حوار مع صديقي الملحد -2
كمال غبريال
صديقي اللدود لن يفارقني ولن أفارقه، فيما يبدو الأمر وكأننا صرنا اثنين في واحد، أو واحد في اثنين.
قلت: ألا ترى أننا قد عدنا إلى عصور الحروب الدينية، بعد موت الإيديولوجية، وبعدما تصورنا مع فوكوياما نهاية التاريخ، أم هو صدام الحضارات الذي بشر به صمويل هنتينجتون، أو هبَّة المهمشين في العالم لتحطيم حضارة الإنسان ذي البعد الواحد كما تنبأ هربرت ماركيوز؟
قال: تعددت المظاهر والداء واحد، فاختلافات المصالح كان يمكن عبر التاريخ أن تأخذ شكل صراعات أقل حدة، وأكثر ميلاً للوصول إلى حلول وسط، لولا مفهوم "الحق"، ذلك المفهوم الذي صكه الإنسان ليجلب عليه الويلات.
قلت: مشاكل البشر مصدرها الأهواء وسوء القصد والجهل، وبالأخير سوء تفسير النصوص المقدسة والمثل العليا.
قال: لا بأس، ولكنني أركز على ما يزيد الصراعات اشتعالاً، ويصل بها مثالاً وليس حصراً إلى ما نراه الآن من ممارسات وحشية لم تعرف البشرية لها نظيراً من عقود طويلة، يرتكبها من يرفع رايات "الحق"، فأنتم تسمون إلهكم "الحق" بألف لام التعريف، وبالتالي ما تنسبون إليه من أقوال، ويعني هذا بالطبع – وكما ترددون – أن ما عدا ذلك هو "الباطل" ومصدره "الشيطان".
قلت: المشكلة إذن في الممارسات أو المفاهيم البشرية المغلوطة وليس في "الحق" ذاته جل وعلا.
قال: هذه عوامل مساعدة، لكن المشكلة الأساس هي في الاعتقاد بأن "الحق المطلق" أو "الحقيقة المطلقة" – سواء الميتافيزيقية أو الأيديولوجية المتسربلة بالعلم- موجودة فعلاً وقابلة للبلوغ، وأن هذا الفرد أو ذاك قد توصل إليها بعقله، أو وصلته عن طريق الوحي، ومن ثم تتوارثها جماعته عبر العصور.
قلت: أعترف بالنسبية في العلم البشري المتعلق بالعالم الفيزيقي، فكل يوم نكتشف حقائق علمية مادية جديدة، تقلب تصوراتنا رأساً على عقب، كما فعل أينشتين مع قوانين نيوتن، وبالتالي يكون ادعاء التوصل لحقيقة علمية نهائية نوعاً من الغرور الساذج أو الوهم، لكن في المجال الأدبي، الأخلاقي والروحي، هنالك مثلاً أعلى علينا أن ندركه، إن لم يكن بالعقل فبالإيمان، ولا تنس أن الفلاسفة قد توصلوا إلى ذلك، وليس فقط أهل الإيمان من أنبياء ورجال دين.
قال: لا يجوز الجمع بين أهل العقل وأهل الإيمان، حتى لو بدا ظاهرياً التقاؤهم في نقطة ما، لأنه مجرد لقاء عابر لا يلبث أن يفترق، مادامت المنطلقات مختلفة، والاتجاهات كذلك، فالإيمان كما يقول بولس الرسول هو "الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى"، لهذا تجد مثلي لا يقبل أن يطأ بقدميه دائرة الإيمان، فأنا لست مستعداً للثقة بما يرجى، أي الثقة بتحقق أمنيات أو أحلام أو أوهام، كما لن أتيقن من حقيقة ما لا يمكنني رؤيته أو تلمسه بواحدة من الحواس الجسدية، التي هي السبيل الوحيد إلى اليقين، رغم أنه يقين مؤقت، لحين ظهور حقائق جديدة، وما عدا ذلك من تصورات تخرج عن نطاق العقل والمحسوس تبقى غير قابلة للنفي أو الإثبات، كما استنتج "كانط"، وبالتالي لا مجال للتيقن منها، بل ويكون الواقع المحسوس هو المرجعية التي تحدد صحة أو خطأ ما ندعيه من حقائق إيمانية، فإن أنجز اعتناق هذه الحقائق ثماراً جيدة للإنسانية كان ذلك مرجحاً لصحتها النسبية، والعكس بالعكس.
قلت: وماذا عن توصل أهل العقل أو الفلاسفة إلى وجود مثل أعلى أو حقيقة نهائية واجبة البلوغ؟
قال: إذا كنت تعني هيجل، فإن ما عرضه من دياليكتيك ونفي جدلي Negation هو تشخيص رائع لديناميكية التطور الإنساني عبر التاريخ، ولكيفية تولد القوى الدافعة للانتقال من حالة لحالة أرقى، باتجاه الوصول إلى مثل أعلى افتراضي، بحيث تكون مسيرة البشرية والحضارة متجهة إلى أعلى، إلى نقطة مثالية لا وجود لها في الحقيقة، لأنها دائماً أمامنا، وكلما وصلنا إلى محطة أرقى عملت فيها آليات صراع المتناقضات، فيتم تخطيها إلى نقطة أبعد وأكثر رقياً، وحسب المفهوم الهيجلي كل ما يتحقق على أرض الواقع ليس حقيقياً، من حيث أن الحقيقة هي الموجود بالإمكان في المستقبل، وهذا معناه أن الجدل الهيجلي ينتج لنا اتجاهاً نحو مثل أعلى، لكنه لا يدعي أو يدفع بنا نحو نقطة محددة هي الحقيقة النهائية، ولقد سقط هيجل سقطة لن يغفرها له التاريخ، حين قرر - مدفوعاً بعوامل سياسية أو انتهازية - أن الدولة البروسية هي المثل الأعلى المرتجى، فقد كانت سقطة مزدوجة، سقطة سياسية وسقطة فلسفية حين تنازل عن ديناميكية الجدل دائمة الحركة للأمام، وقبل استاتيكية التوقف عند حالة محددة هي حالة الدولة البروسية، فقد عطل أو أوقف قانون الحركة الدائمة الذي بنى عليه فلسفته، كما لو كان يهدم كل ما بناه.
وفعل الشيء نفسه الفيلسوف الوجودي مارتن هيدجر، والذي يقول بالتحقق الأصيل للوجود من خلال الحرية، وليس انصياعاً لنموذج ما في الماضي أو الحاضر، أو تحقيقاً لمثل أعلى متخيل في المستقبل، ولكن من خلال التحقق العيني للاختيار الحر للذات، لكنه أيضاً لأسباب سياسية يقرر بلا سند فلسفي أن النازية الهتلرية هي التحقق الأصيل للوجود، انظر أي كارثة أوقع نفسه فيها!!
نفس الخطأ وقع فيه ورثة ماركس، حين حول بعضهم جدله المادي إلى دوجما استاتيكية، فتساووا بذلك مع أهل الإيمان، وها أنت تراهم الآن في خندق واحد مع الأصوليين الثيؤقراطيين.
قلت: تتحدث عن ركض دائم خلف حقيقة أو واقع أرقى، دون ما أمل في الوصول إليه، لأنه ببساطة هدف افتراضي لا وجود له، وهذا عمل الفلاسفة، وقد يستهوي بعض المثقفين وليس جلهم، فماذا عن عامة الناس، الذين هم الكتلة والقوة الحقيقية للحضارة، وهم دافعو عجلة التغيير والتطوير، هؤلاء يلزمهم الإمساك بحقيقة محددة وواضحة، يحتاجون لمعرفة الحق ليتجهوا صوبه، وإذا كان العلم بمنهج النسبية أو الشك الدائم لا يوفر لهم بغيتهم، فليس أمامهم إلا الاتجاه إلى الإيمان، الكفيل وحده ببث الطمأنينة في قلوبهم، وتوجيههم الوجهة الصحيحة لتحقيق حياة أفضل، الجماهير بحاجة نفسية لليقين، وإذا نزعته منهم تكون قد أصبت وجودهم الأدبي في مقتل، وبالتالي تكون قد هددت وجودهم المادي.
قال: واليقين أيضاً عبر التاريخ كان سبب الكوارث والانتكاسات الحضارية التي أصابت البشرية، والتي لولا ما يعقبها عادة من شك وتشكك في الثوابت، ومراجعتها جذرياً، وهي العملية التي تعتبر بمثابة تنشيط لفاعلية صراع المتناقضات الهيجلي، لولا ذلك ما استطاعت البشرية القيام بعد مثل هذه الانتكاسات، واستئناف مسيرة التطور والحضارة، ويستوي في هذا التأثير المدمر لليقين، العلماني كاليقين الماركسي والنازي والفاشي، أو اليقين الثيؤقراطي كالحروب الصليبية وصراعات الطوائف في أجنحة العقيدة الواحدة لمختلف الأديان، حتى يقين جماعات التأسلم السياسي، والذي صار تهديداً جدياً لمسيرة الحضارة الإنسانية.
قلت: ألا ترى أنك تعطي الجانب الفكري أهمية أكثر مما له في الحقيقة على أرض الواقع، على حساب مقومات الصراع المادية كاختلاف المصالح والظلم، ودفع الشعوب بعضها لبعض في حراكها المستمر عبر التاريخ؟!
قال: كان يمكن أن أتفق معك، لولا أنك تتجاهل أن الإنسان لا يقرأ أو يتلامس مع الوقائع المادية مباشرة، ليكون لها صورة محايدة مجردة منفصلة عن الذات العارفة، فلو صح هذا لكان كلامك صحيحاً، لكن الواقع أن الإنسان يرى الواقع من خلال أفكاره المسبقة أو عقيدته أو ايديولوجيته، لتكون النتيجة أن الصورة المنطبعة في أذهان مراقبين عدة لواقعة عينية محددة، تختلف باختلاف الأفكار المسبقة والعقائد التي يعتنقها كل منهم، يمكنك التأكد من ذلك ببساطة بتسجيل الانطباعات الناتجة عن مشاهد ذبح الضحايا التي تنشرها الجماعات الإرهابية على مواقع الإنترنت، والاختلاف البين بين هذه الانطباعات لدى شعوب الشرق التي أنجبت هؤلاء القتلة، وبين انطباعات الشعوب الأوروبية!!
قلت: فليكن، فلنعتبر الأمر صراع أفكار يتساوى فيه الجميع، مؤمنين وعلمانيين.
قال: أنك مصر على التهرب من الحقيقة العملية الواضحة، أن فكرة "الحق الواحد" و"الإله الواحد" و"الحقيقة المطلقة"، وهي ثلاث مصطلحات تكاد تكون لنفس المفهوم، هي السبب في اشتداد الخصومة والصراع بين البشر بأكثر مما تمليه الاختلافات المادية، ولعل هذا هو السبب الذي جعل نيتشه يعلن موت الإله.
قلت: ليعلن نيتشه أو غيره ما شاءوا، فالإله الواحد هو الحي الذي لا يموت، وسبحان من له الملك والملكوت.
التعليقات (0)