جاءتني رسالة من الصديق الأستاذ سميح الشريف وهي رسالة طويلة وكم أسعدتني الرسالة فأنتم لا تعرفون من هو ذا العملاق ؟ من هو هذا الجبل الأشم ؟ لا تعرفون أية صورة هو من صور الحياة الثمينة العزيزة فكرا وروحا وشعرا وخلودا . إنه ذروة من ذرى الحياة الثمينة وصورة من صورها الغنية الممتعة إنه خيال خصب، وفكر رحب، ونفس كبيرة متمردة ، علىكل ما ألفه الناس من رغبات. أنه العقل في أقاصي حدوده الممكنة وآفاقه النائية. يتماوج فكره بين سورتين . شديدتي التباين فكر ثائر عنيف وفي عنفه يبلغ حدود القسوة .وروح تلمست العالم من وراء الستار برقة هادئة وسكينة هائمة،ولذا جاءت نفسه الكبيرة مزيجاً من هذين الطرفين المتباعدين الأمر الذي جعل حياته مسرحا مأساوي لهذا الازدواج المتوتر. وبهذا راحت نفسه الشفيفة تترقى في مدارج السالكين الذاهبين الى الحدود القصية التي لا يبلغ مداها . وظلت تتفتح على ممكنات الوجود تستقرئ كل واردة وشاردة ، عله أن يقبض على الحقيقة التي تتفلت من بين يديه كل حين . ولا يزال حاله كذلك في سعيه أو عذابه الجميل .
هاهنا معبد الروح فطوبى للداخلين ، الى ميلاد العقل العظيم ، فهلموا نحتفل به يا من بالعقل تؤمنون وإليه تنتهون وبه تتغنون .
هلموا ، فهنا تجدون عقلا كبيرا يجول في أقاصي الكون الفسيح يبحث عن الخلود تارة وعن الموت العنيف تارة أخرى . وفي كلتا الحالتين يثير عواصف هوجاء من الأسئلة يرميها كأنهاسجم نار مدمرة . وهو الذي سائل روحه ذات مرة سؤال وجوده الكوني ، وفي لحظات قدسية عالية رقيقة ، اهتزت هذه الروح هزت الخلق فانتفض عنها جنين عقله الذي القمه سقراط ثدي فكره، فكان هبة من هبات الإغريق، نسمة رقيقة تتسقط علل الوجود ومراميه.
وبالعقل الذي كان استشرف عين الوجود فتجلى في أنوار الفجر فكرا أزليا خالدا كان هو سميح نفحة من نفحات الخلود في ساعة السرور المقدس كيما يحال الى نبع متدفق حكمة أصيلة، ونغما عذبا يتردد في أرجاء المكان والزمان ونورا يلقي ضلاله الآسنة على العقول والقلوب فيطبعها بطابعه ،ليغذوها النبل والقداسة والسمو والرفعة، وروح الخير والجمال، وأهم من هذا كله دهشة السؤال، بل كبرياء السؤال الأزلي الخالد الذي صاغه .
وعبر آلاف السنين يتأثر بمعلمه الثاني نيتشه الذي راح يهز الكون هزات عنيفة ويعلي من قيمة الشخص المتفرد الكامل ، وبين سقراط ونيتشة ولد الشريف قامة سامية من قامات الفكر الذي لم يقدر له أن أن ينتشر بعد والأسباب نعرفها كما يعرفها غيرنا في تلك الساحة الثقافية الموبؤة.
وا اسفاه ... أن يولد الرجل..... هذا الشهاب القادم من ملكوت السماء حيث ولد ...
جائتني رسالته يقرأ من خلالها بعضا مما كتبت قرأءة معرفية، وهنا أنا اقرأ الرسالة كما قرأها، ولكن من خلال حوار نطوف فيه بين الماضي والحاضر، بين التراث والحداثة، بين الخطاب واللاخطاب، بين المعرفة واللامعرفة ،بين القراءة والقراءة المضادة .
القراءة سلطة تمارس هيمنتها على القارئ ، ذلك أن القارئ وهو يشارك بفعل القراءة إنما يقع عادة في أسر ما يقرأه ، لكن القارئ هو الذي يستبطن المعنى مما يقرأه وهنا يتوارى المؤلف ويبتعد حتى يتلاشى . والمعنى فيما أقرأه ليس جوهرا مكنونا أو مفهوما محضا أو قصدا متعاليا يعبر عنه بالأدوات اللفظية . للغة أثرها في إنتاج المعنى وتوليد الدلالة وللمص حقيقته وسلطته مقابل مراد المؤلف. ذلك أن مراد المؤلف عندما يصوغ معنا ما لا يعنى أنه يقصده بقدر ما يسعى بلورة وجهة نظره . والقراءة الجيدة عادة ما تبحث عما تصبو اليه من خلخلة المعاني وزحزحتها الى ضلالها القصية، لكتشف عن المسكوت عنه ، وبذلك فهي تحقق اضافة وتشي بالجديد، وقد تخالف ما اعتادت الاذهان عليه، وهذا يعود الى المواجهات التي تخضع لها القراءة من منهج ورؤية ينضويان تحت اشكالية تبحث عن حلول، وبذلك فهي الثاوي وراء القارئ الذي ينطلق منها صوب المقروء.
فهي اي القراءة المنتجة يجب ان تسعى الى تجاوز عوائق القراءات الأخرى القائمة على التوحيد بين الفكر واللافكر ، الغاء المسافات بين الذات والموضوع حتى يصبح ما تقدمه من تفسير أو معنى يقوم على رد كل الظواهر الى مبدا أول يستوي في ذلك كافة الظواهر الاجتماعية و الطبيعية او تعمل بالاعتماد على سطلة النص وتحويل النصوص المتحركة الثانوية الى نصوص اوليه ثابتة تتمتع بقدر هائل من القداسة لا يقل عن النصوص الاصلية، مظافاً إلى هذا ذلك النمط من التفكير الجامد المتمركز حول الانا والذي لا يقبل أي خلاف فكري .
ومن هنا نرى أن القراءة لابد ان تكون خاضعة للثوابت تبتعد عن استنطاق المقروء لانها مرتبطة بحدود المقروء وعاملة على كشف الظروف والملابسات الاجتماعية والتاريخية التي اثرت في تكوين المقروء عبر الزمن داخل بنية معرفية معينة، فاذا كانت الاشكالية تكمن وراء القراءة ، فان القارئ خاضع لمؤثرات عصره بوصفه يفكر بصوره او باخرى مباشرة او لا مباشرة انطلاقا من تفكير سابق يستوعبه، يسير على منواله، يكرره، يعارضه، يتجاوزه … الخ والتفكير في موضوع، والموضوع اما افكارا ، واما معطيات الواقع الطبيعي او الاقتصادي او الاجتماعي … الخ فالتفكير يتم بتوسط مفاهيم ونظريات ترتبط، ولابد، بمرجيعة معرفية معينة .
لكن ما هي تلك المفاهيم والنظريات والآليات التي اعتمدها الشريف في قرأته لمقالي الأخير ؟ إنه يرى أن قرأتي إنما تنطلق من رؤية الحداثه وما بعدها التي تؤسس الى نمط جديد من القراءة للتراث، انها قراءة يبدو فيها كل نص حاضر يتضمن نصا غائبا بالضرورة، والوصول الى بنية المدلولات الغائبة لا يكون الا انطلاقا من بنية الدوال الحاضرة، لتبني على انقاضها فلسفتها الجديدة فلسفة الغياب .وفلسفة الحضور تقوم على تطابق الدال والمدلول، في حين فلسفة الغياب هي حضور الدال وغياب المدلول. أي أنها فلسفة لا تريد ان تكون شارحة بقدر ما هي تسعى الى كشف المسكوت عنه، الذي يحدث اضافة ويستجيب لموجهات القراءة المعاصرة. فالفرق بين فلسفة الحضور وفلسفة الغياب هو قيام الاولى على مبدا (التمركز وقيام الثانية على مبدأ (الاختلاف ان نمطا جديدا من القراءة تنشد الى اشكاليات الماضي بقدر ما تحاول ان تكون في تعاملها مع التراث العربي او الغربي وخصوصا التجارب الفذة التي لا يمكن تكرارها او تعميمها وإنما من الممكن استلهامها والتفاعل معها، قراءتها والتهامها، لا يقصد أحياؤها والتماهي معها، بل من اجل توظيفها بشكل يتيح لمن يقرأها ان يمارس التفكير بصورة مثمرة عبر اكتشاف ابعادها المجهولة، او لكشف عن ابنيتها المتشابكة، وبذلك تعرف ما لم يكن يعرفه اهلها، وتتحرر من سلطتها حتى لا تقع في أسرها ، و حتى لا تهمشنا وتحجب وجودنا . وأنا لا اختلف معك ياصديقي فأنت ترى أن القراءة بهذا قد تحدد جدتها في انها تنشد الاختلاف، الا انها ايضا تمثل عملية انتاج للمعنى، وهي بهذا محكومة باربعة شروط حضور القارئ، ووجود النص واستحضار الموروث وتوفر التجربة أو الخبرة ، وهي الاطراف المؤثرة في ستراتيجة الحفر في بنية التراث.
ضمن هذه الحدود جاءت قراءة الشريف للتراث العربي الاسلامي انها تنطلق من اشكالية الخصوصية العربية ايضا، أي بدافع معاصر تلمسه نقد الشريف بقوله: نحن العرب عندما نتحدث عن النهضة ، فاننا نتحدث عن مشروع نأمل تحقيقه ان مشروع النهضة لم يكن وحيدا على الساحة العربية ولا الدولية بل كان هناك مشروع اخر مضاد هو المشروع الامبريالي، وبالتالي فمشروع النهضة لا نطرحه بوصفه بديلا لقديم، إنما نطرحه بوصفه بديلا عن الأخر الغرب الذي ايقظنا من سباتنا بغزوه الشامل .. واصبح مشروع نهضتنا يتجه الى القديم، لا لنقلبه ونصفي الحساب معه، بل الى الاخر الغرب، الغرب لنقاومه مستنجدين بقديمنا، أي بتراثنا، وبالتالي نجد انفسنا نقاوم الاخر الغرب بالاخر الماضي أي نقاوم سلطة مرجعية بسلطة مرجعية اخرى تشدنا اليها وهنا يبدو الصراع للقبض على الحقيقة مميتا ومدمرا من كلا الطرفين . هذا النص مركزي في اطروحة الشريف اذ اصبحت النهضة الغربية واقعا ملموسا في حين ان النهضة العربية، بقيت في مستوى المشروع . الاولى انجزت وتعمل من داخلها – ومن فائض امتدادها الخارجي ، اما الثانية فهي فكرة غير مكتملة ومشروع لم يتحقق. وهكذا وجدت النخب العربية نفسها تتأرجح بين نموذجين، النموذج الاوربي الذي يفرض نفسه في الحاضر، والنموذج العربي الاسلامي الذي تحقق في الماضي جارا معه ثقله التاريخي . يرى سميح الشريف أنه لا بد من بلورة مفهوم القطيعة المعرفية وتأسيس مشروعا نقديا يصيب الأسس العميقة التي ما تزال تضغط على الواقع العربي الاسلامي وتحرفه عن المنحنى الصاعد للتاريخ .
وقد اعتمد نقده على الخطوات الاتية:
اولا: المنهج هو المسألة الاساس، وهو نقد العقل لا استخدام الفعل بهذه الطريقة او تلك وقد اعتمد فيه:
معالجة الفكر منزاوية النص الممتد في التاريخ ككل وليس على ضوء المنهج البنيوي .
-التحليل التاريخي: وهو يقوم على ربط النص بمجاله التاريخي كمساحة تاثير بالغة في الوعي .
ثانيا: يؤكد ان الرؤية تؤطر المنهج وتحدد له أفقه وابعاده والمنهج يعمل على افناء الرؤية ويصححها وتشمل :
-الاشكالية بوصفها (منظومة من العلاقات التي تنسجها داخل فكر معين، مشاكل عديدة مترابطة لا توفر امكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل – من الناحية النظرية – الا في اطار حل عام يشملها جميعا، وبعبارة اخرى ان الاشكالية هي النظرية التي لم تتوفر امكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري. وان اشكالية فكر ما، لا تحدد بما انتجه هذا الفكر بل ان مجالها يتسع لجميع انواع التفكير التي يقوم بها هذا الفكر. وان اشكالية لا تتحدد فقط بما تم التصريح به، بل ايضا بما تنضمنه وتحتمله . أي إن الإشكالية تمثل دالا منفتحا على الإضافة والتأويل بشكل يجعل القراءة تاخذ بعدا صوب اكتشاف المسكوت عنه والغياب داخل النص عبر ممكناته.
-تاريخية الفكر وهذا يتعلق بالحقل المعرفي أي الفضاء الإنقطاعي والمضمون الايديولوجي.انه يعني بمفهوم (تاريخية الفكر) أي ارتباطه بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي انتجه، او على الاقل تحرك فيه هو يقول: تقصد هنا بالمجال التاريخي ما يمكن التعبير عنه بالاشكالية او زمنها، انه الفترة التي تغطيها نفس الاشكالية في تاريخ فكر معين وهو يجعل المجال التاريخي يتحدد بشيئين اثنين:
أ) الحقل المعرفي: الذي يتحرك فيه هذا الفكر والذي يتكون من نوع واحد ومنسجم من (المارة المعرفية) وبالتالي من الجهاز التفكيري: مفاهيم، تصورات، منطلقات، منهج، رؤية.
ب) المضمون الايديولوجي الذي يحمله ذلك الفكر، أي الوظيفة الايديولوجية (السياسية الاجتماعية) التي يعطيها صاحب او اصحاب ذلك الفكر لتلك المادة المعرفية .
هذه الرؤية راح يعمقها الشريف كثيرا في حواريته المرعبة مع التراث التي أنتجت بالنهاية تلك الصياغة المفعمة بالحيوية النقدية التي اضأت كثيرا من الجوانب المعتمة في هذا التراث ثم صاغت رؤية فلسفية محكمة تجاه فعل الخضور في الزمن لهذا التراث .
نلمس هنا باحثا يحاول إن ينشد الاختلاف في خلق فضاءات جديدة للحوار بين الانا والاخر سواء كان هذا الاخر التراث او كان الاخر الغرب.فكل نص حاضر يتضمن نصا (غائبا) بالضرورة وصولا الى بنية المدلولات الغائبة التي لا يمكن ادراكها الا انطلاقا من بنية الدوال الحاضرة. أن إشكالية المثقف أنه لا يمكن ان ينطلق دون حاجة تدفعه الى التامل في الماضي نظرا لما يتركه من ظل ثقيل يترك عوائق جمه تعيق الحاضر وانفتاحه على المستقبل (لا تملك التراث الا بمجاوزته الا ان المجاوزة لا تعني التخلي والاهمال انها على العكس من ذلك تقويض مستمر للمفاهيم وليست معارضة موقف بآخر. فتفكيك المفاهيم استراتيجية وليس نقدا بالمعنى المعروف. ثم انه ليس تحليلا صوريا ).
وهذا ما يسعى سميح الشريف إليه لكن هذا لا يعني انه لا يتأثر بالتحيزات الايديولوجيه ولا يعني اننا يجب ان نتماهى معه، بل ان القراءة هي نزوع الاختلاف والقراءة التنويرية تدفعنا الى الحوار معها عبر تفحصها لغرض اكتشافها وادراك بنيتها المتشابكة (بذلك نعرف ما لم يكن يعرف صاحبها، ونتحرر من سلطتها حتى لا نقع اسرى لها ونتقدم بها لئلا تتقدم علينا، ونمارس فاعليتنا التنويرية ازاءها حتى لا تهمشنا وتحجب وجودنا وتلقينا في الضلال الكابية .
وهذه القراءة تاخد بعدين الاول معرفي (ابستمولوجي) فيما الثاني وجودي (انطولوجي) علينا ان نستدعي التأويل اذ هو الذي يمكننا من بناء صلة مزدوجة بالتراث والمعاصرة بقدر ما يتيح قراءة عصرية للتراث او توظيفا للماضي الذي لا ينفك يحضر باتجاه المستقبل او ممارسة للخصوصية بصورة عامة.
وهذا بالضبط ما يجب ان نفعله مع قراءة الشريف للتراث العربي الاسلامي،
السؤال الإشكالي:
ناقش الشريف" تأثيرات الحداثة في المحيط الثقافي العربي، وخص بالذكر مشروعين نقديين يمثلان، في نظره، النموذجين الأكثر بروزا للحداثة؛ وهما البنيوية والتفكيك، متخذا موقف الرفض لنتائجهما ولخلفياتهما الفلسفية، معرضا بفشل الحداثة في تحقيق الطموحات التي زعمت الوصول إليها، ومن ثَمَّ كان السؤال الذي سيطر على الرسالة هو: هل نحن فعلا في حاجة إلى مثل هذه الحداثة المشوهة والمنقطعة الصلة بجذورنا؟
ثم يستدعي سؤالين يصبان في سؤال إشكالي واحد، فهما:
ـ من أنا؟ ومن نحن؟
وهو سؤال الهوية والوجود والمصير؛ سؤال يربط الماضي بالحاضر، ويصل الذات بالموضوع، ويطلب تحديد هوية المثقف ـ والإنسان ـ العربي الحائر بين نموذجين حضاريين مختلفين، يتقابلان ويتصارعان أمامه كل يوم، على صفحات الجرائد والمجلات وفي نشرات الأخبار، ويتغلغلان في جوانب حياته اليومية، فتصبح شخصيته خطين متوازيين ومتصارعين، ويعيش في حالة فصام فكري شامل .
ـ ما العمل؟ أين البداية؟
وهو سؤال الانطلاقة، يبدأ منه الشريف رحلة تشخيصه لنمط العقلية الفصامية في المجتمع العربي عموما، ولدى المثقف خصوصا. وفي محاولة منه للإمساك بطرف خيط يخرجه من متاهة الفصام يحدد نقطة يتفق عليها الجميع، في رأيه، وهي أن الشرخ الذي يعيشه المثقف العربي أو الفصام الذي يتهدده كل يوم، يرجع إلى غياب المشروع الثقافي القومي أو العربي ، فيتجاوز الشريف بهذا السؤال الجانب الأدبي والنقدي، ليمد أطراف الموضوع إلى مجال أوسع يتعلق بماضي الإنسان العربي وحاضره الذي هو أقرب إلى الفوضى منه إلى أي شيء آخر معروف. وهنا يحدد الشريف عللا يراها السبب في ما وصل إليه المثقف العربي من افتقاد القدرة على الاختلاف والانبهار بالغرب واحتقار العقل العربي وإنجازاته.
وفي الحقيقة، إن ما يقدمه الشريف يوقعنا في نوع من الإشكالية التي تبسط الحلول ، وتتحيز للمادي على حساب المجرد، وتتصور أن التكنولوجيا والعلوم منفصلة عن خلفيات الحداثة الفلسفية. ولقد فات عليه أن ينتبه إلى أن المشكلة لا تكمن فقط في المقدمات، بل تمتد إلى النتائج أيضا، فغير خاف أن العلوم قد تكون حيادية في منجزاتها، لكنها غير حيادية في غاياتها ومقاصدها، فهي إذا لم تنضبط بإطارات فكرية تقيها من الشطط ويكون لها مضمون أخلاقي، أمكن استغلالها وتوظيفها في خدمة نموذج معرفي مادي لا يراعي البعد الغائي للإنسان. أما السؤال الإشكالي فهو سؤال البديل الذي يمكن صياغته على الشكل التالي: ما هو البديل الذي يحقق ما فشلت فيه الحداثة ويخرج النقد العربي من المتاهة التي توغل فيها مع المناهج المستوردة؟ ورغم أن البحث عن بديل نقدي عربي أمر مشروع ومطلوب في ضوء المعطيات التي قدمها صديقي في رسالته، فإنه يبدو أنه اضطر لسلوك هذا الطريق بعد المعركة التي واجه فيها رواد الحداثة العربية وزعيمهم جابر عصفور. وقد كان من الملاحظ أن بعض الذين أدلوا بدلوهم في هذه المعركة، قد أخذوا على الشريف عدم تقديمه أي تحليل محايث لإثبات أطروحته، كما أنه لم يقدم بديلا نظريا يمثل توجهه النقدي،
النموذج المنتقَـد:
يقدم في رسالته نقدا تحليليا مفصلا لظواهر القصور في النقد العربي الحداثي ولحالة الثقافة الفصامية للمجتمع العربي، فتناول نظرة هذا النموذج الحداثي إلى التراث العربي، وتصلب طرائقه المتحيزة إلى الثقافة الغربية. وتطرق إلى الصراع بين "نموذجي" النظرة إلى العالم الحداثي الغربي والتراثي العربي ، وتخلف وعي الحداثيين بأصول النموذج التراثي والتشوهات الفكرية التي تسم العلاقة بين صورته عن ذاته والواقع المعاصر للعالم. وتحدث عن آلية الصراع بين العنصرين المكونين للمعرفة النقدية في العالم العربي، وأعلن انحيازه إلى موقع الأصالة، محللا موقع بعض المثقفين الآخرين من هذه الأزمة، ودورهم في تجاوزها وألوان القصور التي تشوب جهودهم من أجل تحقيق هذا التجاوز، والعلاقة بين النزوع الحداثي والصراعات الإيديولوجية التي سادت القرن الماضي بين قوى العالم العظمى.
هذه على وجه الإجمال الصورة العامة للنموذج الحداثي المنتقد، سواء في أصله الغربي أو في نسخته العربية، أما على وجه التفصيل فإن هذا النموذج يتسم كما استخلصنا من الرسالة بالسمات التالية:
بأن الحداثة حداثات؛ فهناك حداثة اليسار الاشتراكي، وهناك حداثة اليمين الغربي. وفي داخل المعسكر الغربي نجد حداثة يسار وسط وحداثة يمين وسط، . وتنقسم ما بعد الحداثة بدورها إلى مدارس متنوعة: مدرسة دريدا، ومدرسة ييل التفكيكية…
كما تدعي الحداثة الانحياز إلى سلطة العقل ومنجزاته، وتقطع مع كل ألوان الفكر الغربي، وتقوم بأنسنة الدين، وترفض تأثيره في إنتاج الثقافة، وتجعل من الإنسان مصدرا لجميع القيم، أسطرة الانسان في مقابل "أنسنة الدين . ورغم أن الحداثة تزعم أنها تتحيز لما هو إنساني، فإنها تغلف ذلك بطابع مادي صرف يتحول فيه الإنسان إلى مجرد أداة للطبيعة خاضع لقوانينها المادية المحسوسة،
ومن هنا فقد احتل المثقف الحداثي العربي مواقع متعددة في ظرف وجيز، وانتسب إلى عدة مذاهب نقدية مختلفة دون أن يعلل هذا التحول؛ ومثال ذلك تحول العديد من المثقفين والنقاد العرب من "الحداثة" إلى "ما بعد الحداثة".
كما عمد المثقفون الحداثيون الغموض ويعني هنا تعمد الحداثيين الغربيين والعرب اختيار الغموض والمراوغة أسلوبا للكتابة حتى يجهد القارئ عقله في فهم النص النقدي وإن أدى ذلك إلى ضياع النص الإبداعي فهي اختيار مقصود يسعى إلى لفت الانتباه إلى لغة النقد باعتبارها إبداعا يوازي الإبداع الأدبي، لكن هناك غموضا آخر غير مقصود لا يقل سوءا لأنه يؤدي إلى تشويه الأفكار والمفاهيم الأصلية وينشأ غالبا عن سوء الترجمة والنقل إلى اللغة العربية، ولو رجع الباحث إلى الأصول الغربية المترجمة لوجد ما يغنيه عن فك طلاسم الترجمات التي لا تستعصي فقط على فهم القارئ، بل تستعصي على فهم المترجم نفسه ولتمكن من التواصل معها بأقل قدر من الجهد. والشواهد على ذلك كثيرة أدرج منها الشريف ما يثبت دعواه. وما يثير الانتباه هنا هو أن هذا النوع من الغموض يمضي بخطوات متسارعة، ويتطور من سيئ إلى أسوأ. وفي الواقع إن ما لم يتمكن الشريف من الانتباه إليه هو أن دعاة الحداثة وما بعد الحداثة يتعمدون الغموض، لكي يرسخوا العلاقة بين الدال والمدلول؛ فكل الأمور نسبية متغيرة وليس ثمة مطلق يصلح أن يكون مرجعا، ولا وجود لعناصر ثابتة في العالم تهرب من قبضة النسبية والحركة والتغير. ومن ثم فإن النموذج الحداثي حين يتعمد الغموض فإنما يتحيز للدوال دون المدلولات. وخلاصة الأمر إن النموذج الحداثي المنتقد في الرسالة يتحيز لكثير من التعميمات، ويتجاوز الغائيات ولا يهتم بالخصوصيات، وهو كافر بالإنسان وبالاختلاف، وفاقد لمرجع ثابت ومركزي.
ولعل استحالة تطبيق هذا النموذج في مجال الأدب والنقد تظهر في تكاثر المفاهيم النقدية وإسهال المصطلحات الذي أصيبت به الحضارة الغربية، حتى أنها تطالعنا يوميا بمصطلحات جديدة يقدمها أصحابها على أنها أكثر دقة وعمومية واقترابا من العلمية والعالمية، ثم تسقط وتموت لتحل محلها مصطلحات جديدة يلهث وراءها مفكرونا، متصورين أنها تقدم لهم إجابة على أسئلتهم وحلا لمشاكلهم. ولم ينتبه الشريف إلى هذا الأمر حين تحدث عن أزمة المصطلح، واكتفى بإلقاء اللائمة على النقاد العرب الذين لا يراعون في نظره السياقات التي تنقل عنها المصطلحات، ويقترح حلا بسيطا، وهو “أن قراءة التراث النقدي الغربي والاتصال به ـ بدلا من القطيعة ـ كان كفيلا بتجنيب المثقف العربي الكثير من مزالق فوضى المصطلح والحقيقة أن أزمة المصطلح ليست مقصورة على النقد العربي المعاصر، بل هي حالة مرضية عامة لم تسلم منها الدراسات النقدية الغربية أيضا. وبعبارة أخرى، إن أزمة المصطلح ليست أمرا استثنائيا أو انحرافا في الترجمة والنقل، وإنما هي تعبر عن ثابت أساس في الحضارة الغربية لصيق بنموذجها الحداثي، ورغم ذلك فقد أصاب صديقي حين أرجع أسباب الأزمة إلى “تركيبة متشابكة ومتداخلة من الأسباب أبرزها خصوصية المصطلح النقدي، وخصوصية الثقافة التي تفرزه، ثم نسبية المعنى عند نقل المصطلح من وسيط لغوي إلى وسيط آخر، وأخيرا نسبية المصطلح التي تحددها التغيرات والتحولات السريعة في القيم المعرفية .
يحدد سميح الشريف من خلال استعراضه لقضايا نقدية كانت مثار اهتمام النقاد القدماء في السياق العربي مشاكل متعددة .
إن قراءته لقضية اللفظ والمعنى رغم تحيزها للسياق التاريخي والأدبي الذي أنتجها، ومراعاته للخصوصية الحضارية التي دفعت بها إلى واجهة الاهتمام النقدي، فإنه اختار، في نظرنا، عن عمد تجاهل السياق العقدي الذي نشأت هذه القضية في ظله، لأنه لم يعد موجودا في عصرنا، وذلك لكي يتمكن من تحيين القضية مجددا وربطها باحتياجات الحاضر، وهذا ما نلمسه في كثير من الأقوال التي جاءت في رسالته والتي ستتضح في ما يستقبل من الكلام. القراءة الإشكالية نعني بهذا النوع من القراءة سلوك طريق الانتقاء، وتفضيل بعض جوانب التراث النقدي العربي على بعض، والسكوت على بعض الجوانب الأخرى، سواء أكانت ذات أهمية في بناء نظرية نقدية أو هامشية تثير بعض المشاكل على هذه النظرية، ولم يخف الشريف سلوكه هذا المسلك، فنبه عدة مرات إلى أن تطوير نظرية لغوية ونقدية عربية، يتطلب القيام بعملية غربلة دقيقة وتنقية واعية لتراثنا اللغوي والنقدي من كثير من تناقضاته وتداخلاته قبل أن نضع أيدينا على مفردات تلك النظرية وأشارالىأن الدراسات اللغوية العربية كان لها ان تقدم الكثير، لو تمت عمليات غربلة بعيدا عن الإحساس بدونية العقل العربي.
وتبرز رؤية صاحبي أيضا، حين حدد، من خلال استقراء معطيات التراث النقدي والبلاغي العربيين، أركان النظرية الأدبية العربية والتي يمكن، في نظره، تطويرها للوصول إلى بديل نقدي جديد، يستجيب لخصوصيتنا الحضارية، ويستوفي جميع العناصر التي يحتاج إليها الناقد العربي المعاصر. وهذه الأركان هي: ـ المحاكاة والإبداع، الإبداع باللغة، التناص، الشكل والمضمون. ولا تشكل هذه العناصر، في نظري، أركانا، وإنما هي قضايا تتغير وتتجدد وقد تختفي إن انتفت الحاجة إليها، ويمكن أن ندخل كل تلك العناصر المذكورة ضمن قضية واحدة تشملها وتحتويها، هي قضية "اللفظ والمعنى". لكن ما يثير الانتباه بل الاستغراب هو سكوت صاحبي عن عنصر هام يستحيل تجاوزه في أي عصر وحين؛ وهو عنصر تفنن القدماء في التنظير والتمثيل له، وعدّوه خاصية مميزة من خواص الكلام العربي، وعنوا بوضع الكتب فيه؛ وهو عنصر الموسيقى والإيقاع، لا في الأوزان الشعرية والقوافي فقط، بل في الحروف أيضا والألفاظ. ومن الغريب أن يفوت على صاحبي الانتباه لهذا الأمر، وهو المطلع على كتابات النقاد القدماء، خصوصا قدامة بن جعفر الذي استقصى عيوب الأوزان والقوافي، وأشار إلى نعوت الوزن وعلاقتها بالألفاظ والمعاني. هذه، باختصار، بعض الإشارات التي وردت في الرسالة .
ولي أن اقول هنا ان سميح سيظل مثقفا كبيرا يتطاول به فكره بنيانا شامخا نتقطع الأسباب لبلوغه .
شكرا أستاذنا على الرسالة التي حملت إلي بعض أنفاسك الزكية لى قاطعة مسافات الزمن الذي لم أراك فيه .
التعليقات (0)