أثناء زيارتي الأخيرة للعاصمة الألمانية برلين لحضور مؤتمر حول إصلاح قطاع الأمن وتعزيز التنمية البشرية، التقيت صدفة بأحد اللاجئين السوريين الذي نجح في الهروب من بلده عقب ارتفاع شراسة الحرب الأهلية هناك والوصول بأمان إلى الشواطئ الألمانية. وقد بدت على الشاب، الذي كان يبدو في منتصف العمر وكانت عليه ملابسه رثة، علامات التعب والتوتر والإحباط الشديد.
وقد دار بيننا حوار قصير وأسئلة عن حاله والوضع هنا بصفة عامة.
يقول شادي: أجلس على قارعة الطريق في هذا البلد الأوروبي. أمُدُ يدي طالباً المساعدة من المارَّة. لا أُتقن أي عمل سوى الفلاحة. ولقد اضطرتني الحرب الشرسة في بلدي إلى أن أركب أحد قوارب الموت وألجأ إلى أوروبا، التي يقولون عنها إنها "الفردوس المفقود"!
كنت أعتقد أن الأبواب سوف تُشرّع في وجهي، وسيتم استقبالي بالورود والنقود! لكن التجربة كانت قاسية. لم أجد عملاً كوني غير متعلم، كما أنني لا أملك أي مال لشراء ملابس جديدة ونظيفة، وملابسي التي أحضرتها لا تتلاءم مع جمال هذه المدينة الأوروبية الرائعة. حاولت الحصول على عمل في المطاعم العربية والتركية المنتشرة هنا، لم أوفق كوني عربياً وقد أجلب المشاكل حسبما أفادوني. لقد أصبحت جنسيتي همّاً ثقيلاً عليَّ. لا دخل لي في جنسيتي أو دمي أو لوني، فأنا لم اخترهم عندما جئت إلى هذه الدنيا.
أفرش منديلاً رثّاً على الأرض، وإلى جانبي لافتة تقول: "أريد طعاماً.. لا مال لديّ". أحياناً ترق قلوب بعض المارة فيرمون أمامي قطعة نقدية تساوي ربع دولار، وأحياناً يضعون رغيف خبز اشتروا مثله للتَّو من المخبز الذي على الرصيف المحاذي مع علبة جبن. أحياناً يمر بعض السياح العرب، فيضعون على المنديل عشرة يورو، ولربما أكثر. أعود مساءً إلى لا مكان، أتكئ على أحد الكراسي في حديقة عامة، وآكل الرغيف مع الجبن المالح، وأنام على وجَعي حتى الصباح التالي.
لقد كنت إنساناً ذا كرامة في بلدي، ولم يجرؤ أحدهم على أن يمد يده عليَّ أو أن يحتقرني قَط. وكانت غلة الحقل تكفي وتزيد لكل احتياجات العائلة، بل وتدريس الأولاد في أحسن المدارس.
لا أعرف مصير عائلتي اليوم، فلقد رفضت العائلة السفر معي، بعد ما شاهدته من مناظر للاجئين في أوروبا، ومنهم من تقطعت بهم السُبل. كما أن الميليشيات الإرهابية قد احتلت حقلي، ما اضطر عائلتي السفر إلى بلدة أخرى أكثر أماناً، بينما تعهدت أنا بالعمل وإرسال النقود إليهم.
لا أدري ماذا أرسل من هنا؟ أعد القطع النقدية المعدنية بعناية، لا يصل حجم المبلغ إلى عشرة يورو. هل أُطعم بها نفسي؟ هل أرسل نصفها إلى أهلي؟ ماذا تفعل عشرة يورو في الشهر لعائلة من خمسة أفراد؟
لا أدري، هل بقي رقم العائلة كما هو أم نَقَص؟ إن آلة الحرب الشرسة لا تُفرق بين هدم البناية وهدم كيَان إنسان!
أنهض قبل الناس، أحتلُ مكاني على الرصيف! لا أدري لربما علمت البلدية بأمري فشكتني للشرطة التي لا تسمح لأي شخص بتلويث تلك المدينة الجميلة. أين أذهب أنا عندها؟
واختتم شادي كلامه: أقول في النهاية لكل من تسبب في إيذائي وقهري مع عائلتي: "الويل لكم مما فعلت أيديكم، وجرائكم الفظيعة ضد الإنسانية سوف تبقى شاهداً على وحشيتكم وعدوانيتكم غير المبررة ضد شعوبكم. وحسبنا الله ونعم الوكيل".
التعليقات (0)