من السهل القفز فوق الموضوعية تحقيقاً لأغراض معينة، ومن السهل أيضاً الوصول إلى نتائج سريعة لإنجاز أهداف محددة. ولكن من الصعب الالتزام بالعقلانية إن كانت لا تقود إلى النتائج المرغوب فيها، ومن الصعب التقيّد بالحيدة والإنصاف في قضايا مثار للاختلاف. هذا ما أظهرته ردود الأفعال الإقليمية والدولية على العمليتين الإرهابيتين البشعتين اللتين قام بهما أنديرس برييفيك في النرويج. ففور وقوع العملية سارع الكثيرون للاعتقاد بضلوع جماعات الإرهاب الإسلامية، وظهرت على مواقع الإنترنت اتهامات لتنظيمات بعينها وبخاصة تنظيم القاعدة الذي عرف في العقدين الأخيرين بعملياته الإرهابية الشبيهة. ظنت غالبية السياسيين والمحللين أن الجماعات الإسلامية المتطرفة شنت العمليتين انتقاماً من دور نرويجي في أفغانستان ومن إعادة صحف نرويجية نشر الرسوم الكرتونية التي تناولت رسول الإسلام. ولكن ما أن ظهرت الحقيقة وتم الإعلان عن أن منفذ المذبحتين لا يمت للإسلاميين بصلة حتى تحولت دفة الاتهامات إلى الاتجاه الأخر – اتجاه اليمينيين المسيحيين أو من يطلق البعض عليهم لقب الأصوليين المسيحيين.
جانبان بعينهما ركزا على الادعاء بأن أنديرس برييفيك ينتمي إلى الأصولية المسيحية. الجانب الأول هو التيار الغربي الليبرالي المعارض لليمين المسيحي، وهو تيار يتخذ موقفاً مناوئاً للسياسات الأخلاقية المحافظة لليمين المسيحي التي يأتي منها على سبيل المثال معارضة الإجهاض ورفض زواج الشواذ. ومن ثم فقد كانت هناك دوافع سياسية وراء ادعاء الليبراليين الغربيين ومحاولتهم تصوير اليمينيين المسيحيين على أنهم دمويون يشكلون خطورة على مستقبل وسلام المجتمعات الغربية. أما الجانب الثاني فهو العرب والمسلمون الذين أرادوا، عبر اتهامهم اليمين المسيحي، إزاحة تهمة الإرهاب عن المتطرفين الإسلاميين، والتأكيد على أن لا دين ولا وطن ولا قومية للإرهاب، وعلى أن ممارسة الإرهاب لا تقتصر على بعض العرب والمسلمين الذين تحكمهم دوافع مغرضة ورؤى مشوهة للإسلام. وقد بلغ الأمر أن قام بعض الكتاب العرب بالقول أن مذبحتي النرويج كانتا جهاداً أصولياً مسيحياً.
جانب الصواب الجانبين الليبرالي الغربي والعربي المسلم في اتهامهما اليمين المسيحي بالمسئولية عن مذبحتي النرويج. جانب الصواب الجانبين لعدة أسباب أهمها على الإطلاق هو أن برييفيك ليس بمسيحي يميني. لم يرتكب أنديرس برييفيك جريمتيه بدوافع دينية أو حتى بدوافع أخلاقية مسيحية، ولم يهتف برييفيك بشعارات مسيحية ولم يقتبس نصوصاً من الإنجيل حين نفذ مذبحتيه حتى يتم الادعاء بدوافعه اليمينية المسيحية. كما لم ترد في أقوال المتهم أو في يومياته الطويلة الذي تم العثور عليه على ما يؤكد على أنه ارتكب جريمتيه لتحقيق أي من مباديء اليمين المسيحي الدينية أو الأخلاقية على السواء. هذا أمر مؤكد. وتشير كل الدلائل إلى أن برييفيك ارتكب المذبحتين بدوافع قومية أهمها المحافظة على الطابع الغربي لأوروبا في مواجهة موجات الهجرة المتوالية التي تتوافد على القارة العجوز. وقد أكدت المعلومات الشخصية لبرييفيك على أنه انضم للمنتدى الإلكتروني لجماعة"نورديسك" السويدية التي تعكس رؤى النازيين الجدد المُعادين لسياسات الغرب المتسامحة مع هجرة الأجانب إلى بلادهم. المثير أن برييفيك لم يستهدف من اتخذهم أعداءً كما جرى العرف في العمليات الإرهابية. وربما يشير استهدافه نرويجيين إلى ذكاء منقطع النظير لأنه لم يرد أن يجعل من المهاجرين أو الماركسيين أو المسلمين ضحايا يحظون بتعاطف النرويجيين والعالم.
هناك أسباب كثيرة أخرى تدعونا لليقين بأن برييفيك ليس مسيحياً يمينياً وبأنه لم يرتكب جريمتيه بدوافع مسيحية يمينة. ولعل أهم هذه الأٍسباب على الإطلاق هو أن اليمين المسيحي، وأقصد هنا اليمين المؤمن حقاً بالمباديء المسيحية، حتى وإن كان يختلف بشدة مع التيارات الماركسية والإسلامية والليبرالية إلا أنه على مدار السنوات والعقود لم يستخدم العنف ولو مرة واحدة ضد أي من هذه التيارات. لا يؤمن اليمين المسيحي بالاستئصال العنيف ولكنه يؤمن بالتبشير والتحويل ولذا تجده يهتم بإرسال بعثات تبشيرية حول العالم. وأجد هنا أنه من المهم التفرقة بين يمينين غربيين يخلط بينهما البعض عن جهل أو عن عمد في كثير من الأحيان. اليمين الأول هو اليمين المسيحي واليمين الثاني هو اليمين النازي العنصري. اليمين الأول مسالم وملتزم تماماً وبصورة حرفية بتعاليم المحبة والسلام والرجاء التي جاء بها السيد المسيح. وإن كان هذا لا يمنع وجود قلة قليلة متطرفة معزولة بين هؤلاء من عينة القس الأمريكي تيري جونز الذي لا يتبعه إلا العشرات. ولكن حتى هذه القلة المتطرفة لم تلجأ أبداً لاستخدام العنف. أما اليمين الثاني العنصري النازي فهو غير مسيحي وغير مسالم ويبرر استخدام العنف لتحقيق أهدافه. وينتشر هذا اليمين في معظم الدول الغربية ويقاوم الهجرة ويؤمن بتفوق العنصر الأوروبي.
الفارق بين اليمينين كالفارق بين النهار والليل أو النور والظلام، ولا يمكن الجمع أو الخلط أو المساواة بينهما. وإذا كان الخلط بينهما يتم لأغراض سياسية أو دينية فهو خلط خاطيء ساهم في الترويج له الإعلام المتحيز أو غير الواعي. وقد لعبت السياسة دوراً في الخلط بين اليمينين، وكانت الحرب الامريكية في العراق التي استهدفت إسقاط نظام الدكتاتور السابق صدام حسين من أهم ما ساهم في هذا الخلط. فقد عرف عن الرئيس الأمريكي جورج بوش وعدد من أفراد إدارته الانتماء لليمين المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة، وانعكس الموقف الدولي الرافض للحرب في العراق على عقيدة بوش وانتمائه الديني والفكري، فانتقل الرفض الدولي للحرب إلى رفض دولي لليمين المسيحي، ذلك على الرغم من أن فكر بوش المسيحي اليميني المحافظ لم يلعب أي دور في اتخاذ قرار الحرب ضد صدام حسين، فقد كان القرار سياسياً بحتاً فرضته الظروف التي تلت هجمات 11/9 الإرهابية التي شنها تنظيم القاعدة على أهداف أمريكية.
من الإجحاف بالمسيحية اتهام المؤمنين بها، سواء كانوا يساريين أو وسطييين أو يمينيين، بالمسئولية عن أعمال إرهابية. مباديء المسيحية المسالمة والبعيدة كل البعد عن العنف والقتال والحروب لا يمكن أبداً أن تُُرتكب باسمها أعمال إرهابية، فالعنف لا سند له في تعاليم السيد المسيح الموجودة في العهد الجديد. والمسيحية منذ مهدها لم تلجأ أبداً للعنف والقتال رغم الاضطهاد المروّع الذي تعرض له المسيحيون الاوائل على أيدي الرومان. وإذا كانت أنظمة غربية، مسيحية إسماً لا فعلاً، مدعومة من الكنيسة الكاثوليكية، التي ابتعدت، عندها، عن تعاليم المسيحية الحقيقية، قامت ببعض الأعمال غير المقبولة في العصور المظلمة والوسطى، فقد كانت جميع هذه الأعمال سياسية تلفّحت برداء الدين لتحقيق أغراضها. لكن المسيحية كعقيدة كانت بريئة تماماً من كل هذه الأعمال. وإذا كانت المسيحية على مدار تاريخها بريئة من كل الأعمال الشريرة التي ارتكبت باسمها، فهي بريئة اليوم من عمليتي النرويج الإرهابيتين. كما أن اليمين المسيحي المؤمن حقاً بريء تماماً من العمليتين الشريرتين ومن الإرهاب بشكل عام.
ربما ادعى برييفيك أنه مسيحي، ولكنه مسيحي بالتقليد كغيره من ملايين الغربيين الذين يتمسكون بالموروث المسيحي ولكنهم لا يتمسكون بالعقيدة المسيحية. ولعل تمسك الغربيين بالموروث المسيحي على حساب العقيدة المسيحية يتضح بجلاء من خلال الأحزاب السياسية التي تحمل لقب مسيحية في بلادهم. هذه الأحزاب تتمسك ببعض المباديء الأخلاقية المسيحية التي تؤكد على ضمان الحريات العامة واحترام الإنسان وحقوقه الفردية وتقديس الحياة، لكنها تدير ظهورها تماماً للعقيدة المسيحية. ويؤكد الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، على سبيل المثال في ميثاقه بصراحة على أن برنامجه السياسي لا يعتمد على العقيدة المسيحية ولم يتم استقاؤه منها. ولعل هذا يؤكد على أنه حتى لو أصر برييفيك على التأكيد على مسيحيته الموروثة، فإنه ليس بمسيحي مؤمن. ويؤكد هذا أيضاً على براءة اليمين المسيحي من تهمة الارتباط بعمليتي النرويج الإرهابيتين – تماماً كما كان الذئب بريئاً من دم ابن يعقوب.
التعليقات (0)