مواضيع اليوم

حوار مع شيخ ناعور

فارس ماجدي

2010-01-20 12:56:15

0

ناعور
2
حوار مع شيخ صوفي
جرت هذه الحوارية قبل ربع قرن
اقتضى التنويه
في تلك الليلة شديدة البرد، والمطر المنهمر بغزارة، وصوت السيل الهادر الذي بدى وكأنه ضاق بأمواهه فراح ينثرها على حفافيه، وصوت الرعد الذي يأتي من بعيد فلا يلبث أن ينفجر مدويا في كل أرجاء الوادي صوته .
وأنا لا أزال أرمي بحطيبات من الزعرور والبلان على الموقد تشب النار قليلا وينسل نورها الى زوايا الغرفة المعتمة، تتراقص ضلال من النور هنا وهناك على وقع ليس بالمألوف
والريحُ لا تزال في ثورة وجنون، والبرقُ ينهش سكون الوادي ، والرعدُ في غضبة الموتور لا يزال يعكر على هدأتي كلما حاولت أن استدعيها مع كل رشفة شاي دافئة.
فالعاصفة ما انفكَّت تدور من حول بيت الشيخ تدور، نافخةً بأبواق الجنِّ والعفاريت، صافرةً صفير الهاويات السفلى، معولةً عويل الثكالى، عاويةً عواء الذئاب، زائرةً زئير الأسود، صاخبةً، ناقمةً، مولولة. وللرعد قصفٌ ودويٌّ وترجيع، وللبَرَد على السطح قعقعةُ آلاف الطبول يرشقها آلافُ الصبية بالحصى، وللصقيع في بدني لسعاتٌ موجِعات.
حتى خُيِّلَ إليَّ أنَّ العاصفة لن تهدأ قبل أن تقوِّض بيت الشيخ من أسُسه
عبثًا حاولت أن أصمَّ أذنيَّ دون الفحيح والصفير، وأن أزرع فيهما أغاني الجنادب، وزقزقة العصافير، وحفيف الأوراق، وخرير الجداول، حتى نقيق الضفادع في ليالي الصيف المقمرات. فما كنت أسمع غير هدير الرياح وزمجرة الرعود.
ُأقبل علىكأس الشاي فأجرعها ولا أبقي فيها ثمالة. تجري قطراتُها جَرْيَ السحر في بدني، فأحسها في عروقي دمًا سخينًا.
وأظفر بقطعة من خبز الشيخ ألتهمها بشراهة. وللحال أشعر بنشاط ما شعرت قبلُ بمثله قط، فأراني قديرًا على امتطاء صهوات العواصف وركوب السواحب الثقيلة .. وفي لمحة تشرق عيناي بنور لا عهد لهما بنظيره .
عندما سمعت صوت الشيخ الأجش يمر مرورا أنيسا في هذا الجو ...... مرددا
يا ألله، في وسط الكلِّ، ومن حول الكلِّ، ومن فوق الكل، أن تغمرالناس ببسمة من بسماتك، وتُحْييهم بنسمة من نسماتك، وتهمس في كلِّ أذن من آذانهم:
"مَنْ لم يرتوِ بمآقي المزن لن يرتوي إلى الأبد
"مَنْ لم يتغذَّ بقطرة من مطر لن يشبع إلى الأبد"
"ومَنْ لم يُحرِقْ عينيه لن يبصر إلى الأبد"
وهنا قررت أن اقطع هذا الجنون بحوار قصير مع الشيخ يوسف بعد أن أنهى صلاته وجلس قبالتي كأنه قرأء ما همست به نفسي ......... وما همست به نفسي كان قولي إبان صلاته ......
(العارفون هم أبناء الشمس الذين عزموا على رؤية كل شيء، والنظر إلى كل شيء، وممارسة لذَّات كل شيء، لأنهم عيون الرب في وجوده؛ يرى بهم كل شيء، وينظر بهم كل شيء، ويلمُّ بكل شيء. والحقيقة تعني توسلات الرؤيا لجسور السواحل في الظهور.
الخيال عندهم ثرثرة المعاني في مجالس الغيب. هم أهل الليل، بيت الله الذي يتوسَّط ساقَيْ الوجود: ساق من نور، وساق من ظلام. وأرواحهم معلقة بأرجوحة إعماء، وأفواههم تحمل خطابات المعاني للوجود، ومرايا رؤية الرب التي تلمُّ بجنون الخطابات. هم أطفال المعاني في أحضان المشيئة التي ربَّتهم أحراراً.
مقاماتهم جروح أقدام الرب في مسيرة البرازخ. وأحوالهم رياح الجنوب التي لا تملُّ من العتاب. والكشف والحجاب بحارٌ لمراكبَ غرقى؛ والفناء والبقاء ألواح تطفو على ساحل التِيْه الأعظم. لعبة من القرب والبعد لا تحظى بالقُبَل والاحتضان. وعشقهم هوس الموتى من وراء منافذ قيود اللذات. وحزنهم فرح قديم يطفو على سطح السعادة المتأخرة. وتوبتهم انحناء الجسد في بيت الخطايا. وتجريدهم عري الخطاب في غرف خالية من عسل الأنثى. ونفوسهم أقداح الطاعة الممتلئة بالتحولات. وتوحيدهم سكر الفنانين على موائد النار. وذواتهم موائد عليها فاكهة الجنة، يأكل منها المؤمن والكافر. ونومهم سرير العبودية الذي يحلم بالمسافات. وصبرهم عربة يجرُّها حصان الفقر. ورؤياهم امتداد الوادي المقدس المنطوي تحت أسرار دعوة نزع النعلين، ولفِّ الساقين، والجلوس أخيراً فوق نار التيه، والانتظار آخراً بلا أسماء…
يقول لهم الرب: “من راسلتُه ابتليتُه بجميع البلاءات، ظاهرة وباطنة. ومن لمستُه جعلت العباد يبحثون عنه في كل مكان كي يكون وليَّهم. ومن قبَّلته قطعتُ رأسه. ومن احتضنتُه أفنيتُه إلى الأبد.” وقال: “لم أصافح أحداً لأنه سيكون إياي.”
هؤلاء هم أهل العرفان الذين عشقوا الله، وذابوا في كل معانيه، وتجردوا من كل شيء من أجل الحضور والرؤيا والفناء في المعنى الأسمى. إنهم المجانين الذين يتطلعون إلى عقل لا يغيب.
فكيف نصف هؤلاء، والصفات حجبٌ انتهكوها، والأسماء عبارات تجاوزوها؟
إنهم كلمات الله التي لا تنفد.
إنهم حقاً أهل الله).
فقال : نعم يا بني العارفون هم ... هم ... كما حدثك به نفسك .... صحوت من همساتي ولمساتي مندهشا وكم كان هذا الشيخ يدهشني كما كان يدهش غيري ....
قلت : منذ متى أيها الشيخ كانت رحلتك مع أهل العرفان ...؟
قال : بل رحلتي مع الحقيقة ....... أنها رحلة بدأت من هنا وأشار الى قلبة وظلت هنا اي في قلبه . ثم في هذا الملكوت الأرضي الذي منه نسجت جانحي المعرفة فطرت بهما الى ملكوت السماء ...وهي الموقف الأخير الذي كسرت به عصا الترحال ...
قلت مقاطعا الشيخ : إن الرحلة مع أهل العرفان لها مذاق خاص. فقد توغل أهل العرفان في جميع زوايا الحياة والفكر، كما نثروا مفردات الدين ورموزه وحقائقه في ساحة الوجود ، وأنتجوا نصوصاً تحمل سجا روحيا عذبا مختلفة ألوانه، على صعيد اللغة والحكمة المتعالية، وفتحوا علم الوجود والمعرفة، وعلوم الذات والأسرار، وعلم الآخر والكيانات. وكذلك أسَّسوا الفهم الوجودي لكيان الدين و مفردات الوجود، ورسموا اتجاهات معرفية متعددة في إدراك الإنسان وأسراره وشبكة اتصالاته بالذات وبالآخر، وكذلك في معرفة مكنون النصوص ، وكان نتائج بحثهم صياغةٌ حية متكاملة لذات متكاملة، منزاحة من عوالم الغيب إلى عوالم الشهادة، ولحركة الإنسان في الحياة الدنيا، التي دخلوا كل زواياها ومسالكها، حتى صاغوا سلوكاً إنسانياً صافياً يحمل كل حيثيات الإنسانية وتفاصيل ظهورها وتكاملها.
ومازال هذا التراث العرفاني والصوفي يدهشنا ويثيرنا، كما يحمل في دواخله حضوراً متواصلاً. والعلة في ذلك ترجع إلى تحطيمه كل القيود والأنظمة التقليدية التي تتسلَّط على الحقائق وتُضمِر وجودها وتعيق حضورها وحركتها الزمانية والمكانية. فأهل هذا العلم الإلهي يتجوَّلون في مدارات الوجود والمعرفة والحياة والفكر بشكل حرٍّ ......
أطرق الشيخ كثيرا وتلك عادته واستمع بكل كيانه لهذا السيل الهادر من العبارات التي غلفتها بأسلوب خطابي وكأنني كنت أهدأ من روعي وما أصاب دواخلي من صخب هذه العاصفة المجنونة ............
قال الشيخ : صدقت ... صدقت .. ......
ثم أخذ حزمة من الحطب وألقاها الى الموقد ثم تمتم بكلمات وصلت الى مسامعي خافتة لم أتبينها جيدا ... لعله أراد أن يقول ..أراد أن يقول ....
لكنه إنعطف بعينيه نحوي قال: نعم ........
إن جوهر أهل الطريق وهدفهم الأسمى هو الله فقط، وشعارهم الأبدي هو “لا مقصود إلا الله” – تلك الحقيقة المطلقة التي يتشوقون للاتصال بها والوصول إليها.
قلت : أعلم ذاك ولكن بأية درجة وصلت أنت .. كان سؤالا جريئا لم أسله من قبل ..
قال : من خلال فلسفة الإزاحة والعبور، اللذين هما سُلَّمي العروجي في الاتصال أوهما جناحاي .........
قلت : وما ذا تقصد بالازاحة والعبور ؟
قال أن ينزاح العقل عن الدرب ثم تدخل بالروح ثم تابع قوله : هناك شروط لهذه الفلسفة دربت نفسي عليها سنين طويلة وجاهدت روحي وأنحلت جسدي حتى خلصته من ربقة الشهوات وهذه الشروط:
1. التخلِّي: يعني التخلِّي عن كل العوالق والعوائق والأستار والزخارف في الذات الإنسانية التي تقف حاجزاً سميكاً بين الذات والحقيقة المطلقة. وتسمى هذه بـ”فلسفة الحجب”، وفي شكلها الباطني، بـ”البرازخ”. وتنقسم هذه الحجب إلى قسمين:
أ‌. الحجب المادية (أو “الظلمانية” بالمصطلح العرفاني )؛ وهذه الحجب تحيط بالذات الإنسانية، وتشكل دوائر مغلقة في حركة هذه الذات، وتغلف معانيها في حضورها داخل مدارات الوجود. تتمركز هذه الحجب في مساحة الذات داخل عوالمها وملكاتها من النفس والعقل والجسد – وكل عالم أو ملَكة له حجابه الخاص ودورته داخل الذات ويمكن أن نطلق عليها الحجب النفسية والحجب العقلية والحجب الجسدية.
وأول مراحل الاتفاق والعهد للدخول في هذ الدائرة هو العمل على إزاحة هذه الحجب واقتلاعها من الجذور، وهذا ما فعلته للوصول إلى تصفية تامة لهذه الملَكات والعوالم كيما تكون مستعدة لاستقبال التنزُّلات الإلهية والتجلِّيات على ذاتي من أجل رؤيا واضحة للحقيقة.
و هذه العملية يابني من أهم وأخطر العمليات ، لأنها ستحدِّد معالم الحضور ومنزلته ودرجته داخل دائرة الحقيقة الإلهية. وتكمن خطورتها في الكيفيات التي يجب التعامل بها مع تلك الحجب وإلا تحولت هذه الكيفيات إلى حجب أخرى. وأما الطريقة المثلى عندي في التعامل مع عالم الحجب فهي المجاهدة .
ب‌. واضاف : أما القسم الثاني من الحجب هو الحجب المعنوية (الحجب النورانية)؛ وهي الحجب التي تتعلق بالأمثال العليا والحقائق السامية وما تُظهِره من أنوار حقائقها وأسرارها،
وتتعلق هذه الحجب بالأسماء الإلهية وأسماء الحقائق الظهورية، من الأنبياء والأولياء والأمثال السامية في مجالات علوم أهل العرفان، كالمعرفة والولاية والأسرار، والعلوم الباطنية، من كشف وكرامات. ومراكز هذه الحجب في عوالم الذات الإنسانية وملَكاتها مستتبة في القلب والروح والسر؛ وتسمى بالحجب القلبية والحجب الروحية وحجب الأسرار. وتتعلق هذه الحجب بمركز الذات الإنسانية؛ ويجب التخلص منها وإزاحة المسافات الوهمية والصور الخيالية لها. وطريقة التخلص منها تتمثل بالمجاهدات والرياضات المعنوية.. تنفس الشيخ هنيهة ثم نابع كلامه الذي راح ينهمر انهمار المطر في الخارج .أما الشرط الثاني في الاتصال والوصول إلى الحقيقة المطلقة فهو:
2. التحلِّي: ويعني أن التحلَّى بالأسماء الإلهية الصفاتية والأسمائية والعقلية التي تسري في وجداني لشعوري بأني مركز الوجود والحضور الذاتي للذات الإلهية، وفي الوجود، بشكل عام. فصار علي ان اتمثل هذا الحضور الخاص بالأسماء حتى الوصول إلى التكامل في دائرة الحضور الإلهي. والطريقة التي يتم بها التحلِّي هي تسلق المقامات العرفانية والمنازل الوجودية التي لها حالات مباشرة وذاتية مع الحق الإلهي. والغاية هي التكامل وشهود الحق في الوجود كلِّه، من خلال كل الوجود المادي والمعنوي. وقد اتخذت اسفارا أربعة هي
. السفر الأول: هو السير من الخلق إلى الحق
. السفر الثاني: هو السير بالحق في الحق
. السفر الثالث: هو السير من الحق إلى الخلق بالحق
. السفر الرابع: هو السير من الخلق بالحق

قلت : الا يحيل ذلك الى نظام الثنائيات وصراع الأضداد ، من خير وشر، ونور وظلام، وولادة وموت، ، إلخ.
قال الشيخ : لا.. .. أنا صاحب فلسفة الاستواء التي تنفي التضاد والتثنية .
ألم اقل لك ذات يوم :
من رآني تساوى عنده الكشف والحجاب، ومن لم يرني من وراء الضدين رؤية واحدة لم يرني. لقد تجاوزت هذه الإثنينيات.
قلت : ولكن الأضداد والإثنينية موجودة في تراث المسلمين وفي القرآن، كما هي موجودة في كافة الديانات.
قال: اعلم ذلك .. لكن الدين اتخذ هذه المنهجية لأنها الأقرب الى التمثل البشري العام لأن نظام العقول مبني على هذه القواعد والحضارة البشرية هي عقل بالنهاية لكنه عقل يؤدي الى الأرتقاء بالحياة بمعناها القواعدي الانساني ولن يكن بمقدوره القبض على الحقيقة لقد أحدثك قديما عن مشكلات القل الفلسفي الذي وقع في السببية والدور وقانون عدم التناقض والمبدأ الثالث المرفوع وكيف خرج منها جريحا حتى أتت عليه فلسفتكم الحداثية كما تزعمون ......
قلت : لكنك أيها الشيخ لا تستشهد بأقوال الأنبياء، ولا أسماءهم أو مقاماتهم، ولا أقوال والأولياء المعروفين ولا أسماءهم، ولا أراك تستشهد بآيات القرآن رغم أن أهل التصوف والعرفان يكثرون الاستشهاد بهذه الأسماء والأقوال، وخاصة آيات القرآن . ولا أراك مذ عرفتك تستشهد سوى بآية ( ليس كمثله شيء)
قال: نعم وذلك عائد الى فلسفة التجريد التام، وبناء ذاكرة جديدة، والوصول إلى الحقيقة بدون تسميات أو معارف . فأنا صاحب مقامين هما “مقام الحضور ” و”مقام الرؤيا”،
حيث قلت لذاتي اكشفي البراقع عن وجهكِ، واركبي الدابة السيَّاحة على الأرض، وارفعي قواعدي المدروسة، واحمليهم إليَّ على يديكِ، من وافقكِ على اليمين ومن خالفكِ على الشمال، وابتهجي أيتها المحزونة، وتفسَّحي أيتها المكنونة، وتشمري أثوابكِ، وارفعي إزاركِ على عاتقكِ؛ إني أنتظركِ على كل فجٍّ؛ فانبسطي كالبر والبحر، وارتفعي كالسماء المرتفعة؛ فإني أرسل النار بين يديكِ، ولا تدر ولا تستقر. إن في ذلك لآية تُظهِر كلمة الله، فيُظهِر الله وليَّه في الأرض.
صمت الشيخ وقال لا تدعني حتى أدعك فما وطئت أرضا ولا ارتقيت سماء إلا كنت رفيقي........
ثم قال : أتريد أن تهدأ العاصفة........ ؟
قلت: لا.. لا .... إني ساصاب بجنون لا أطيقه لو هدأت ....... لم أفكر بسؤاله ... ماذا كان يقصد ..؟ آه لو أني قلت له نعم أريد .. ألعله أراد أن اقول لا .. فقلت لا ... من يجرؤ في تكلك الساعة المثقله بمزن القداسة أن يقول شيئا .. ذهب الشيخ الى فراشه ... ايه أيتها العاصفة استمري في عويلك وأنت ايتها الرياح المجنونة بعثري كل شيئ في هذا الوادي وأنت أيها المطر لا تتوقف حتى تغرق الوادي وأنت ايها الوادي ابتلع أهواء الناس وأمانيهم في جوفك ... أما أنا فرحت أكتب :
أنهك شيخي جسمَه في البحث والاختبار والأسفار الروحية ، وبدأ يبحث عن كيان جديد للظهور يكون أكثر مقاربة ومصالحة مع ذاته ومسيرته السلوكية. لذا فقد فرغ ذاته المتكاملة في الخطاب الإلهي. ، وسعى كذلك إلى التشبُّه بالله ........
. إن شيخي يحاور ويتحدث حديثاً داخلياً تكامَل في ذاته: فهو يسمع، وينصت، ويصمت، ويتحدث؛ وكل هذه العملية الحوارية تتم داخل دائرة ذاته. فلا محلَّ للآخر إلا إذا أصبح ضمن مفردات هذا الخطاب، ومن ضمن عملية اتصاله يتحدث لذاته في غياب تام إلا من الذات الإلهية المخاطِبة. لهذا تحمل كلماته حرية الاتساع والإطلاق في العبارة، وامتداد المعنى، وبساطة أسلوبية، وعمقاً محسوساً لا يُسبَر غورُه.
يختزل شيخي المعاني اختزالاً غريباً. فهو يؤسِّس نصاً من ثلاث كلمات يختزل بها معرفة متكاملة، حيث يقول:
وقال لي: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة.
ويدل ذلك على عمق الفكر وتكامل سيطرة ذاته على المعاني والمعارف في اختزال التتابع الزمني للوجود.
تحمل كلماته مشاكسة للآخر فهو يقطع متعة السامع ولذَّته في التواصل والاستمرار، وكأنه يُضمِر العداء له؛ وهو يحاول امتصاص الآخر داخل الكلمة وإفراغ ذاكرته وملأها بمعانٍ جديدة دون أن تفقد كلماته وجدانيَّتها وإيقاعها. وأما معانيه فهي متراصة ومتماسكة في التفافها على السامع والدوران حوله؛ وهي لا تترك مجالاً له لالتقاط أنفاسه، بل يبقى مشدوداً ومندهشاً .
يتمتع الشيخ بخيال خصب وخلاق من كل الوجوه. إنه يستدعي الرؤيا لتكون من مقاماته الخصبة التي أنجبت صوراً لامتناهية للألوهية. فهو يُمطِر مشاهد غيبية، يمكن النظر إليها دفعة واحدة من جهات متعددة.
تُعتبَر الرؤيا أكثر “الآلات” التصويرية عمقاً في تصوير عوالم الغيب وزوايا البحث عن الحقيقة المطلقة. فالشيخ يحدد زوايا لالتقاط صور لمعانٍ لم يطَّلع عليها أحد من قبله. وبهذا الخيال الخصب الذي يتمتع به منح الرؤيا أعلى الدرجات في سُلَّم تكامل الذات الإنسانية في دائرة المطلق.
يحدِّد خيال الشيخ لسامعه نقطة صغيرة من الضوء في فضاء شديد الظلمة، فيحرِّكها بسرعة هائلة تداهمك بألوان شتى من الصور، سرعان ما تتلاشى؛ فلا يبقى منها سوى انعكاس الضوء على العين. إنه يرسم في هذا الفراغ المظلم صوراً من نور تبرق ثم تتلاشى، مصوِّراً لك الوجود مقلوباً، كما في بؤبؤ العين، ليستخرج صوراً تأخذ شكلها الطبيعي؛ وفجأة تراها تكبر وتتطاير بلمح البصر… قال أنا ذات مرة المنتظِر.. والمنتظَر.. داخل لحظة تكاملت في زمن الذات الإلهية وتهيأت وسكنت لتلقِّي الخطاب الإلهي المطلق. وأنا هو ذلك الذي تسلَّق قمة سُلَّم التجريد، والذي تجرَّد من التجرُّد ذاته؛ فها أنا أدور في عوالم الغيب والشهادة بدون حجب أو أستار. … وقال لي: أيها المنتظر إن لم تظفر بي، أليس يظفر بك سواي؟
المنتظر ،حضرة الخطاب الإلهي و القائل و الواقف هو أنا
ما ثمة مسافات :
ما بين بين المقول والقائل، تكون الكلمات الغيبية
. ما بين القائل والحاضر ، يكون الإنصات المعنوي
. ما بين الحاضر وذاته، يكون التدوين الظاهري والباطني
. مقام الحاضر مقام الصفات الإلهية الشهودية والغيبية.

. تختفي كل ضدَّانية وسوائية وغيرية داخل ساحة الحضور والشهود .
. مدار الحضور فوق مدارات أهل الأرض وأهل السماء، ....
إذا علمت علماً لا ضدَّ له، وجهلت جهلاً لا ضدَّ له، فلست من أهل الأرض ولا من أهل السماء.
.الحضور تعتق من كل شيء. فهو فوق عالم أضداد الدنيا والآخرة:
وقال لي: العالِم في الرِّق، والعارف مكاتب، والحاضر حر.
أهم الثوابت الذاتية في شخص الحاضر هي الصمدية، والفردانية، وعدم الالتفات الى الأغيار:
وقال لي: الحاضر لا يقبله الأغيار ولا تزحزحه المآرب.

وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء.
فالرؤيا آخر منتهى الوصول، على أن ترى الحق من وراء كل الأشياء. وبوجود الأشياء يكون للرؤيا القدرة على شهود الحق في كل الوجود، ورؤية الوجود في وحدة شهود الحق. فالرؤيا تنزُّلات الذات الإلهية على سرِّ الحاضر وتجلِّيات الحق على ذاته. ومن مساحات الرؤيا التي تتحقق فيها المشاهدة والكشف المعنوي.. النومُ .
وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني.
فنوم الحاضر هو الرؤيا المطلقة للحقيقة الإلهية. والنوم هنا نوم معنوي تنكشف له الحقائق عن مكنوناتها وأسرارها؛ وهي إزاحة معنوية لكل رقابة حسية أو مادية، وجدانية أو معنوية، عن حقيقة الواقف. فالنوم المعنوي يحقق هذا الفتح العظيم في رؤية الحقيقة الإلهية. واليقظة هي يقظة الأوهام في مسالك الوجود، بحيث تتلاشى الذات الإلهية في حجب هذا الوجود دون أن يعلم المستيقظ بذلك، ظاناً أنه في يقظة أمام الحقيقة، بينما هو في غيبوبة عن الحق. فالمستيقظ لا يرى إلا أشباح الحقائق؛ بينما تنكشف للنائم من وراء الحجب أسرارُ الحقائق. ويكون الحاضر صاحب الرؤية أعظم وأكبر من العارف كما يقول:
وقال لي: كل حاضر عارف، وليس كل عارف واقف.
وأما علوم الرؤيا التي تزيح عن الحاضر غيرية الأشياء وسوائية الحجب فهي أن تشهد الصمت الذي هو جوهر سرِّ الحاضر وقلمه الذي يدوِّن به حضوره . والصمت عند الحاضر ملَكة ذاتية:
وقال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل.
فهذه الشهادة التي يراها صاحب الرؤيا هي استيلاءُ كماله على كل الأشياء، فتشهد له بعمق الكل. وأما إزاحة ذاتية الحجاب فهي إشهاد وإنطاق الكل.
وقال لي: من لم يرني من وراء الضدَّين رؤية واحدة ما رآني.
وهذا التوحيد هو حقيقة التوازن الوجودي في جوهر شهود الحق في كل الأشياء. ولا بدَّ أن تتحقق لصاحب الرؤيا المعرفةُ التي يرى بها الحقيقة، ولا يرى بديلاً عنها.
وقال لي : إن زمن الله قيلولة أسمائه بلا نهارات؛ وإن زمن الإنسان خطيئة معلقة على رقبة الشمس.................

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !