يحكى أنه في غابر تاريخنا المهمل سافر رجل أصم مع رجل أصم ، صبر الرجلان على بعضهما زمنا – والسفر يكشف معادن الرجال – وكلاهما يقدم لصاحبه وجبة من الأرز في الليل وفي النهار ظنا منه أنها هي الوجبة المفضلة لصاحبه ، ضاق الرجلان ذرعا بالوجبة ، فبات كل منهما يفكر في الطريقة التي سيخاطب صديقه بها في الصباح حول هذه المشكلة ، وبعد أن صلى الرجلان الفجر التلفت كل منهما إلى صاحبه وبدأ يحدثه في الموضوع ، علت الأصوات قليلا .. فأشار أحدهما إلى الأرز ، فتطور النقاش إلى شجار .
أودى ذلك الشجار بصداقة وطيدة بين الرجلين ، فسافرا - وخمسون مترا تفصل بينهما - حتى منتصف النهار ونظرات مقيتة تعلو وجهيهما ، ولما حان وقت المقيل نزل كل منهما تحت شجرة ، وبدأ في إعداد وجبة غدائه ، فأعد كل منهما وجبة سريعة من الكسكس ، ولكي يثبت أنه كان على حق أخذ وجبته وذهب نحو صديقه القديم ، في منتصف الطريق التقيا وكل منهما قدم الوجبة ذاتها لصديقه ، ضحكا كثيرا وتعانقا وأدركا أن الأمر لم يكن سوى سوء تفاهم ، وهو أمر متوقع في حوار الطرشان .
لكن المفارقة الطريفة أنه في غابر حاضرنا المهمل ، وقبل ليلتين بالتحديد ، عشت فصلا من تلك القصة القديمة ، لم يكد إمام المسجد الذي كنت أصلي فيه صلاة العشاء يسلم التسليمة الأخيرة ، حتى أنبرى شاب يبدو عليه الالتزام ، في خطبة عصماء حول أهمية ونعمة الزمان والمكان واللازمان واللامكان في الاسلام ، في صدمة من الموضوع وذهول من التوقيت وأنبهار من اللغة كنت أحاول أن ألتمس خيطا يساعدني في فهم الموضوع ، لكن لم أكد أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من كلام الرجل ، حتى وقف رجل عند ظهري يتحدث بلهجة حسانية تقليدية جدا وبصوة مرتفع عن توظيف الوقت في الإسلام ، وقعت مشادة بين الرجلين بسبب مقاطعة الأخير للأول ، بدأ صوت ثالث يعلو رويدا رويدا وهو يحاول دون جدوى أن يفهم الرجلين أن محتوى حديثهما واحد ، ارتفعت الأصوات فبدأ الكل في الخروج احتراما للمسجد ، في طريق خروجي هناك رجل رابع يتحدث بصوت مرتفع هو الآخر عن فضل الإنفاق في الإسلام ، عند الباب رجل خامس يتحدث عن كيفية التضامن مع المسلمين المضطهدين في العالم .
فالكل يحاول توجيه الكل ولا أحد يريد أن يسمع أحدا رغم أنه يسمع .. الفارق الوحيد بينهم وطرشان القصة القديمة أن ؤلئك أدركوا الحق بعد المشادة فاتفقوا وهاؤلاء أدركوه قبلها وأثناءها وبعدها فاختلفوا .
في الهامش : مساحة المسجد لا تزيد عن 180متر مربع .
التعليقات (0)