جلسَت بالقرب مني في المقهى زائغة العينين، ومع مظهرها الذي يبدو متهتكا تطل بسمة محيرة، مزيج من المعاناة مع الحرمان الذي فشلت المساحيق في إخفائه، والأمل في غد تتكسب فيه دون أن تتاجر في جسدها، لم أدعُها للجلوس معي، ولا كان في نظري إليها ما يشير لغير الشفقة المشوبة بالسخط على واقع جعل نصف فتياتنا يقتتن من نصفهن الأسفل، ونصف فتياننا تقتات عليهم الكائنات البحرية، وما تبقى من الأنصاف لا يقتات أصلا، اقترَبت مني في خطوات أدركت مغزاها، دعوة إلى حوار بلا معنى، وإلى الانفلات من القيم، هي قصة تتكرر في اليوم آلاف المرات، ظاهرة لم يُوفها الدارسون حقها ولا كانت موضوع نقاش جاد داخل قبة البرلمان، تَخَيلتُني نائبا من نواب الأمة ورحت أصرخ: سيدي الوزير المحترم ماذا فعلتم لصيانة شرفنا من الدنس؟ الظاهرة جاوزت المدى،وبناتنا يممن شطر الشرق والغرب برأسمال من النظرات الجريئة والأجساد التي لا تَتَمنع على طالب،أوقفوا هذا النزيف حتى لا يصبح العهر "ماركة مغربية مسجلة". تُرى ماذا ستكون الإجابة؟ أن البلد الذي قصده الملك "هيراندة" يوما ليطلب المدد من ملكه يعقوب المنصور المريني ووقف بين يديه ذليلا صاغرا وقبـل يديه فغسلهما المريني على مرأى من العرب والعجم، يقصده اليوم أحفاده ليهتكوا أعراض بناته فلا يجد ما يغسل به عنه هذا العار؟ أيقظتني من شرودي: هل يمكنني الجلوس؟ قلت في سري ولم تجلسين؟ ليس في جيبي غير ثمن المشروب الذي ترينه أمامي، وهذه الجريدة أدفن فيها خيبتي كل مساء، فأنا لا أستيقظ باكرا لأنني أعيش في عطلة مفتوحة غير مدفوعة الأجر، دون إذن مني جلست، قلت وفي يقيني أن كلامي سيكون على غير هواها: لا تضيعي وقتك إنني صفر اليدين مما تبحثين عنه، قالت ولم تبد استغرابا: لا أطلب مالا على كل حال، أطلب ملاذا آمنا هذه الليلة، ربما تأخر الوقت، لم أظفر بزبون ولا أحب قضاء الليلة في ضيافة الشرطة، هكذا إذا حتى سوق الجسد أصبح كاسدا لدينا بسبب كثرة العرض، تلميذات، طالبات، موظفات، مهنة متاحة للجميع، والمقابل يختلف من فتاة لأخرى. سيدي الوزير اليوم تهُب علينا رياح العولمة، ولم يفُتنا أن ندلي بدلائِنا، لقد غزونا أسواق العالم بأثداء نسائنا، لكم أن تلِجوا مواقع الفجور على الانترنيت – مع خوفي الشديد من أن تخدش مشاعركم – وسترون رايتنا الخفاقة كيف ترفعها فتيات في عمر الزهور بطريقتهن الخاصة، وكيف جعلن من لغة الجسد وسيلتهن لمخاطبة الكون، بطبيعة الحال هناك منافسة شرسة، لكن الكل مجمع على جودة المنتوج المغربي،فعمر بضاعتنا لا يتعدى أربعة عشر عاما أحيانا، وإذا أضفنا إلى كل هذا أن الثمن قد يكون ليلة في مكان آمن وكفى، أو باقة من الوعود المعسولة على حد تعبير السرفاتي، أحد خبراء العِرض المغربي، فإننا نضمن غزو أسواق الشرق والغرب، انتشلتني مرة أخرى من ذهولي: هل أنت موافق؟ قلت: على ماذا؟ ردت بضجر: ملاذ آمن، قلت: اعذريني كل الأماكن التي أرتادها أشعر فيها بالخوف، لم تفهم كلامي: لماذا هل أنت هارب من شيء ما؟ نعم أنا هارب من كل شيء حتى من نفسي، قالت: ربما أخطأتُ العنوان إنك تسخر مني، قامت خائبة فخاطبتها: هل يمكن أن أسألك؟ عادت إلى مكانها الأول وقد أبرق أمام عينيها خيط جديد من الأمل: ماذا تريد؟ قلت لماذا تسلك فتاة في سنك دربا كهذا؟ لماذا لم تبحثي عن عمل؟ قالت مستاءة: ما مهنتك أنت؟ قلت لا شيء ردت متهكمة: لماذا لم تبحث عن عمل؟ أجبت: أعياني البحث ولم أظفر بشيء، هتفت بنشوة المنتصر: أما أنا فوجدت، الكل يطلب جسدي فلِمَ أظل جائعة؟ قلت: تموت الحرة ولا تأكل بثدييها وها أنتِ الآن خائفة لم تجدي بيتا تلجئين إلى دفئه الليلة، ردت: أنا لست بحرة فقد سباني الفقر من عفتي في حرب الحياة الضروس وقذف بي في أتون الذل وأنت تفهم هذا جيدا ولا فرق بين ثوب الاسترقاق القشيب وذاك الذي أبلته أيادي الزمن، لك أن تعلم كذلك أن الكثير من السادة المبجلين يستثمرون أموالهم في تشييد المواخير ودور الدعارة الراقية ولا ينظر إليهم نظرة الاحتقار التي نكتوي بلظاها صباح مساء، وهؤلاء الذين من المفترض أن أهابهم، كثيرا ما أقضي الليل في بيوتهم غير أنهم زبناء سِيؤون لا يؤدون ثمن ما أُقَدم لهم من خدمات عدا أنهم ناكرون للجميل، فهم لا يخجلون من كتابة المحاضر لنا متى لزم الأمر لإدخالنا إلى السجن، أرأيت وقاحة كهذه؟ أفَضِل قضاء الليل رفقة شاب مسكين على أن يستغلني هؤلاء. لم أتوقع أن يدفعها بغضها للاستغلال أن ترى في عمل كهذا نوعا من الإحسان. سيدي الوزير لقد كشف السرفاتي في غاراته على عوراتنا في السنوات الماضية أن الجهود المبذولة لجلب عشرة ملايين من السياح لم تُوفِرَ للوطن رصيدا هائلا من العملة الصعبة وكفى، بل خلفت الآلاف من أطفال الشوارع كذلك ومثلهم من المصابين بالسيدا، قامت هذه المرة بعنف قائلة: إنك لا تصلح لشيء وخرجت دون أن تلتفت جهتي، شيعتها بنظرات حزينة، فعلا لا أصلح لشيء لست وحدي، كلنا لا نصلح لشيء ولا نفعل شيئا، من يقبل أن يستغل جسد مسكينة كهذه حقير لا نخوة فيه ولا شهامة، ومن سكت على وضع كهذا وضيع لا مروؤة فيه ولا كرامة، لقد قالها عنترة بن شداد العبسي ذات يوم:
وأغض طرفي إذا ما بانت جارتي حتى يواري جارتي مثواها
قمة النبل والفروسية لدى شاعر لم يدرك الإسلام، لكن أخلاق الفرسان ماتت إلى غير رجعة وحل محلها مسخ متعدد الوجوه والأيدي والأنياب، مسخ بألف لون لم يَدَع من عالمنا شبرا إلا ودنسه. سيدي الوزير مهما تكن إجابتكم فلن تشفي غليلي لأن دعارة اليوم لم تعد تمارس في البيوت فقط ولم يعد لها زمن أو مكان محددين فلا تقع لذلك في أيدي رجال الأمن مهما كثفوا حملاتهم، دعارة يمارسها السياسي حين يُغضي عن هموم أمته ويجعل همه أن يصل إلى الكرسي، ويمارسها المناضل حين يضنيه النضال فيُزيِف الحقائق مدعيا أن ما كان مات وانقضى وأن ما حدث البارحة لن يتكرر غدا، دعارة يعيشها الفنان حين يتغنى بجمال الجسد وينسى قبح الجوع وحين يستجدي ضحك المتفرجين عوض إثارة ما يبكيهم وما أكثر ما يبكينا، تلك باعَت جسدها مقابل دراهم معدودات وهؤلاء باعوا مبادئهم لنفس الغرض، تلك استغلها وحش تحركه شهوة عمياء وهؤلاء لا أدري من الذي يستغلهم ولا ما يحركه، ذهبت مرافقتي ولست آسفا لذلك، في كل يوم سأراها في الطرقات والمقاهي تجتهد في أن تجعل ملامحها باسمة وقلبها ينزف ألما وحيدة بلا سند ولا معين، أين الأخ والأب ياترى؟ أين الإبن والزوج؟ كنا نتباهى بأننا أمة يسودها التكافل فلِمَ تركناها للضياع، الكثير من مفكري المجتمع الغربي تنبؤوا بأفوله لأن الكثير من قيمه الاجتماعية والإنسانية منحطة، ولأنه مجتمع يمجد المادة ويقدسها حد العبادة، فلا شك أنه يُعَبِد طريقه نحو الانهيار، فماذا عنا نحن, لم نرق إلى مستوى إنجازات الغرب المادية ولم نحافظ على تماسكنا الاجتماعي والإنساني وحتما لا نتحدث عن الانهيار لسبب بسيط أننا منهارون فعلا على كل المستويات والأصعدة.
سيدي الوزير هل تعلمون أن اقتصادنا أصبح داعرا كذلك، يبدو الوصف غريبا فالمعذرة، قرأت في إحدى الأسبوعيات المغربية نقلا عن ضابط بمدينة أكادير قوله بأن اجتثاث الدعارة من المستحيلات فذلك يعني إغلاق الكثير من المطاعم والفنادق والمقاهي ومحلات التجميل والعطور والملابس النسائية و... إن أهم قطاع اقتصادي في البلد وهو السياحة عماده تجارة الجسد وهذه العاهرة التي نلقي بها خلف القضبان تخدم قضية وطنية كبرى وهي الإقلاع الاقتصادي في بلد قالت مؤسسات غربية عن اقتصاده أنه مهدد بالسكتة القلبية.
سيدي الوزير حين نقضي على الدعارة سيختار الحثالى وجهة أخرى غير بلادنا لممارسة شذوذهم ، والنتيجة أن مداخيلنا من العملة الصعبة ستقل وأننا سنجد صعوبة في تسويق ركام هائل من الأجساد الفتية المعدة للبيع، سنضطر لتغيير منظومة القيم التي راهَنا على تأسيسها من خلال استوديو الأثداء والأرداف المهتزة وشطحات المسؤولين.
لاأدري كيف نعض اليد التي تحسن إلينا وكيف نسمي الفتاة التي تسدي كل هذه الخدمات لوطنها بالعاهرة إنها فاضلة، والأجدر بهذا الوصف أولئك الذين قادوا البلاد إلى هذا النفق المظلم...
التعليقات (0)