بقلم /عامر بوعزة
لم يكن فوزُ رواية المشرط التي ألّفها الكاتب التونسي كمال الرياحي بجائزة الكومار الذهبي لسنة 2007 حدثا غير متوقع، فصدورُها ضمن سلسلة عيون المعاصرة التي يشرف عليها الأستاذ الكبير توفيق بكار بتقديم للكاتب صلاح الدين بوجاه الأستاذ الجامعي المعروف ورئيس اتحاد الكتاب التونسيين أمر مُغرٍ وجذاب ولعلّه أن يكون من أهم العوامل الخارجية التي تجتذب القارئ وتشجعه على اقتناء هذا العمل الأدبي الجديد والانكباب عليه.
أما أن يكون الكاتب من مواليد سنة 1974 وأن يكون هذا النصُّ عمله الروائي الأول بعد تجاربَ في القصة القصيرة والدراسة النقدية وأن يكون مُدرّسا جامعيا وأن يكون اهتمامُه الأكاديمي في مرحلة من مراحل البحث حول الروائي الجزائري واسيني الأعرج فإن ذلك لا يعدو أن يكون من العناصر التي تُغذي فضولَ القارئ ولكنها لا تمتّ إلى النص بصلة مباشرة ولا تمتلك أي تأثير على فعل القراءة فليس ثمّة وصفة جاهزةٌ تجعلُ المرء قادرا على كتابة الرواية والتحكم في أدوات الحكاية وليس ثمّة ضامن لحداثة النص وجدّته وقدرته على الفتك بالقارئ غير ما ينطوي عليه من أفانين وألاعيب وبهلوانيات سردية .
أميّز هنا بين النص المُهادن والنص المخاتل ..
ففي عالم الرواية تُكوّن كل تجربةٍ عالمَها الخاص وتمنح القارئ مفاتيح أسرارها والكشاف الذي يسحبه إلى سراديبها السفلية وأبوابها السرية المقفلة..
وكل تجربة روائية هي رؤية أخرى للعالم وصياغةٌ جديدة للوجود الانساني وعلاقةٌ نسبية مع الواقع والتاريخ والجغرافيا..
تفاجئك الروايةُ بأنها نُسجت على غير منوال، حاول صاحبها ببراعة شديدة الإفلات من فخاخ التجارب السابقة واجتهد بدهاء كبير في محو ما استطاع محوه من آثار الأسلاف منشئا علاقة متوتّرة مع القارئ تستدرجه إلى عوالم متداخلة يمثل كل عالم منها بنية ذات معالم مخصوصة.
في النص أبنية متعدّدة وزوايا نظر متباينة ..
فالسرد الروائي ينفتح على عالم الخرافة والفانتازيا وهو عالم ذو مناخ شبيه بمناخات سليم بركات في فقهاء الظلام تتحرّك فيه كل الموجودات وفق إيقاع أسطوري موغل في الغرابة، ثم سرعان ما تعود الرواية من الزمن المطلق إلى الزمن النسبي حيث يكتشف القارئ أن أحداثها وشخصياتها الحيّة إنما هي من الواقع التونسي في بداية الألفية الجديدة بعد أن تمّ " تهذيب" شارع الحبيب بورقيبة الذي يسميه الراوي شارع الشوارع فهجرته عصافيره احتجاجا ولم يبق من معالمه القديمة غير رواد مقهى الروتندة الذين أرهقتهم خيبات الحاضر وثقوبه.
وبين عالم الأسطورة الذي أنشأته اللغة بما تراكم في ذاكرتها من قديم المصنفات وعالم الحاضر الذي أنشأته عين السارد وهي ترى ما لا يراه الآخرون في أفق اللحظة وأبعادها تنمو الحكاية وتتعدّد زوايا النظر فيها..
فهي حكاية تمثال ابن خلدون الذي يتجسّد في الرواية ويُبعث حيّا وهي حكاية الثالوث : النيقرو و شورّب وبولحية ، عبر حافلات الليل وبقايا المدينة وهي حكاية المشرط الذي يلاحق مؤخرات النساء ويهدّد أمن "المدينة الفاضلة" وطمأنينة أهلها...
لم يصفْ صاحبُ المشرط نصّه بأنه روايةٌ ولم يتورّط في تصنيف أجناسي حاسم وإنما ألقى على عاتق صاحب التقديم تلك المهمة وحمّله تلك المسؤولية فاعتبر صلاح الدين بوجاه أننا إزاء نص آسر قوامه شذرات مستعارة من قديم المصنفات ومحدثها ثم لم يتردّد في نسبة النص إلى عالم الرواية قائلا إنها رواية صادمة في مشرطها الذي تعمله في ظهور النساء وظلّ يلحّ على علاقة النص بالموروث قائلا: والحق أننا إزاء أثر لا يني يٌحيل على المصنفات القديمة لا بما يقول وإنما بما يوحي به ويُفضي إليه وبالأحوال التي يُنشئ...
وفي المشرط جهد روائي كبير بذله الكاتب التونسي كمال الرياحي و هو يعجن الأنماط الروائية والقوالب المألوفة ليستخرج روايته هو.. ففيها ملامح من الرواية البوليسية التي تقوم على البحث والتحقيق والاستنطاق وفيها معالم من الرواية التي تنهل من الموروث الثقافي العظيم لتسدّ الفجوة بين الماضي والحاضر وفيها عناصر من الرواية العجائبية التي افتتن بها الروائيون العرب منذ اكتشافهم روائع أدب أمريكا اللاتينية ..
وهي بهذا المعنى رواية تتأسّس على عمق معرفي كبير وتقيم حوارا خفيا مع تجارب عظيمة دون أن تفقد خصوصيتها المحلية ، فلئن كانت شخصياتها جزءا من المعيش التونسي والذاكرة المحلية فإن بعض تفاصيل أحداثها تلامس تجارب روائية معروفة ..
وهذه رواية أخرى تنضاف إلى المكتبة الروائية العربية وتشدّ الاهتمام بجرأتها في تخطّي العتبات الممنوعة ، تُحاور الواقع بقناع الرمز والكوميديا السوداء وتشدّ القارئ إلى عالم يسكنه الرعب وتهزّ طمأنينته الثورة على الثوابت..وليس عسيرا على القارئ أن يُدرك ما تنطوي عليه الرواية من مواقف وأفكار صار من الضروري أن يصدع بها الكتاب والشعراء في زمن صار فيه المثقفون فرجة بعد أن انتهى زمن الثورات ..
وأنت تقرأ رواية المشرط وتلاحق أحداثها الغامضة بعين اللهفة ستهُزك ولا شكّ صورة شارع الشوارع في زمن العولمة بعد أن انهدمت مبانيه ذات المعمار الأوروبي الأصيل وقامت مقامها عمارات البلّور الصامتة ، وسيأخذك الحنين إلى أمسيات كانت فيها عصافيرُ باب البحر تعزف أحلى أناشيدها لروّاد مقهى الروتندة ولست أشك في أنك بعد الفراغ من قراءة الرواية والتهام فصولها ستشعر بالغثيان وأنت تعبر مسرعا قدّام مقاه كانت فيما مضى من الأيام مفرخة للأفكار المجدّدة.. و ستشعر بكثير من الشفقة وأنت ترى إلى ابن خلدون منتصبا في قلب الحداثة.
عن جريدة الصريح التونسية
التعليقات (0)