موضة التظاهر الى مزيد من الرواج في لبنان، ومكينات تفقيس الحملات المطلبية في أوج نشاطها، فاللبنانيون منذ 22آب الفائت باتوا على موعد يومي مع مؤتمرات صحفية تبشِّرهم بولادة حملات جديدة... كلُّ حملة تنادي بمطالب مختلفة عن أخواتها وأحيانًا متعارضة معها بعد أن خرجت الحملة الأم "طلعت ريحتكم" عن مطاليبها المعيشية التي توسّلتها بداية لدغدغة عواطف الناس واستثارتهم مستغلّة معاناتهم وأوجاعهم قبل أن تكشف القناع عن مطالب سياسية انقلابية بامتياز فاتحة الباب أمام حراك فوضوي تخريبي لا نرى فيه إلا انقلابًا يهدف الى تغيير دستور لبنان.
عصا الحملات المطلبية وتظاهراتها أربكت السياسيين نعَم، لكن ليس جميعهم بل فقط ساسة التحالف المنحل ثم الميت المسمّى 14آذار؛ فاتهامات الفساد التي تطلقها الحملات (ومعظمها اتهامات محقّة) لا تطال إلا رموز ومشاريع الفريق السيادي، والمطالبة بالاستقالات لا توجّه إلا الى وزرائه ورئيس الحكومة المحسوب عليه وهو منه فعلاً، والتجمّعات لا تنظّم إلا أمام مؤسساته الدستورية (السراي الحكومي) والاقتحامات (بتسهيلات أمنية مريبة) لا تطال إلا وزاراته ولا تحاصِر إلا وزرائه!
لا أحد من أبطال تلك الحملات يجرؤ على المطالبة بحصر السلاح بالدولة، لا أحد ينتقد الحزب الإرهابي ولا رموزه ودوره في اغتيال الدولة وخيرة رجالاتها، لا أحد ينتقد فساد الحزب ونشاطه التهريبي في المرفأ والمطار والمعابر البرية، لا أحد ينتقد اغتيال الحزب للشباب عبر ترويج المخدرات وتصنيع حبوب الكابتاغون، لا انتقادات لتعدّي الحزب على الأملاك العامة والخاصة بما فيها الأوقاف والكنائس والمساجد، لا انتقاد لتوزيع الحزب حصص الفساد على أدواته خصوصًا أداته البرتقالية الرائدة في مجال جمع الثروات على حساب مشاريع قطع الكهرباء والمياه والاتصالات والمازوت الأحمر (وقد أقر الجنرال عون بأن الحملات سرقت شعاراته ومطالبه)، ولا انتقادات لأداة الحزب الخضراء المتمثلة بنبيه بري وحركته التي تنخر جميع مؤسسات الدولة، كما لا تظاهرات ضد ولا أمام المركز الرئيسي لحركة أمل المسمّى "مجلس النواب"... أما من يسمّون إعلاميًا بالـ"مندسّين" وهم الطابور الأول لا الخامس، فقد أعلنوا بكل صراحة انتمائهم الحزبي والطائفي وعبّروا عن ثقافة الحقد والكراهية التي غُسِلت بها أدمغتهم، وكلما تجرّأت القوى الأمنية على اعتقال أحدهم سارع ممثلو حملات التظاهر الى الاعتصام والمطالبة بالافراج عنه فورًا.
لن نتحدّث بطائفية لكن سنصف الواقع كما هو دون مجاملات ولا تلطيف عبارات، بعدما قُضِي على المسيحيين دستوريًا بإبعادهم عن أهم مناصب الدولة والأمن العام التي تُعُورِفَ على أسنادها إليهم بعد اتفاق الطائف وصولاً الى الضربة القاضية بتجريدهم من رئاسة الجمهورية وإهانتهم بإجلاس الفراغ مكانهم، بات الدور اليوم على السنّة من خلال استهداف الحكومة ورئيسها والوزراء السنّة فيها وإن كانوا من وجهة نظرنا -وتحديدًا أولئك المنتمين الى التيار الأزرق- أكثر من أساء الى السنّة أنفسهم وطعنهم في ظهرهم بسياسته الانبطاحية والتنازلية وتبعيته الى الخارج. أما من يدير عملية الاستهداف الممنهج فهو الحزب الإرهابي الذي ينفّذ الأجندة الإيرانية في لبنان وحيثما استدعى الواجب الإرهابي في دول المنطقة والعالم، والمطلوب اليوم بعد توقيع الاتفاق الجيو-سياسي (النووي) نسف الطائف والاتيان بدستور جديد يلبي أطماع إيران عبر إعطاء الامتيازات لشيعة ولاية الفقيه على حساب السنّة والمسيحيين. ولا يغتر بعض الناقمين بحق على الطبقة السياسية الحالية وفسادها بشعارات انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب وإلغاء الطائفية السياسية واقرار قانون انتخاب مبني على النسبية المطلقة... فهذه المطالب وحدهما كفيلة بإسقاط الدولة بالكامل بيد الحزب الإرهابي كونه يملك مع أدواته من نفس طائفته ومع عملائه في الطوائف الأخرى "البلوك" الانتخابي الذي سيصعَد بـ"التكليف الشرعي" على سلّم إلغاء الطائفية لاكتساح المناصب واحلال أقسى أنواع الطائفية في البلاد.
لا أمل اليوم في اعادة الحياة لدستور الطائف إلا بالحل الدستوري والقانوني الوحيد المتمثل بانتخاب فوري لرئيس الجمهورية في مجلس النواب، وأي التفاف على هذا المسار هو نعي رسمي للجمهورية الثانية ودستورها. ومن هنا، بدعوته الى "طاولة الحوار" اللادستورية من جديد للاتفاق على رئيس يكون "نبيه بري" قد استخدم بأوامر من الحزب الإرهابي عصا التظاهرات -شاء المتظاهرون أم أبوا أحبّوا أن يعرفوا أم أصرّوا على جهلم- لجمع نواة المؤتمر التأسيسي وسَوق أبرز ممثلي الفريق السيادي (باستثناء صاحبة القرار الحكيم بعدم المشاركة "القوات اللبنانية") الى قاعة اجتماعات المؤتمر التدميري التحضيرية، وهو ما نفهمه من تصريح "بري" في الأول من أيلول الجاري: "نسبة نجاح مؤتمر الحوار هي بمعدل صفر أو مئة، وهو من آخر الفرص الإنقاذية أمام اللبنانيين للخروج من هذه الأزمات".
التعليقات (0)