث نفسه. ذلك لأن الاعتقاد راسخ بأننا ورثنا فيما ورثناه من الماضي تراثا غنيا متجانسا مؤتلفا، كاملا مكتملا، قادرا على أن يوقع بختمه على شخصيتنا وذاتنا مرة واحدة وإلى الأبد.
لكن غاب عن وعي صديقي أن الهوية من أخطر المفاهيم إيجاباً وسلباً في الماضي، وربما سلباً محضاً في الحاضر، فإن كان مفهوم الهوية قد لعب دوراً في إيقاظ وعي الشعوب، وتماسكها بما يدفعها لتحقيق ذاتها، فقد أدى أيضاً لتناحرها، وتدمير متبادل لإنجازاتها، عبر محاولة كل شعب تسييد هويته على غيرها من الهويات ومع العولمة بدأ يتردد في العالم العربي والاسلامي مفهوم الهوية كملجأ أخير يمكن أن يرتد اليه، خوفاً عليها من مؤامرات الغرب لطمسها، علينا أن نقلب أوراق مفهوم الهوية السائد في خطابنا هذا ، لنرى إن كنا قد أضفينا قداسة على مفاهيم لا تستدعي مجرد الاكتراث. رغم تباين مفهوم الهوية بين المهتمين بها، إلا أننا نستطيع أن نجمل تعريفها كالتالي:"هي مجموعة من الملامح الثقافية الأساسية والثابتة، تميز الجماعة عمن سواها، بحيث أن تجاهل واحداً أو أكثر منها يؤدي لتصدع كيان الجماعة هي بهذا جوهر ثابت ومحدد، ومستمر الوجود على مر التاريخ، بغض النظر عن مدى فعاليته في توجيه حياة الجماعة، ذلك المدى الذي قد يتضاءل إلى حد الكمون، في مراحل الغزو الحضاري الكاسح مثلاً، ويصل إلى مستوى الفعالية التامة، في لحظات االارتداد نحو الذات شدة الاستقطاب بين الأصالة وعدم الأصالة، الحق والباطل، بما لا يسمح بمساحة من الحرية، مما يؤدي إلى أحادية النظرة. وبروز إشكالية تحديد مكان الهوية، بمعنى زمانها التاريخي الذي يتيح توصيفها، ويمكننا استعراض أربعة مناهج لبلورة هذا المفهوم : منهج الاعتماد على الخيار الفكري السائد في اللحظة الراهنة: يتناقض هذا المنهج منطقياً مع مفهوم الهوية الذي يستمد مرجعيته من الماضي وليس الحاضر، مما يبطل الاعتماد على المناخ الفكري الحاضر لتحديد موقع الهوية بالاختيار من بين بدائل عديدة، حتى لو كانت كلها ماضوية، فسيبقى الاتهام الموجه لأي خيار هو شبهة دخول عناصر غير جوهرية، أي قادمة من تأثيرات خارجية لتحديد الهوية ، وفي هذا تناقض منطقي، ينسف شرعية كل من المنهج والخيار. منهج الاختيار الانتقائي الذي تمارسه كل فئة في المجتمع وفقاً للأهواء والانتماءات، يعني هذا المنهج الإقرار بتعدد الخيارات، وما هو متعدد يفقد صفة الجوهرية، أولاً لتناقض التعدد مع مفهوم الجوهرية، ثانياً لأن التعدد يعني القابلية للاستبدال، وما يستبدل ليس بجوهري.. الاختيار على أساس "حكم قيم لأزهى العصور في تاريخ الأمة: من الواضح تناقض هذا الأساس مع مفهوم "الهوية المعتمد على الصفات الجذرية، بغض النظر عن تقييم نتائجها العملية، علاوة على التناقض القائم من احتمال تدخل عناصر من تأثيرات خارجية في صياغة المواصفات التي تم على أساسها إصدار حكم القيمة.هكذا ينسف التناقض المنطقي مع المفهوم هذه المناهج الثلاثة، التي لا يخفى أنها الأكثر جاذبية، بل هي الدافع لحماس أهل الهوية، ويبقى المنهج الأخير الذي لن يتحمس له أحد هو الوحيد المتسق منطقياً مع مفهومه.المنهج العلمي التحليلي للاختيار: يعتمد على تحليل المواصفات العامة والملامح الثقافية المشتركة للأمة في عصورها المتعاقبة، من واقع خطابها الثقافي وأدائها العملي وأسلوب حياتها، وطرق استجابتها لمتغيرات كل عصر، وتحديد الملامح الأصيلة، وتتبع فعاليتها في كل العصور، ونلاحظ على هذا المفهوم الماضوي للهوية، أياً كان منهج تحديدها ما يلي: أن تقبع الهوية في الماضي يعني الانتماء للماضي زمانياً، والانعزال للتقوقع على الذات مكانياً، ليكون التطور محل اتهام مبدئياً وحتى يثبت العكس، فيدلل أنه لم يأت بجديد جذري، وأن الآباء والأجداد قد قالوا أو فعلوا مثل ما جاء به في مواقف مشابهة، وأن المسألة لا تعدو تنويع على اللحن الأساسي، أو مجرد تأويل عصري للأفكار والكلمات والأشياء القديمة، في أحسن الأحوال، والادعاء بإمكانية تطور أبعد من ذلك في ضوء هذا المفهوم للهوية ومحاولات تلفيقية للجمع بين ما لا يجمع، بالربط بين التطور كاتجاه للأمام والسلفية كاتجاه للخلف، فتكون النتيجة للخلف إلقي برحالك .على أية حال إن الهوية لا تحتمل معنى واحداً هو معناها الموروث تاريخيا، وإنما تحتمل معنى ثانياً على الأقل يُجافي الأول ويقابل مسلماته. وإن شئنا الدقة أكثر، قلنا إنه لابد من اصطناع مفهوم جديد لها يفكها من قيود النظرة الميتا تاريخية الأرسطية، ويبعث في معناها دلالات جديدة تاريخية تطابق حركتها في الواقع الموضوعي. وما أغنانا عن التأكيد على أن اصطناع ذلك المفهوم ليس افتعالاً أو اختلاقاً من عدم، وإنما هو إعادة بناء معنى الهوية عن طريق الاستعانة بمكتسبات المنطق الجدلي والفكر التاريخي، واطراح مسلمات المنطق الصوري الارسطاطاليسي، ومبدأ الهوية من أركانه حين نقول إن هوية شيء ما هي ما يتحدد به ذلك الشيء ويُعرف ويتميز عن غيره من الأشياء أو الموضوعات أو الأجسام، فليس من مقتضيات هذا التعريف بالضرورة أن يكون ما يتحدد به الشيء جوهراً ثابتاً لا يتغير. فالأشياء في كينونتها إنما تخضع للتطور والتحول والتراكم المفضي إلى التجدد المستمر في مكونات الشخصية. وكل الفلسفات التي انتبهت قبل أرسطو وبعده إلى قانون السيولة الذي يحكم الظواهر والأشياء، شددت على التغيّر والصيرورة بوصفهما ملازمين لأي تكوين مادي، منذ المادية الطبيعية الابتدائية “مع طاليس وديمقريط إلى المادية الجدلية الحديثة، إلى المنطق المعاصر ليس ثمة، إذن، جواهر ثابتة لا تتغير، وإنما الثابت الوحيد والجوهر الوحيد هو التغيّر. هذه واحدة. الثانية تنجم عن الأولى ومقتضاها أن الهوية هوية شيء ما غير قابلة للإدراك إلا بوصفها حصيلة تراكم متجدد. فما لا يكون في زمن جزءاً من مكونات الهوية، قد يصبح كذلك في زمن لاحق. وما كان من مكوناتها أو من محدداتها في زمن، قد يندثر مفعوله فلا يعود في جملة ما تتحدد به هوية الشيء. أما ثالث الأسس التي يقوم عليها المفهوم الجدلي والتاريخي للهوية، فهو التدرج وتعدد مستويات التحديد. إن الشيء الواحد المراد تحديده، أي تعيين هويته، يكشف عن تعدد في شخصيته أو في هويته. بمعنى أنه ينطوي على أكثر من تعيين وماهية من وجه، وأن ماهيته ليست نهائية وإنما هي تتدرج في الكينونة والتكوّن. وهذا مما أدركته المقولة الهيجلية عن الأنا المتحدد بالآخر، إذ مع تعدد وجوه الآخر وتنوعها، تتعدد وجوه الأنا الهوية وتتنوع ....
التعليقات (0)