اعتقل الكاتب السوري غسان المفلح لأول مرة عام 1979 لعلاقته بما كان يعرف يومها ب"جبهة الرفض الفلسطينية" ولانتمائه لـ "رابطة العمل الشيوعي" قبل ان تتحول حزباً. اما الاعتقال الثاني فتم عام 1987 ودام اثنا عشر عاماً، حوكم خلالها من قبل محكمة أمن الدولة العليا التي اضافت على حكمه بالسجن التجريد من الحقوق المدنية والعسكرية، بتهمة الانتماء إلى "حزب العمل الشيوعي" في سورية، كمنظمة تهدف إلى قلب نظام الحكم، وافرج عنه بعد قضاء محكوميته بتاريخ 5/10/1999.
يرد المفلح سبب هروبه من سوريا الى الخوف من دخول السجن مرة ثالثة "والخوف ناتج عن كوني عدت للكتابة في الشأن العام، واستدعيت مرتين بعد كتابتي أول مقال لي في منتدى اليسار الذي كان يديره الرفيق والصديق منيف ملحم، وكان هذا بعد خروجي من السجن بأقل من عامين". يصف المفلح خروجه من السجن بـ"الفاجعة": "فجعت بوفاة والدتي قبل خروجي من فرع فلسطين بعشرة أيام، ووجدت منزلنا وعائلتي وعشيرتي- عفوا على المفردة- كلها في استقبالي في باحة دارنا في الشيخ مسكين، حيث مكان العزاء وكل النساء تلبس الأسود". ويتذكر انه "في بداية اعتقالي فقدت والدي الذي أصيب بنوبة قلبية لعدم احتماله خبر الاعتقال، ولحظة خروجي من المعتقل فقدت والدتي التي كنت أنتظر رؤيتها تستقبلني في منزلنا".
وعند سؤاله عن التحديات التي التي واجهها عند عودته للكتابة أجاب: "كانت عودتي للكتابة تحتمل سؤالا واحدا: هل أعود للكتابة وأكتب بخلاف قناعاتي، ام أترك الكتابة نهائيا؟ ومن فرض هذا السؤال هو خوفي من العودة للمعتقل، لسجن صيدنايا أو لزنازين فروع المخابرات، حاولت في الواقع أن أتجنب هذا الخيار لمدة عامين تقريبا لكنني لم أستطع، وأنا أعيش كمواطن بلا صوت، لم أستطع".
ولكن كيف يتذكر المفلح صراعه مع ذاته بعد خروجه من المعتقل؟ وما هي ابرز الملامح التي تركها المعتقل في نفسيته؟ يقول: "مخزون هائل من الخوف، وبنفس الوقت مخزون هائل من الإحساس بالتفاهة الذاتية إن لم اعد للكتابة في الشأن السوري: إنها أمنا جميعا". بدأ موضوع الخروج من سورية، يدور في رأسه من دون القدرة على الافصاح بما يفكر لأحد "لأنه كان خياراً مراً بالنسبة لي، دفعني هذا الخوف الممزوج بإعادة الروح لكينونتي لترك سورية. لم تكن أوروبا تعني لي شيئا، فقد عشت فيها وعدت إلى سورية مرتين، المرة الأولى عشت في أسبانيا وعدت، والمرة الثانية سافرت إلى يوغوسلافيا وعدت أيضا بعد أقل من عام. أوروبا بالنسبة لي لحظة حرية... ولحظة تعلم ماذا تعني الحرية. في النهاية ألا يكفي الخوف من العودة إلى المعتقل لكي يكون سبباً لترك دمشق؟".
في سجنه كتب المفلح سبع روايات كانت سوريا بطلتها، حملت اسئلة كثيرة على شاكلة: كيف هي سوريا خارج السجن؟.
هل تغيرت الأسئلة اليوم، وهل اختلفت النظرة الى سوريا من المنفى عما كانت عليه من داخل الشجن؟ عندما تكون خارج السجن تجد نفسك كريماً، اما في السجن، فتكتشف أنك أنانيا في بعض الأشياء الصغيرة التي لم تكن في مجال تفكيرك أصلا. فمثلاً أنا مدخن شره، وكنت معتقلاً في بداية الاعتقال في فرع فلسطين مع 55 رفيقاً في غرفة لا تتجاوز مساحتها 16 متراً مربعاً، تخيل كيف يكون الوضع. كنت معتاداً على البقاء واقفا في الوسط بين الجالسين، وهذا يعطيني ميزة تحقق أنانيتي، كانت السيكارة المشتعلة تمرر بسرعة من معتقل إلى آخر، وكنت أكلف بهذه المهمه فآخذ نفساً وأمررها، ثم استعيدها مجدداً وامررها لآخر وهكذا. وتعود الشباب على هذا فأسموني المقص لأن المكان والزمان قسمنا إلى مجموعات تدخين... كل ستة أو خمسة يدخونون سيكارة، وأنا بوقفتي في منتصف المهجع كما يسمى كنت أشارك معظم المجموعات، وهذا زيادة على مخصصي".
من بين ذكرياته المرة داخل السجن يقف المفلح عند ذكرى محددة اكثر من سواها: "بعد مضي أكثر من ثمانية أشهر على الاعتقال اكتشفت ان رفاقي حملوني مسؤولية وصول المخابرات إلى مطبعة الحزب، وأنا لا اعرف أصلا أن مطبعة الحزب كانت في حلب! ولهذا كنت ألاحظ همسا في هذه غرفة لا أعرف سببه! حتى مضت فترة ثمانية أشهر، واكتشفوا أن لا علاقة لي بالموضوع!". بقيت هذه المعلومة عند كثر من الرفاق من دون تصحيح: "هذا لايهم ربما يجب أن يكون صمودك بالتحقيق موضع شك، رغم أنني لم أصمد ولم انهر،لأنني أصلا لم أكن ضمن التركيبة التنظيمية القيادية للحزب، ولهذا جاء التحقيق معي عاديا، لأن المخابرات قبل اعتقالي كانت قد وقعت على حقيبة وثائق تنظيمية". ويضيف: "الخلاف السياسي مع الخط الرسمي لأي حزب له ثمن عليك دفعه".
يتغلب المفلح على حنينه بالكتابة والحلم: "أتخيل نفسي أمشي مجدداً في تلك الأزقة والحواري، مع أصدقاء وخلان. أما الشوق لأهلي فهذا إحساس فقدته.لأنني أخاف أن تكتشف المخابرات شوقي إليهم! ويعتبرون هذا الشوق نوعاً من التواصل معهم وبالتالي يحملونهم مسؤوليته! الخوف هو المكان الأكثر حضورا في مخيلتي عن سورية". وعن حقده على السجن والسجان يقول: "هنالك عبارة لإدغار موران يقول فيها "من يخرج من السجن حاقدا على سجانه، معنى ذلك أنه لم يستفد من سجنه، تخلصت منه ليس لأن السجان يستحق ذلك بل لأن الروح يجب أن تكون نظيفة من كل سواد يؤثر على العقل والكتابة وبالتالي على رؤيتي لسورية".
عندما يفكر المفلح بالعودة الى بلاده يطل الخوف مجدداً ليقف في طريقه، خوف من السجن، من خسارة الحرية، كلا، "الحرية عندما تتحول إلى وطن، تمنعني من العودة إلى الخوف".
رابط الحوار: http://www.skeyesmedia.org/?mode=researchdetails&id=56
التعليقات (0)