حوار مع صديقي الملحد 1
كمال غبريال
تلك واحدة من حلقات حواري الذي لا ينقطع مع صديقي الملحد، الذي لا أظن تحديد اسمه بأمر ذي بال، فقد يكون هذا الشخص أو ذاك، وقد يكون هاجساً داخلياً، أصارعه ويصارعني، فلا يكف ولا أكف أناء الليل وأطراف النهار:
قلت: إذا الإيمان ضاع فلا أمان، عبارة يرددها الإنسان منذ البدايات الأولى لإشراق وعيه.
قال: عبارة أوهم الضعفاء بها أنفسهم، تمنحهم شعوراً زائفاً بأمان لا وجود له، وفي ذات الوقت تبرر لهم عجزهم أو تكاسلهم عن صنع أمانهم بأنفسهم.
قلت: الإله الخالق هو مركز الوجود وضامن انتظامه وديمومته، ونحن نحيا في ظل رعايته، سواء أدركنا ذلك أم خانتنا بصيرتنا، كما يمنح نعمه للجميع مؤمنين وملحدين، ويشرق شمسه على الأبرار والأشرار.
قال: مهلاً يا صديقي، تقول أن إلهك ضامن لانتظام الوجود، رغم أني لست أدري عن أي انتظام تتحدث، فالانتظام الوحيد في الكون هو في خيال الإنسان أو من صنعه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أما الكون الفطري، والذي تدعي أن إلهك يديره فلا يحكمه إلا قانون الفوضى، وإذا كان لابد من الإيمان فليكن بإلهين، إلهك النوراني السماوي خالق الفوضى وإلهي الإنساني الأرضي خالق النظام.
قلت: النظام من الإله والفوضى من الشيطان.
قال: لننحي لبعض الوقت الخلاف على التسميات طالما اتفقنا على ذات الثنائية، لكن دعنا ندين من حيث المبدأ انتحال أعمال الآخرين، أو نسبة أعمالنا غير المرغوب فيها لهم، فأنت حين تفعل هذا تذكرني بصناديد العروبة حين ينسبون للعرب حضارة شعوب لم يكن للأيدي والعقول العربية من نصيب فيها غير النهب والتخريب، وحين يلقون بتبعة فشلهم على ما يسمونه قوى الهيمنة والاستكبار وما شابه، كذلك إلهك يدعي لنفسه خلق النظام الذي لم يخترعه ويسع إلى تطبيقه إلا الإنسان، وينسب ما خلق من فوضى إلى الشيطان، ولا عجب في هذا، فالإنسان حين خلق الإله خلقه على شبهه ومثاله.
قلت: ها أنت دون أن تدري تعترف في حديثك بوجود الإله المتعالي، بغض النظر عن رأيك في قدراته، والتي لا تعدو أن تكون خلطاً بين خلق الإله وكله كمال، وبين أفعال الشيطان عدو كل خير، فلا الكون ولا المنطق يستقيم إلا بالإيمان بالخالق الأعظم، ثم أنك يا من تدعي العلم تجافيه بتسرعك وتعميمك لوصف الفوضى على كل الكون، رغم أنك ترى يومياً انتظام الشمس والقمر وسائر الأفلاك في مداراتها، بل وانتظام أجزاء جسدك وأعضائه في عملها الإعجازي العجيب.
قال: أما عن الاعتراف بوجود الإله المتعالي فاعلم يا صديقي أني ما تركتك تخلع علي لقب ملحد إلا لعدم رغبتي في خوض جدال معك حول توصيفك لمجمل آرائي، أيضاً لقطع الطريق عليك فلا تستغل هذا الوصف كلما صدرت عني آراء لا تروق لك، فكان أن قبلت التسمية من قبيل المناورة ليس أكثر، ذلك أن لكل منا في خياله وقلبه إله متعال، لكن الاختلاف البين بين الناس في مختلف العصور التاريخية والحضارية هو على مواصفات هذا الإله، فكل منا كما قلت لك يتخيل إلهه على شكله ومثاله، فالقوميون العرب مثلاً، والذين تنتفخ أوداجهم وقلوبهم بالكراهية يتصورون الإله وقد امتلأ حقداً وكراهية على بعض من خليقته، كذلك النهابون السلابون يتصورون إلهاً يحبذ النهب والسلب، والمتعطشون لسفك الدماء يتخيلون إلهاً يرضى بسفك الدماء بل ويحرض عليه، بل ويظنون أنهم بأفعالهم الدموية إنما يتقربون إلى الإله، وليس هؤلاء فقط بل أيضاً المسالمون المحبون للحياة يتصورون إلهاً مسالماً يمنح الجميع عطاياه بلا تفرقة، بل ويحب الخطاة ويتأنى عليهم حتى يتوبوا، لا أن يقتلهم أو يحرقهم ما لم يتوبوا، والفرق بين الإلهين هو ذات الفرق بين نوعين من المؤمنين، لذلك لم أوافقك في البداية حين قلت إذا الإيمان ضاع فلا أمان، فالمحك ليس الإيمان من عدمه، ولكن بماذا تؤمن، أكاد أقول لك حدثني عن إلهك لأخبرك من أنت!!
قلت: لا تتهرب مما أنت متهم به من خيانة للعلم بادعائك سيادة الفوضى في الكون رغم وضوح العكس لكل ذي عينين.
قال: ضربت أمثلتك من الكون الطبيعي سواء كان أجرام أو خليقة، ونحن لا نتحدث –على الأقل الآن- عن هذا، نحن نتحدث عن الحياة الإنسانية والتاريخ الإنساني، فالقانون العام لهذا التاريخ هو الفوضى والنظام هو الاستثناء، وهذا الاستثناء ليس بفضل تدخل قوة متعالية، وإنما بفضل الإنسان وجهده الدؤوب لمنح النظام والاتساق إلى العالم، فتاريخ إنشاء الإمبراطوريات العظمى، بداية من العصر الفرعوني والأشوري ثم اليوناني والروماني حتى عصر العولمة، وإن شئت التسمية العصر الأمريكي، هو محاولات على المستوى العريض major scope، لمنح العالم بعضاً من الاتساق والنظام، إلى المحاولات على المستوى الأضيق minor scope لتنظيم حياة الإنسان وفق قوانين ونظم، تتيح للإنسان الرفاهية والتقدم، ناهيك عن أي دوافع ثانوية تبدو كما لو كانت الدافع أو المحرك الحقيقي للأحداث.
قلت: ولماذا لا نقول أن الفوضى من فعل الإنسان وشروره، وأن النظام هو الترتيب الإلهي الذي خلق عليه الكون منذ البداية، وما رسالات السماء إلا حث وتحذير للإنسان ليكف عن عبثه بالنظام ويعود إلى جادة الصواب، وهنا نأتي إلى الشق الثاني والجوهري من الإيمان بعد الإيمان بالإله، وهو الإيمان بالمرسلين وبرسالات السماء؟!
قال: إذا افترضت أن النظام هو القاعدة وتدخل الإنسان هو مثير الفوضى فعليك أن تثبت ذلك، ليس بتدبيج العبارات الإنشائية، أو الغرق في براهين ميتافيزيقية، ولكن بتجربة عملية، وهذا بالضبط ما لا يخطر أبداً على بال المدافعين عن الإيمان، أما ما أفترضه أنا فإثباته العملي من أبسط ما يكون، فلنأت إلى أي موقع أو مجال حياتي يتسم بالنظام، ونأمر الإنسان بالكف عن سعيه لرعاية هذا النظام وتثبيته، ماذا تتوقع أن تكون النتيجة؟! الفارق الأساسي يا صديقي بين الأمم المتقدمة والمتخلفة، أن الإنسان في الأمم المتقدمة قد آمن أنه سيد مصيره، أما في تلك المتخلفة فالناس يعتبرون أنفسهم عبيداً، تارة للإله وتارة للسلطان أو كهنته وحوارييه، الأسياد فقط يا صديقي هم القادرون على بناء حضارة، أما العبيد فمكانهم دائماً في القاع.
قلت: تتجاهل أن سعي الإنسان ذاته هو بأمر ومشيئة إلهية.
قال: من الناحية المنطقية البحتة يمكن افتراض أو ادعاء ذلك، ورغم أنه منطق يدور في حلقة مفرغة يفضي في النهاية إلى لاشيء من الناحية العملية، حيث يبدأ بكلمات ولا ينتهي إلا إلى كلمات، إلا أنني لا أجد أمامي إلا أن أسلم بدحض برهاني، وأطالبك أنت بتجربة عملية تؤيد افتراضك، فإذا أدرت النظر حولك في بحر المؤمنين المتكلين على الإله، لترى كم منهم يتضورون جوعاً، وكم ينتظرون العون من الملحدين أسياد أنفسهم، ربما ستكتشف برهاناً عملياً لعكس ما تؤمن به.
أما عن رسل ورسالات السماء وافتراضك بعدم إيماني بها، فالمشكلة هنا ذات المشكلة الأولى فيما يتعلق بالإله المتعالي، الأمر هنا يا صديقي ليس مسألة إيمان وعدم إيمان، إنما الخلاف في طبيعة الإيمان ومواصفاته، والتي تختلف بالقطع ليس بيني وبينك، وإنما تختلف باختلاف البشر وعقلياتهم والمنهج الذي يحكم قياسهم وتصورهم للأمور.
فالأنبياء على مر التاريخ الإنساني كانوا رسل السماء بمعناها الأدبي heaven ، وليس المادي sky، وهدفت رسالاتهم فيما أعتقد إلى جعل الأرض مكاناً أفضل يليق بحياة الإنسان، أي إرشاد الإنسان للسلوك الكفيل بتحقيق هذا الغرض الأساسي، هذا هو ما يمكن أو يتوجب أن نتفق عليه جميعاً، مهما تبادلنا من إطلاق المسميات أو التصنيفات، ومها اختلفت تفصيلات تلك الرسالات وشخوص المرسلين، وليس من حق أي منا أن يحاكم أخيه على ما يخرج عن نطاق هذا الهدف وأساليب تحقيقه.
أما إذا قام فرد أو جماعة بقلب الأمر رأساً على عقب، بحيث اصبح في شرعه –أو شرعهم- الرسل ورسالاتهم سبباً في جعل الأرض ساحة للاقتتال والتخريب وسفك الدماء، تحقيقاً لغايات يدعون أنها مشيئة السماء، فإني في هذه الحالة أفضل أن أكون في نظرهم ملحداً على أن أكون مؤمناً بشرط أن أعتقد ما يعتقدون.
قلت: بالطبع أنت لا تعمم هذه الأوصاف على جميع المؤمنين؟
قال: بالطبع لا، لكن المسألة ليست في مجرد اختلاف تفسيرات الرسالات بين هذا وذاك، أو بين نصوص الرسالات المختلفة وبعضها البعض، فالخلاف الجوهري في أمرين:
· هدف أم وسيلة: هل الرسالة النصية في حد ذاتها هدف على المؤمن أن يسعى للتطابق معه، أم هي وسيلة للإرشاد لما فيه خير الإنسان وتعمير الأرض، ومن ثم إرضاء الإله صاحب الرسالة؟
· معايير القياس: هنالك نوعان من معايير قياس الالتزام بالرسالات، معيار قبلي عبارة عن استقراءات منطقية للنصوص يتحدد على أساسها نوعية السلوك أو الأداء ومدى شرعيته، ومعيار بعدي يكون بفحص وتحليل نتائج السلوك العملية، وتحديد مدى تطابق النتائج مع أهداف الرسالة مناط الإيمان.
قلت: أعرف أن تحويل الرسالة من وسيلة إلى غاية لا يخلق مؤمنين وإنما مجرد عبيد للنصوص، وأن القياس القبلي مدعاة للغرق في متاهات التفسيرات والتأويلات، مما يفتح باباً للشطط على مستوى الفعل، على شاكلة ما يعاني منه العالم الآن، من حملات إرهاب وكراهية تهدد الحضارة الإنسانية تهديداً جدياً، وأن القياس البعدي أو البرجماتي لنتائج الأفعال هو الكفيل وحده بإرشاد الإنسان للطريق الذي قرر أن يسلكه، وليس طريقاً آخر سواه، يؤكد له الكهنة والعارفون أنه طريقه الصحيح.
قال: إذا كنا قد اتفقنا على هذا، فما رأيك لو نحينا جانباً تصنيفات مؤمن وملحد؟
قلت: قد أتفق معك في أمر الأرض، ويبقى الصدع بيني وبينك غير قابل للرأب فيما يتعلق بأمور السماء.
قال: وماذا لو اقترحت عليك أن نترك أمور السماء لصاحب السماء، خاصة وأن قدراتنا الجسدية والعقلية تفي بالكاد لمعالجة أمور الأرض؟!
قلت: وإن تعارض الاهتمام بالأرض مع أمور السماء؟
قال: أنا شخصياً أعطي الأولوية لتعمير الأرض ورفاهية الإنسان.
قلت: وأنا أعطي الأولوية لرضاء السماء.
التعليقات (0)