بعد صَمتٍ دام طويلا، وفشل مليونيات وجمع توقيعات واعتصامات ومظاهرات واحتجاجات، قفز إلى الحُكم قائد مصري، انتظرناه طويلا لكننا لا نعرف حتى لحظة الحوار ماذا يدور في ذهنه، وهل هو الزعيم الذي حلمنا به، أم سينقلب على عقبيه كما فعل مَنْ سبقه!
مصادفة جمعت بين الزعيم الجديد ومواطن مصري بسيط، فقررا أنْ يتصارحا دون استعلاءٍ من الأول أو خوف من الثاني، فكان الحوار التالي:
الزعيم: جئتك تلبية لندائك، وتأخرتُ عليك لأن الأرض والسماء والبحر يراقبها سيد البيت الأبيض الذي كان يدعم المخلوع، ثم تعاطف مع المشير، وقام بتصعيد مرسي فوق رؤوس المصريين رغم قدراته العقلية المتواضعة.
المواطن: لقد دهس أجسادَنا وعقولنــَــا وأفئدتــَـنا أئمةُ الفسادِ، وحيتانُ الجشع، وذئابُ الحُكم، وتعاونَ الفلول والعسكر والزبيبيون حتى ظننا أن الأرض الطيبة لا تلد إلا طغاة.
قمنا بثورة كانت حديث الدنيا، وحلقّت الملائكة فوق ميدان التحرير لثمانية عشرة يوماً، لكننا وضعنا ثقتنا اللامتناهية في أبناء أبطال العبور، وقمنا بسذاجة منقطعة النظير بتسليم الثورة جاهزة ومعلــَّـبة للساعد الأيمن لأعتى طغاة العصر.
الزعيم: لم يكن مسموحاً لي أنْ أتحرك من ثكنة عسكرية إلى أخرى إلا وآثار قدمي تلتقطها أجهزة استخبارات لا يدري المرء كنهها، فهي أحيانا خمسينية النجوم في العَلَم، وأحيانا سداسيتها في القلب، فالرقابة فوق رأسي عبرية الهوى، عربية اللسان، يانكية المنطق، يتغزل فيها من خلف الظهر مبارك والمشير ومرسي.
كان الجنرالات رؤسائي يضعون فوق أكتافهم البيضة والحجرة، فتلمع من بعيد ليحسبها من يراها وفقا لميوله، فالمشير يشهد في المحكمة كأنه يتغزل في مبارك، وفي القصر أمريكي الهوى، وفي الوساطات لإسرائيل شروط مهينة.
كنت أتألم مثلك أو أكثر، وأرى السحل والاغتصاب وقسوة جنودنا والطاعة العمياء للسلطة التنفيذية، ومع ذلك أتعجب منك ومن زملائهم وأنتم تهتفون للمشير بأن الشعب والجيش يد واحدة، ثم تهتفون بسقوط العسكر بدلا من سقوط الجنرالات في المجلس العسكري.
كنت ورهط من زملائي مترددين في الخروج خشية ابتعادكم من جراء نفور جماهيري يساوي بين جماجم الجنرالات وأحذية الضباط الصغار، فنحن من الكوخ والكبار من القصر. نحن نرقص طربا لامتيازات في قرض أو فيلا متواضعة أو مكان على الساحل الشمالي لشاليه صيفي، أما هم فتسقط أرباح الصفقات العسكرية في حساباتهم المصرفية فتزيد صفر اليمين أصفاراً أخرى تُدهش الآلة الحاسبة.
كنا نخاف أن تهرولوا بعيداً عنا وتلتصقوا بكبار الضباط وجنرالات الجيش، وكنا نخشى أن تنتهي حياتنا دون أن نقوم بأي دور ملموس من أجلكم، تماما حدث مرات عدة مع محاولات انقلاب ضد اللعين مبارك، وانتهت بدفنهم في رمال الصحراء.
المواطن: لكننا اخوة لكم نتألم، ونتعذب، ويفقأون عيوننا، ويقتلون زملاءنا، ويهينون كرامة آبائنا في كشوف العذرية لبناتهم، أعني لأخواتنا.
كنا نراكم صامتين والجيش الإسرائيلي يعبر الحدود، وطيرانه يطارد الفلسطينيين داخل الأراضي المصرية، ثم جاء عصر المزايدة الدينية فرفعوا المصاحف فوق البنادق، وقاموا بتهريب رؤوس الإرهاب من السجون، ثم منحوهم مقاعد كبار رجال الدولة في الاحتفالات، ثم تقدموا خطوات أخرى ببسط أسرار مصر وتاريخها ومخابراتها وعدوهم الأول، عبد الناصر، فلم يصدق شعبنا أن جيش مصر صامت كأن الجماعة المحظورة قطعت ألسنتكم.
الزعيم: لو كنت تعرف النظام العسكري لعلمت أن فيه أيضا قدرا من العبودية مع الطاعة الواجبة، فالصغير يحترم الكبير، والأصغر يركع للأكبر، والجنود يعبدون الجنرالات، والطبقية تلغي العقل بفضل تمام يا أفندم!
كنت وزملائي من الضباط الأحرار على مرمى حجر من الإعدام مثنى ورباع وسباع، فالهمس بيننا كان يثير الشك، ونظرات أعيننا تلفت انتباه قادتنا، والابتسامة النادرة في العسكرية يتم تفسيرها حسبما تقتضي ضرورة الإنقلاب ضد الإنقلاب قبل أن يتخمر في الذهن.
كنا نؤمن أنكم لا تعرفون الفارق بين كبار جنرالات الصفقات العسكرية وصغار ضباط الحلم المصري.
كنتم تخلطون بين المجلس العسكري المطيع للمشير، رجل المخلوع على أكتاف الجنرالات، وبيننا ونحن نمثل شباب الثورة الصامت في الثكنات.
إن تحريك دبابة من موقعها دون معرفة المشير طنطاوي ثم الفريق السيسي كان يعني عدة طلقات عمياء تصيب أصحاب حلم التغيير المصري.
المواطن: نعم، طالبنا بخروج العسكر بعدما سرق طنطاويكم ثورتنا رغم اشتراكه لأكثر من عقدين من الزمان في كل جرائم المخلوع.
كان طبيعيا أن لا نثق في العسكر، فتاريخ اليونيفورم في العالم بأسره مرتبط بالديكتاتوريات العسكرية، من البرازيل إلى اليونان، ومن إسبانيا إلى أثيوبيا، ومن الجزائر إلى تشيلي.
إن مشهد العسكر في الاعتداء على المصريات أمام أعين الدنيا كان مهانة لكل مصري، ثم جاءت القسوة الطائفية والتي من المفترض أن لا تعرف طريقها إلى الثكنة، فدفع أقباطنا في محيط ماسبيرو الثمن غاليا، وحلقت أرواحهم الطاهرة لتلحق بأرواح شباب ثورة يناير.
أنتم أيضا قمتم بالتعذيب والسلخ والاغتصاب كأن حبيب العادلي هرب من السجن وأصبح قائداً لكم.
قبل قيامك وزملائك الأحرار بالإنقلاب على عفن الاخوان وتواطؤ كبار العسكريين وسطوة الفلول كان الوضع في مصرنا الحبيبة حالة احتضار وطن، واسدال الستار على الحقبة المصرية.
كنا نأكل من صناديق القمامة، ونصلي لله بجوارها فتنبعث الروائح في كل مكان لتؤذي أطفالنا ، وكان مرسي يؤكد أن الدولة تدفع لشركات التنظيف خمسمئة مليون ولا تستطيع أن تنهي العقد كأنه زواج أبدي بين المصري وتلال القمامة.
الزعيم: لكنكم أيضا اشتركتم في اللعبة رغم نجاح ثورتكم، فانخرطتم في مسرحية صناديق الاقتراع، وتفرقتم أحزابا وجماعات كل حزب بما لديهم فرحون.
وتسرب الطمع إلى نفوسكم، وأصبحتم جزءاً من اللعبة السياسية والدينية، وتسلقتم على ظهور ثلاثة عشر مرشحاً للرئاسة فدنسوا ثورتكم الطاهرة.
لم ينزع المشير الثورة منكم، لكنكم أعطيتموها إياه وعليها قبلة بعدما ظننتم أنها لجيش مصر فإذا هي لتسعة عشر جنرالا كانوا في خدمة المخلوع وظلوا على الوفاء بعهده الأغبر.
المواطن: الآن أنت الزعيم الجديد، والشاب الذي انتظرناه طويلا، وسيلتف حولك الوصوليون والمتزلفون والمنافقون وسحالي كل العهود الذين يتلونون في كل عصر، ويتزينون لكل عهد، ويركعون لكل زعيم.
أنت الزعيم الجديد الذي أنهى في انقلاب عسكري سهل ثلاثة طغاة في وقت واحد، واختفى الاخوان من المشهد، وعاد الزبيبيون إلى جحورهم، وتنفس المصريون حرية ومساواة، لكن التاريخ يقسم لنا بأغلظ الإيمانات أن البساط الأحمر في القصر يغير صاحب اليونيفورم بمجرد أن يغرز حذاءه الثقيل فيه، وأن الحرية والعسكري لا يلتقيان، وأن الدبابة تعادي الثقافة، وأن عقل الجنرال لا يستطيع أن يجيب على تساؤلات منطقية دون أن يشهر سلاحه في وجه مناهضيه.
الزعيم: لماذا لا تعطيني الفرصة؟ لقد جازفت بحياتي وحياة زملائي الضباط الأحرار، وكنتم أنتم على حافة منحدر الهاوية أمامه، والعدو الوطني خلفه. مبارك والمشير والمرشد ومرسي كادوا يصرخون تأكيداً وتوثيقا وغضبا من عدم تصديقكم أنهم أعداء الشعب المصري.
فشلت جبهة الإنقاذ حتى في الوقوف أمام الكاميرات، وانعكست أطماع أعضائها على وجوههم ، وتصارعوا وهم يحتضنون بعضهم البعض، ومزقوا الوطن وهم يتغزلون فيه، ومدّوا في روح الجماعة المحظورة والمجلس العسكري والقضاء الفاسد.
كان طبيعيا أن تفشل جبهة الإنقاذ فهي تجمع الفلولي مع المنافق وتلصق بهما الاخواني المعتزل، صوريا، والناصري المزيف، والليبرالي المغرور الذي كان يتوهم أن التوقيعات كانت قادرة على ازاحة مبارك واستبدال ابنه به.
نعم، أنا صاحب الانقلاب العسكري بصغار الضباط، وهم من أهلكم، ويعرفون فساد الجنرالات أكثر منكم، ويملكون السلاح والقوة والعزيمة ومحبة الشعب.
التفّوا حولي، إذا أردتم التخلص من آثار القدم الهمجية لمبارك والمشير ومرسي، وأنا أملك رؤية مستنيرة وحكيمة ووطنية وقمة في عبقرية الإدارة وإيمانا بالحرية ويقينا بأهمية المساواة المواطنية حيث لا يعرف أحد المسلم من القبطي.
أتفهم تماما مشاعر الخوف التي تنتابكم، لكنني أقسم لكم بأنني الزعيم الذي انتظرتموه طويلا، فقد آن الوقت الذي يعيش فيه المصريون حياة طبيعية كمعظم شعوب الأرض.
المواطن: دعني أنتظر، ووجه البحر يُعرَف من بعيد .إذا يسجو، فكيف إذا يموج! ولن تستطيع خداعي إذا سلكت طريق الشياطين الثلاثة، مبارك والمشير ومرسي، فتجاربي لو مر بها جماد لتعلم كيفية تجنب لعبة السياسة القذرة.
من الآن فصاعدا، أنا المواطن وأنا الزعيم، وأنت خادمي!
هنا ابتسم الزعيم الجديد ابتسامة جميلة، مشرقة، واثقاً بأن مصر أخيرا تحررت من جحيم عصور ثلاثة كان كل منها أشد سعيراً من العصرين الآخرين.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 21 مايو 2013
حوارات أخرى للكاتب
حوار بين جاهل و .. مثقف!
حوار بين وافد و .. كفيل
حوار بين عزرائيل و .. الرئيس حسني مبارك
حوار بين زعيمين عربيين في غرفة مغلقة
حوار بين الشيطان و .. ضيوف الرحمن
حوار بين حُرٍّ سجين و .. سجينٍ حر
حوار بين حمار و .. زعيم عربي
حوار بين مواطن مصري و .. ضابط شرطة!
حوار بين مستشار مصري و .. ابنه!
حوار بين منقبتين في أحد الأسواق الشعبية!
حوار بين كلب الشارع و .. كلب السلطة!
حوار بن الرئيس حسني مبارك و .. الرئيس جمال مبارك!
حوار بين جواز سفر عربي و .. جواز سفر أوروبي!
حوار بين سلفي و .. قبطي!
حوار بين السيدة سوزان والشيخة موزة!
حوار بين الرئيس جمال مبارك و .. الرئيس بشار الأسد
حوار بين حمار و .. رئيس لجنة الانتخابات!
حوار بين مبعوث الحكومة و .. صدام حسين في قبره!
حوار بين رئيس يحتضر و .. رئيس يرث!
حوار بين علماني و .. سلفي!
حوار بين زنزانتين في سجن عربي!
حوار بين إبليس و .. الرئيس حسني مبارك!
حوار بين مواطن خليجي و .. إعلامي عربي!
حوار بين قملتين في شعر رأس صدام حسين!
حوار بين المشير و .. المخلوع!
حوار بين المشير و ..السفيرة الأمريكية!
حوار بين الرئيس مرسي و .. مواطن مصري!
التعليقات (0)