مواضيع اليوم

حول الروائي اللبناني رشيد الضعيف

عبد الوهاب الملوح

2013-10-28 12:21:45

0

 الرواية كمداهمة للحياة باعتبارها هزيمة

حول رشيد الضعيف

عبد الوهاب الملوح

يُعلن رشيد الضعيف منذ البدء حريته الكاملة في اختيار الشكل الروائي الذي بلائمه , فهو إذ يشرع في الكتابة  لا يستنجد بجماليات البلاغة  فالقمامة  عنده ابلغ ما يمكن أن يقوله كاتب روايات ؛ يقول في إحدى حواراته : ’’ لا أحب البلاغة التقليدية ولا أكتب بشكل «جميل» ولكني أحاول أن أكتب «صح»، بين الجميل والصح فرق شاسع، وفي تقديري ان الجميل نموذجه خلفه و»الصح» نموذجه امامه، وهذا موقف من البلاغة، بقدر ما يكون نموذجنا امامنا بقدر ما نعبر عن انفسنا، وإذا عبرت ببلاغة قديمة انت تذّوب فرادتك في «العام»، ولذلك استخدم هذه الطريقة.’’ . وهو  إذ ينخرط في السرد لا يتعلق كثيرا بأجنحة التخييل و لا  يتركها تجنح به نحو الأبعد  فالواقع بالنسبة له أهم من الخيال و تحليقاته  . سوف يبدو رشيد الضعيف في ’’ عزيزي السيد كاواباتا ’’ أقرب إلى لورانس شتيرن 1713/1768 و روايته «حياة وآراء تريسترام شاندي» التي تضم تسعة أجزاء ونشرت ما بين 1760 و1767 بعد قرن ونصف من صدور رواية دون كيخوطي دي لا مانتشا  حيث ضبابية الخط السردي ومقاربات تيبوغرافية مختلفة عما هو سائد؛ مزقت وحدة النسيج النصي للأثر ؛حيث التمرد على قواعد الفن الروائي وأساليب القص والكتابة  بشكل متحرر من كل التشريعات والقوانين مع التركيز أساسا على التفاصيل الدقيقة ومشاهد هي في منتهى الدقة ؛يسلط الضوء على التافه البسيط. غير أن رشيد الضعيف  يُدشِّن فرديته من خلال توظيف تيار الوعي ضمن الميتارواية وهي تقنيته المميزة في ’’ تصطفل ميريل ستريب’’ و’’ عزيزي السيد كاواباتا ’’ و ’’ ليرننغ انكلش’’و ’’ عودة الألماني إلى رشده ’’ و ’’ أوكي مع السلامة ’’ ؛  فا’’ انا ’’ المتكلم في هذي الروايات ينضاف إليه اسم البطل ’’ رشيد ’’ الذي يعزز فكرة إن هذه الأعمال الروائية إنما هي تنويعات على السيرة الذاتية للكاتب من زوايا مختلفة سوف يصعب على القارئ  التصديق أن ما يقرأه ليس إلا جرد للتاريخ الشخصي والسري للمؤلف , غير أن الضعيف شانه شأن كافكا الذي كان يسمي ابطال رواياته مبدوءة بحرف ’’ ك ’’ ’’ جوزيف ك ’’ ’’ كارل روسمان ’’ أنه نوع من المكر وتلك من حيل السرد الروائي وصفاته وهو يطارد جماليات الكتابة الروائية يراوغ ويناور إلى درجة  يبدو فيها ما يكتبه بلا معنى وهو بلا معنى فعلا كما سبق وأكد على ذلك كونديرا ’’ أليس اللامعنى بالضبط واحد من أعظم مشاكلنا ؟ أليس هو قدرنا ؟؟ ’’ لعل هذا على وجه التقريب ما ا راد أن يوصله رشيد الضعيف من خلال أعماله الروائية وخاصة الأخيرة منها ؛ التحرر من أي شكل روائي و عدم الكتابة وفق نمط محدد مسبقا وهو القادم إلى الرواية  من الشعر بل انه سيعمد إلى التقاطع مع بعض الفنون الأخرى   لذلك سوف  لن يُفلِّت فرصة ضخ  الشرايين الداخلية للسرد عنده بما يشاهده  في السينما وعلى هذا الأساس جاءت رواية ’’ تصطفل ميريل ستريب ’’تماهيا مع فيلم  ’’ كرامر ضد كرامر ’’ و سيكون فيلم ’’ الدكتور جيفاكو’’ احد الموتيفات المهمة في رواية ’’ليرننغ انكلش’’ فلا يغادر البطل قاعة السينما رغم سماعه بموت أبيه ؟ وهو لا يعدم أي وسيلة لإثراء أسلوبه الروائي بل والانقلاب عليه كما فعل في روايته ’’ عزيزي السيد كاواباتا ’’ حيث جاءت في شكل رسالة مطولة إلى الكاتب الياباني كاواباتا  رغم انه ليس هناك من إشارات مطولة لأعمال الكاتب الياباني المنتحر سنة 1972 عدى  تلميح إلى المعلم العجوز من رواية أستاذ الغو فهاجس الضعيف كيف نكتب وليس ما نكتب فهو يخوض بعنف وجرأة في مسالة شكل الرواية وأسلوب كتابتها بغض الطرف عن المواضيع التي تناولها فليس المهم قتل ’’ فارس منصور هاشم ’’ الطبيب العربي المشهور الذي لمع اسمه في الغرب والتنكيل بجثته فهذا  أصبح أمرا مألوفا ولكن كيف يمكن توظيف هذه الحادثة  وتصويرها بشكل كاريكاتوري لتتحول رمزا على تقسيم البلاد وتقطيع أوصالها وليس المهم هو قتل الأب من خلال لامبالاة رشيد وهو يسمع بوفاة أبيه فهذي أيضا أصبحت مألوفة ولكن في أسلوب التقاط تلك اللحظة وربطها بالحرب الأهلية اللبنانية وليس المهم أيضا هو خيانة الزوجة لزوجها منذ ليلة دخلتهما الأولى بإيهامه بعذريتها فالأهم كيف  اكتشف البطل هذي الخيانة وكيف تعامل معها فجاءت الرواية مونولوغ مطول ..

السرد فعل تذكر , تطفو الأحداث القديمة على السطح وعلى ضوئها يمكن قراءة بعض الزمن الحاضر

يبحث رشيد الضعيف عن حاضره من خلال الماضي , الماضي بوصفه التاريخ الشخصي لكل بطل من أبطاله أو باعتباره التاريخ ا لجمعي لبلد بأكمله . لا يقدم رشيد الضعيف نفسه خادما للمؤرخين فليست رواياته توثيقا أو تسجيلا ووصفا للتاريخ إنما هو شخص أدرك أن هناك عطبا ما فيما حدث ودفعه هدا الإدراك للتنقيب في التاريخ والبحث فيه واصطدم  بحقائق موجعة بل وكارثية ..سوف تبدو ا لحياة من خلال هدا المنظور هزيمة كبرى وانكسارات متتالية  وكل اكتشاف لسبب من أسباب هدي الهزيمة هو انتصار شخصي للروائي دون توهم أو طلب استغاثة من الخيال , ثمة هنا إصغاء لخطى العابر , سعي حثيث لإنقاذ الزائل وثمة تعاطف مع ا لعرضي الطارئ ذلك اللامتوقع بكل ما يتوفر عليه من أخطاء وخطايا وآثام , ليست الرواية ولن تكون قاعة محاكمات خلفها منصة الإعدام , هي إصغاء في العتمة لمونولوغ المرايا حين تنزع الذات أقنعتها خفية عن نفسها ..

يكتب الضعيف نثر الحياة لتأتي كتاباته شعرية فيما تلتقطه من تصادمات الحياة المباغتة كما يقول شوقي بزيع : «سلسلة متواصلة من المباغتات التي لا تكفّ عن إشعارنا بهشاشة الوجود الأصلي الذي لا يفلح الجسد في ترقيعه و تمويهه ’’ فجاءات تقلب الأنساق اليومية تعيد بعثرة الأحداث وتنسف ترتيبها المعتاد لتؤكد إن جوهر الحياة فوضى , فهو يعلِّي من  الوضيع المنسي يكثف اليومي ليلفت الانتباه إلى جمالياته المخفية كما سيتأكد من خلال جمله البسيطة التي يفتتح بها رواياته :

’’ بدأت قصة ’’فارس هاشم’’ قبل مولده إذن’’ . رواية تبليط البحر.

’’ تركتني هامة فجأة دون إنذار , بعد علاقة دامت سنتين كنت أظنها أبدية’’ . اوكي مع السلامة.

بدايات بسيطة , عادية كما لو إنها حديث يومي عن الطقس او العائلة أو الحكومات العربية الفاشلة  قد توحي بالبساطة مما قد يبث الملل في القارئ غير أن الضعيف سرعان ما يباغت ويشرع السرد في نصب شراكه للقارئ من خلال تشعب الحكايات وتداخلها ؛حكايات مجلوبة من صميم الواقع اللبناني  وهو  يتصدَّى لهذا لواقع حاضره وماضيه يتوقف عند التفاصيل المهملة بين الدفاتر الكبرى ؛ يراجع الأفكار المعقدة من خلال التوقف عند ما هو عابر عرضي وطارئ, ينفذ عبر  منظومة الأخلاق , يعالج فكرة الانتماء للوطن, يدهم المسكوت عنه في الجنس والدين والعلاقات الأسرية  يفتح أكثر السجلات جرأة في  التاريخ بعد أن ينزع عن التاريخ هيبته  ؛ يتفحّص مقولات الدين بمعزل عن قداسته ويقرأ العلاقات بين الآباء والأبناء أو بين الأزواج بعيدا عن القيم الأخلاقية    , يكتب كل هذا بشكل كاريكاتوري,  يتداخل فيه الواقعي بالمتخيل بالافتراضي كما يتداخل عنده العنف بالهزلي ولا يكاد القارئ يتبين حقيقة  أبطاله في الرواية   غير أن رواياته في الحقيقة هي تنويعات لحالة واحدة : شخص يحقق في تاريخه الشخصي من خلال تقاطعاته مع التاريخ الجمعي .و يتعامل مع شخصيات طازجة يلتقطها من فرن الحياة اليومية بكل انتصاراتها وإخفاقاتها يكتبها كما هي لا يلونها وهو  يرسمها بل هو لا يرسمها إنما يستدعيها كما هي وإذا بها صاخبة في واقعيتها ضاجة  بتفاصيلها وسيعمل  الضعيف على الدفع بعملية الإيهام إلى  الحد سوف يعتقد فيه قارئه انه بصدد قراءة وثيقة رسمية  مجلوبة من أرشيف الحياة اليومية أو رصد مباشر لأحداث يومية  إذ سوف تبدو بعض المقاطع كما لو أن الكاتب التقطها  بكاميرا فوتوغرافية انه سرد الوقائع بما هي سلسلة من الأفعال والأحداث اليومية كما يعيشها الفرد غير إنها ستفاجئ القارئ بغرائبيتها وسيتوغل الضعيف في تتبع سير هذه الأحداث وتفاصيلها كاشفا عن فانتازية الواقع دونما أي تعويل على الخيال أو المجاز باستعاراته البلاغية يقول في احد حواراته : ’’الروائي لا يحلل ولكنه يتكلم عن تجربة معاشة.. لا أعيش المشكلة التي تذكرها، ليست هذه المشكلة التي تشغلني وقد تكون مسألة نظرية ولكن ليس هذا ما يحكم عملي وليس هذا ما يشغل بالي. حين أكتب اعتمد كثيرا صيغة «الأنا»، وأريد لهذه «الأنا» أن تكون معبرة عن حالة خاصة جدا، وحلمي ان تكون هذه الحالة الخاصة جدا عن فرد بذاته.. حلمي ان يرى ملايين الناس انها تشبههم، وأن بينهم وبينها شبه ولذلك أقول إن شخصياتي ليست تمثيلية ولكنها تشبه عشرات الملايين من الناس. بهذا المعنى كلما اقتربت من الذاتي نفذت إلى العام. انت تقول إذا كان هناك اشياء مشتركة بيني ككاتب والقارئ قد لا يشعر القارئ بالمسافة’’  وهو يسرد تحولاته النفسية وتأثيرات بيروت على تكوينه النفسي والاجتماعي والعاطفي والسياسي  خلال إقامته بها أثناء الحرب الأهلية و فسخ كل ارتباط له كان بالفتى الريفي وتلك القيم الإنسانية السامية التي تربى عليها وهو يصف تفاعله مع سماع خبر وفاة أبيه ولامبالاته ثم توغله في إعادة كتابة تاريخ الأب والأم وتلك الاكتشافات المذهلة والغرائبية وفضيحة الأم واكتشافه انه ليس ابن هذا الأب الذي مات وجاء لجنازته ولكنه ابن لأب قتله أبوه بالوصاية أخذا بالثأر كل هذا سوف يكون مباغتا وصادما كما لو انه حكاية من محض الخيال ولكنه الواقع المرير واقع الإنسان العربي بكل تعقداته وبكل مآسيه وقد نجح صاحب كاواباتا في نقله لكن ليس بالشكل المباشر الفج التقريري  فلقد قاربه بلغة  ترتقي احيانا للشعرية بل هي لغة شاعرة ؛ليس الشعر كما هو متعارف ومتداول  بل تلك الشعرية التي تعتمد التكثيف والتركيز  ضمن  إيقاعية انسيابية تشد  خيوط الحكاية بعضها ببعض رغم تشعب الأحداث وتتاليها .

يغامر رشيد الضعيف في الأدب من تدرسه إلى  كتابة  الشعر ثم كتابة الرواية  وهو في هدا كله يُجرب الأساليب ويخوض الإمكانيات  بحثا عن جوهر الإبداع الحقيقي  والذي  لا يمكن بلوغه الا بالتجريب المتمكن .

                                                                     عبد ا لوهاب الملوح 

 

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !