كانت السوق مزدحمةً لا ترى فيها إلا من نساء وفتيات منقبات، وبعضهن يمسكن في أيديهن أطفالا صغاراً، إنْ أفلتْ طفلٌ من يد أمه ثم بحث عنها فقد تمتد لحظاتُ الرعب والخوف وقتا طويلا حتى تسمع أمُّه صراخَه.
خرجت إحداهن مسرعة من أحد محلات بيع الذهب والبائع المسكين ينادي بأعلى صوته، لكنها اختفت في الزحام، ولا يعرف البائع إنْ أبلغ الشرطةَ أكثر من وصف دقيق لنبرات صوتها، ثم وصف أدق لكُحل عينيها!
بعد دقائق اصطدمتْ في الزحام بمنقبة أخرى يبدو أنها سيدة، فاعتذرت السيدةُ بأدب جَمّ، ثم دار بينهما الحوار التالي:
المنقبة الأولى السيدة : الزحام شديد هذا اليوم، وحرارة الشمس تخترق ملابسَنا السوداء القاتمة فتلهب الجسد، ويتصبب العرق كأن المطر يهطل في قيظ الصيف الحارق.
المنقبة الثانيةالفتاة:الحمد لله على نعمته في كل الأحوال. هل تقيمين بالقرب من هذا السوق؟
الأولى: لا، ولكن السائق الهندي ينتظرني في الجانب الأيمن من الساحة الكبيرة، وهو كما تعلمين لن يتعرف عليّ وسط هذا الحشد من النساء المنقبات، والبعض ترتدي الخمار فلا يميزها عن الأخريات خبيرٌ في الرائحة ونوعية الأقمشة وطريقة مشيتها.
الثانية: آه، كم هو رائع هذا النقاب والخمار، فغباء الرجال الذكور في مزايدة حراسة العفة قد أتاحت لنا ما لم يتحه سفورُ الوجه ولو في أكثر المجتمعات تحررا!
إنني أستطيع أن أسرق، ثم انطلق هاربةً دون أن تستطيع أي جهة التعرف علي بعدما يتيه جسدي المغطى سوادا مع أجساد الآخريات.
الأولى: أختلف معك، أختي الكريمة، فأنا أرتدي النقاب نزولا على رغبة زوجي، ومن تطع زوجها فقد أطاعت الله!
الثانية: أما أنا فأرتديه لأنه يمنحني الحرية في أن أفعل ما أشاء، بل يظن الرجال أن نقابي هو حزام عفة.
الأولى: أما أنا فعفيفة في أخلاقي، ولا أسرق، ولا أرتكب المحرمات، لكنني أقوم بتأدية دوري في المجتمع كحالة سلبية انسحبت منه، لا يراني أحدٌ، تماما كالتي تنظر من نافذة بيتها على المارة فلا تشارك الآخرين خشية أن ينظر أحدهم إلى وجهي فيفتنه في دينه!
الثانية: أنت طيبة، ومسلمة ساذجة تطيع ذكور قومها كما يطيع الرعاعُ سوّطَ الجلادِ، وأوامرَ الزعيمِ، ورغبات ربّ البيت مهما كانت مخالفتها لكتاب الله العزيز!
هل تصافحين ابن عمك إن التقيتما مصادفة في الطريق، أو اضطرتك ظروف لطلب مساعدة؟
ضحكت الأولى فبدا بريق عينيها يوشي بضحكة بريئة جميلة لم يرها من ذكور القوم من قبلُ إلا أفرادُ أسرتها وزوجها، ثم قالت وكأنها تتهكم على نفسها:إنَّ ابن عمي لم ير وجهي منذ أن كنا طفلين يلعبان في فناء بيتنا القديم. لقد عاد من أمريكا بعدما قضى عدة سنوات، وفي اليوم الثالث لوصوله تعرض لحادث سيارة أليم فتم نقله إلى المستشفى وهو في حالة خطرة، وقمت بزيارته مع والدته، لكن لم ير وجهي!
الثانية:ولكنه ابن عمك، وعلى فراش الموت تقريبا، فكيف يستقيم حوار بينكما وهو لا يعرفك، وحتى صوتك تغير منذ طفولتك؟
الأولى: إن ذكور قومنا الفقهاء والعلماء يقولون بأن كشف الوجه حرام، وأن الله تعالى، مالك المُلك، سيغضب مني لو شاهد ابن عمي وجهي!
الثانية: وهل صحيح أنك تصدقين هذا الهراء وتلك الخرافات والخزعبلات؟ هل الله الذي خلقنا شعوبا وقبائل لنتعرف سيصبّ غضبه على من يلبي نداءه؟
الأولى: إن ذكور قومنا يقولون بأن الوجه عورة وفتنة، وأنا جميلة رغم مرور عدة سنوات على زواجي، ولو رأى ابنُ عمي وجهي فسيثار جنسيا ولو كان كل جسده حطاما عاجزا عن الحركة!
الثانية: الحقيقة أن هذا المرض الذي يظنه ذكور قومنا حراسة للعفة والفضيلة قد جعلني أفعل ما أشاء وقتما أريد.
أول أمس ذهبت مع صديق أخي الأكبر إلى بيته، ولم يكن هناك أحد في البيت. ومررنا أمام سكان الحي من رجال ملتحين يحرسون الفضيلة في يقظتهم ومنامهم. قاموا بالقاء التحية عليه، ولعلهم ظنوا أنني شقيقته الصغرى.
قضينا وقتا ممتعا وكان الشيطان ثالثنا ورابعنا وعاشرنا.
الأولى: إنك داهية في صورة فتاة. وفتنة داخل أقمشة سوداء. ولا أريد أن اذكر الوصف الأدق خشية غضبك، فهو لا يليق بك!
الثانية:إنني لم أفعل أكثر من الاستجابة لدعوة الفقهاء والعلماء والسلطة والحمقى والبلهاء والساذجين والمزايدين والصامتين والجاهلين بأن نتدثر، ونختبيء، ونتخفى، بالنفاق، ونغض الطرفَ عن جرائم لا حصر لها ما دامت تحدُثّ بعيداً عن الأعين.
سأُمرر لأذنيك سراً احتفظت به طويلا وهو عن صديقة عزيزة إلىَ قلبي، لكنها لعوبٌ تستطيع أن تفتن الشيطان نفسه لو تجسد في صورة رجل.
لقد قضتْ صديقتي ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في أحضان شاب، وفي منزل الأسرة الكريمة الفاضلة. كانت لديها غرفة في الطابق الثاني، وأقنعت والدها بأن صديقتها تحتاج إليها للخروج من مشاكل عائلية خاصة، لكنها فاضلة ولا تتحدث مع الرجال، وتؤمن أن صوت المرأة عورة.
إننا، سيدتي الفاضلة، منافقون حتى النخاع، وساذجون حتى الحماقة، وبلهاء إلى أعلى درجات العته.
إن حُرّاس الفضيلة الذين يؤكدون لنا في كل ساعة من ساعات الليل والنهار أن المرأة من ضلع أعوج، وأنها شيطان في البيت، وأنها أكثر أهل النار، وأن كل ما فيها عورة هم الذين يحرسون آثامنا وذنوبنا، ويقفون على أبواب الرذيلة ريثما ننتهي من ممارستها.
الأولى: أما أنا فتقوى الله في قلبي، ولا أخون زوجي ولو في خيالي لبضع ثوان، وأحرص على بيتي حرصي على إيماني، لكنني، كما ذكرت لك، اخترت طريق الطاعة العمياء، وانسحبتُ تماما من دوري كالنصف الآخر من المجتمع واختبأت داخل هذه القطعة من القماش السوداء، تتحرك كما يُراد لها خشية أن يكون ذكور القوم على حق فيتقلب وجهي على جمرات السعير يوم لا ينفع مال ولا بنون.
الثانية: كلنا ضحايا هذا الفهم السقيم والهوس الجنسي الذي أصاب ذكور قومنا.
الأولى: أتفق معك تماما، فطالما تمنيت أن أمارس حقي في الحياة الحُرة الطبيعية، وتَبْينُ مشاعري على وجهي، ويرى الآخرون غضبي، وحلمي، واحمرارةَ الخجل، واصفرارةَ المرض، ومشاعرَ الكراهية، واشاراتِ المحبةِ، وايماءاتِ الموافقة، وتعبيرات الاحتقار.
إنه ليس حقي بمفردي أنْ أخفي وجهي أو أبديه، لكنه حق للآخرين أن يتعرفوا على من يتحدث معهم، وأن يستخلصوا قناعاتهم من الوجه المكمل للحديث، في البيع والشراء والمدرسة والمستشفى والشارع والسوق والأهم علاقات العائلة الكبيرة لتستقيم الحياة بعيدا عن مرض الشك والوسوسة.
إنَّ عفتي كانت ستستمر لو كنتُ كاشفةً لوجهي، أما أنتِ فربما كان هناك من سيلجمك عن الخطيئة لو كنتِ سافرةَ الوجه.
الثانية: أحيانا يذهب بي الشك مبلغ اليقين في أن الرجل قد جاهد طويلا في اقناع المرأة باخفاء وجهها ليخفي هو آثامه وموبقاته.
منذ فترة قصيرة لمحتُ أحدَهم وهو يسير بجانب فتاتين ترتديان الخمار، وعلى مقربة منه كان هناك رجل يسير خلفهما، وعرفتُ على الفور أنه صديقه. كنت أعلم أن زوجة الرجل سافرت قبل ذلك بأسبوع إلى بلد أهلها لأسباب عائلية . لم أكن بحاجة لإعمال الفكر أكثر من دقيقتين لمعرفة السيناريو القادم لرجلين وفتاتين.
إن تغطية وجه المرأة يتعارض مع روح الإسلام، ويتناقض مع تعاليمه السمحاء، ويصطدم بالفهم السامي والرائع والحقيقي والصحي والعقلاني لصورة التقوى والإيمان بأن الله تعالى أكبر وأعظم وأسمى من أن يخلق الذكر والأنثى ، ويجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف ثم يفرض علينا عدم التعارف.
الأولى: غريب أمرك فأنا أرى فيك فتاة متقلبة بين الإيمان الشديد و .. والمعصية الوقحة.
إنني لا أختلف معك في أن العلي القدير جمع معجزات الجسد في الوجه، ولو خانتك الكلمةُ فإنَّ الوجهَ قادرٌ على تكملة ما عجز عنه اللسان. أمام المحامي والقاضي ورجل الأمن وزميلك في الدراسة وفي العمل. ومع البائع الغشّاش ومع السائق المحروم جنسيا الذي لا يعرف صرامَتَك وعفََتك إلاّ مِن الوجه.
أتفق معك أن إخفاءَ الوجه يكاد يرقى للمعصية بسبب طاعتنا لفكر الهوس الجنسي الذي يأخذ بألباب ذكور قومنا، وتتملكني الرغبة في أحايين كثيرة أن أنزعه عن وجهي ليرى الآخرُ ما عجزتُ عن شرحه.
أول أمس كادت نظرات رجل تخترق كل خيوط قماش خماري، وكدت أشاهد خيالَه المريضَ يتحرك كما يتحرك الشيطان. تمنيّتُ أنْ أنزع الخمارَ ليرى نظرات الاحتقار والازدراءِ في وجهي. فأنا امرأةٌ متزوجةٌ وعفيفةٌ وأخشى اللهَّ في سرّي وجهري.
الثانية: وهل أنا راضية عما أقوم به؟ لقد اصطدمتُ بك منذ لحظات وكنتُ هاربةً من محل بيع ذهب بعدما سرقتُ قطعةً ثمينة، وهرّولت مُسرعةً حيث يتزاحم السوادُ مع السوادِ في مشهد مأتمي كأنَّ المرأةَ ليست ابنةَ حواء، إنما هي الابنة المدللةُ للشيطان الرجيم.
إنني أشعر بمتعةٍ لا شبيه لها وأنا أختلس الخطيئةَ من حُراس الفضيلة.
لو لم أكن محبةً وعاشقةً لبلدي ووطني وأهلي لما رفضتُ بحزم وصرامة طلباً بنقل حقيبة من مكان إلى لآخر، وكنت أعرف أنها تمهيد لعمل ارهابي.
أنا لست بهذه الصورة الإبليسية التي تظنين أنها تختفي تحت هذا الخمار.
عندما يرتكب المرءُ جريمةً فإن أول ما تبحث عنه أجهزةُ الأمن لو كان أفرادها يعرفون ألف باء السياسة الأمنية هو وصفٌ لمرتكِبِ الجريمة، ورفع البصمات التي خلقها الله منذ البدء بحيث لا تتشابه بصمتان لشخصين على وجه الأرض.
معجزتان تكفي الواحدة منهما أن نؤمن بأن لهذا الكون البديع خالقا عظيما سيأتيه كل من في السماوات والأرض طوعا أو كرها.
الوجه والكفان، إنْ أخفيناهما فقد أهلنا الترابَ على أعظم معجزتين في الخَلْق.
المجتمعُ الأحمق الذي تسانده سُلطة ساذجة ويمهر توقيعَ مرورِ الحماقةِ فيه تبريرٌ أبْلَهٌ مِن رجال يدّعون فهمَ الدين والدنيا هو الذي فتح ذراعيه ليحتضن الإرهابَ والرذيلة.
إنني أتمنى مثلك أنْ أخرج للناس، وأتحدث معهم، ويروّن وجهي، وأكشف مشاعري، ويحترمني الرجل لكوني انسانة لا تختلف عنه، لا أنْ يأتي مِنْ كُتب الأقدمين بأدلةٍ مِن عنده يدّعي فيها أن كشفَ وجهي يغضب الله.
الأولى: هذا يعني أن تنتقمين من الرجال، أم هناك أسباب أخرى خلف تصرفاتك الطائشة؟
الثانية: إنني أريد أن أثبت للرجل بأن مَنْ يخشاه هو رجل مثله، وقد يكون شقيقَه أو أباه أو عمَّه أو صديقَه الحميم.
إنَّ في نفسي غضباً شديداً من تلك الازدواجيةِ التي يعيشها ذكورُ قومنا، فأكثرهم يفكرون بالنصف الأسفل من الرجل والمرأة على حد سواء.
كانت مصادفة بحتة عندما نزعتُ النقاب لأقل من دقيقتين في ميدان عام، وكنت أشعر بالتهاب في وجهي من جرّاء احتكاك قطعة القماش به مع حرارة الصيف. أخرجتُ المرآةَ أنظر فيها، فإذا برجل من حراس الفضيلة ينهرني أمام الناس وكأنني أرتكب الزنا فوق الرصيف.
المفاجأة لم تكن هنا، ولكن بعد أقل من نصف ساعة شاهدتُ نفسَ الرجل يتحرش بالنساء في مكان مزدحم!
إنَّ فضيلةَ المرأة تبدأ من فضيلةِ الرجل، ورجالُنا عبيدٌ لأسيادهم، والرجل هو الذي يُرهب الآخرين، ويتاجر في السلاح، وهو صاحب المواخير والبارات وبيوت الدعارة، وهو الذي حَمَلَ لنا مرضَ الإيدز في سفرياته المشبوهة.
والرجل يتملق السُلطةَ، ويغتصب النساءَ، وينتهك حرمات الرجال في السجون والمعتقلات، ويحفر مقابر جماعية باسم الزعيم لأبناء بلده، ويقوم بتزييف التاريخ وتزوير أوراق الوطن، ويُجبرنا على فهمه السقيم لاسلامنا الرائع والحنيف.
والرجل يُهين المرأةَ ويضربها ثم يحلم في صلاته بالحور العين اللائي تعود لكل منهن عذريتها بعد الجماع.
والرجل مريض بالمرأة يمارس معها سُلطة فَقَدَها في العمل بين يدي رئيسه، وفي قسم الشرطة تحت سوط ضابط الأمن، وأمام الفقهاء والعلماء وهم يشرحون له كيفية معاملة المرأة في الفراش والمضاجعة والحيض والنشوز، لكنهم لا يعلّمونه آدابَ السلوك، ورفضَ العبودية وقبل ذلك الحفاظَ على كرامتِه كمواطن حُرّ ومستقل.
الأولى: ألمس فيك غضباً عارماً يزلزل كياناً صغيراً وضعيفاً. إنك، أختي الصغيرة، في حاجة ماسةٍ لرجل يحميك، وصدر ترتمي فيه، وأسرة تصنعها نطفة ذكر فتصبحين أمَّ العيال.
الثانية: إنني أبحث عن كياني كمسلمة لا تحدد لها مفاهيمُ الرجل كل حركة وايماءة واشارة، أو يعتبرني عاصية ومنحلة لأنني أطعت اللهَ فكشفتُ وجهي.
الأولى: لا يذهبن الظنُ بك إلى أنني في الجانب المعارض لمأساتك والتي تعاني منها ملايين من المُسلمات، فأنا أحلم أيضا بالحرية الملتزمة، والمشاركة العفيفة والوقورة، وأنْ اختلط مع كل أفراد العائلات التي نعرفها، وأن أصافح صديق ابني وأحترمه ويحترمني.
إنني مقتنعة بأن الله، تعالى، غاضب على رجال هذه الأمة الذين استخرجوا من دينه العظيم ورسالة الاسلام السمحاء صغائر وتفاهات أُنَزّه إسلامَنا الحنيفَ أن تكون منه.
الرجلُ الذئبُ يرى في كل رجل آخر ذئباً ينافسه على فريسة، لكنه لا يرى نفسه واحدا من هؤلاء الرجال الذين يفترسون المرأةَ في خيالاتهم.
المشكلة أن الرجلَ احتكر تفسيرَ الدين كما احتكر السلطةَ والحروب والاغتصاب وتجارة المخدرات وبناء السجون والمعتقلات وبيوت البغاء ودَعْمَ الزعماء الطغاة ومساندة المستبدين.
إنني مقتنعة في داخلي أن تغطية الوجه معصيّة للخالق، وأن الحياة لا تستقيم إلا بالتعارف، لكننا أمام حماقة الرجل ونقصان عقله لا نستطيع أن نعترض، فسيقوم بالتكفير، وسيفهم شيئاً آخر، وسيدّعي كَذِبَاً وبُهتاناً أننا نطالب بالحريةِ الغربية، وبالانحلال، وبكشف الوجه حتى يسهل الصيد.
ألم أقل لك من قبلُ بأنَّ الرجال ناقصو عقل ودين؟
صديقة لي منعها زوجها منعاً باتا من قيادة السيارة لاصطحاب أولادهما من وإلى المدرسة.
كانت تريد حمايتهم، أما هو فيريد حماية نفسه ظنا منه أنها سترتمي في أحضان أول رجل فور كشفها الوجه أو قيادتها السيارة.
والرجل كعادته لا يشك في المرأة قبل أن يشك في نفسه، ولا يرى في كل الرجال الآخرين مخالب قبل أن يتحسس مخالبه بنفسه.
والرجل غبي إنْ تعلق الأمرُ بحماية أولاده لأن الذئبَ الذي يتربص بهم رجلٌ مثله، ويعرف تكتيكَ الانتهاك والاغتصاب والتحرش.
الكارثة أنه بعد ثلاث سنوات اكتشف الأبُ والأم بأن السائقَ الأعزبَ والمحرومَ جنسياً كان يتحرش بأطفالهما لدقائق معدودات لدى الصعود إلى السيارة والخروج منها. وأحيانا يدّعي أنه يربط الحزامَ، فيتحسس أجسادَهم البريئةَ.ومع ذلك فملايين من ذكور الأمة يغضون الطرفَ عن الجريمة التي تحدث يوميا، ولا يتقون اللهَ في أولادهم الضعفاء.
ألم أقل لك بأنَّ الرجلَ غبيٌ؟
الثانية: أنت سيدة فاضلة تحافظين على زوجك وعِرْضِك وشرفك ودينك ولا تعرفين الرجل أكثر مني رغم صِغَرِ سنّي .
إنني أراهم في كل مكان، وأدخل معهم الغرف المغلقة، وأرفع رأسي عالية بعد تغطية وجهي ونحن متجهان لارتكاب ما لم يدر بذهن كل الذين ينظرون إلينا، فيروّن امرأة أو فتاة أو حتى رجلا متخفيا في ثوب أسود.
أنني جزء من مجتمع أحمق، ومنافق، ينشغل رجالُه بمنع الخلوة، لكنهم يصنعون طُرقا أكثر سلاسة وسهولة لارتكاب المحرمات.
صديقة لي جميلة لو شاهدها باحثون عن زوجة لتصارعوا عليها، ولأختارت من بينهم الأصلح والأفضل والأقرب إليها.
اقتربت من عامها الثلاثين ولم تتزوج بعد، فهي واحدة من ملايين العوانس في عالمنا العربي المنافق.
بكت لي بحرقة أبكتني بدوري وهي تحكي قصة مَنْ تقدموا إليها وفقا لأوصاف نساء أخريات أو بعض من يعرفها.
كانت النتيجة رفضا منها لهؤلاء الذين أراد كل منهم الزواج بفتاة لم يرها قط، ولم ينبض قلبه، أو تتحرك مشاعره العفيفة، أو يمتلك حرية الاختيار بنفس القدر مع حريتها.
إنها تعيش في عالم الحريم، وتمر السنوات، ويبهت الجمال ، وتنتظر مجهولا يطرق باب بيتها ليشتري تلك البضاعة التي اقترب تاريخ انتهاء صلاحيتها حسبما يرى مجتمعنا.
الأولى: ولكن هناك فتيات عانسات وسافرات الوجه في مجتمعات مختلطة، أليس كذلك؟
الثانية: في هذه الحالة تكون هناك ظروف أخرى، ويمكننا الحديث عن أن الزواج قسمة ونصيب ، وأن الله سيؤتي من فضله العفيفات.
أما ما أتحدث عنه فهو صورة من صور الرق، فيخفي الرجل بضاعته والتي غالبا لا ترى شاريها إلا يوم المزاد، أعني عندما يطرق بابها.
الاسلام خاتمة الديانات السماوية، وينبغي أن يتصالح المسلمون مع العصر فهم يملكون كلمات الله العزيز الوهاب الصالحة لكل مكان وزمان.
هل تعرفين لماذا طلب الاسلامُ اشهارَ الزواج؟
حتى يعرف الناس بعضهم بعضا، ويقطع الطريقَ على الرذيلة، ويعرف الجيران وزملاء العمل وكل من قابلهما أن هذه زوجته!
الأولى: أرى فيك حكمة الخبيرات، وإيمانا قويا خلف معصية وقحة، ورغبة في التوبة تكشف عنها مفاهيم مستنيرة لفتاة تنتقم للأسف الشديد من كل شيء حولها. أما أنا فأبحث عن السلام داخل بيتي، وأطيع زوجي ما أمرني، وأكتفي بدوري في المجتمع متحركة داخل هذا الثوب الأسود، أشم رائحة قماشه، واستنشق خيوطه، ولا تتسلل أشعة شمس تمنح بشرتي صحة وعافية وجمالا طبيعيا.
إنني لا أملك القوة للتصادم مع الرجل فهو يستطيع أن يأتي لي بأقوال رجال مثله عاشوا في زمن مضت عليه مئات الاعوام، ثم يجعلهم حَكَماً بيني وبينه.
إنني أرفض التصادمَ معه، فهو يملك الحق في الضرب، وأن يهجرني، وأن يحتفظ بالأولاد لأنني ناشز، وأن يستعين بالسلطة والأمن وحُراس الفضيلة والقضاء وكلهم سيقفون معه لاصلاح هذا الضلع الأعوج.
إنني رهن اشارته، لكنه يعلن للملأ أنني مُتَوّجة مَلِكِة في البيت.
كم أنا مشتاقة لطاعة الله عز وجل في التعرف على البشر الذين خلقهم، واكتساب المعرفة، وأن يقوم الرجال الآخرون بتوجيه الحديث مباشرة لي دون وسيط، وأن أتحكم في أقوالي وأفعالي، وأعرف الفارق بين الحملان والذئاب دون مساعدة من رجل آخر.
إنني لست بحاجة لاخفاء وجهي لأثْبِت إيماني للآخرين، فتقوى الله في قلبي، والشيطان الذي يتغلب علىَ الرجل بهمسة غير مسموعة سيجد أمامه امرأةً أقوى من الرجال، وأشرف من كثير من حراس الفضيلة.
الثانية: أما أنا فقد تحالفت مع الشيطان لبعض الوقت. قد يطول أو يقصر. إنني مطيعة أيضا لغباء الرجل والسلطة، فأرتدي قُفّازاً عندما أسرق، ولا يعثر خبراء رفع البصمات على أيّ أثرٍ لي.
وأخفي وجهي عندما أرتكب المُحَرّمات، وكلها مع رجال، وهم كثيرون، بل أخشى أنْ أقول بأنَّ أكثرهم حراسٌ للفضيلة في الشارع والبيت والعمل.
إذا كان كلُّ الرجالِ يخشون كلَّ الرجال ويعتقدون أنهم يتربصون بنسائهم وبناتهم، فماذا بقي لنا من قِيَمِ الخيّر والمحبة والتسامح والايمان؟
لقد رأيتُ بنفسي فتيات يمارسن كلَّ صور الرذيلة، لكنهن يتمتعن في المجتمع باحترام شديد لأن الرجل الغبي يظن أنَّ اخفاءَ الوجه هو الضربة القاصمة والقاضية لوسوسة الشيطان، وكل الاغراءات التي يقدمها إبليس.
فجأة قطع عليهما الحديثَ بكاءُ طفلٍ صغيرٍ يبدو أنه فَقَدَ أمَّه في زحام السوق. كان ينظر بعينين مذعورَتيّن باحثاً عن تلك التي تُعطيه الحبَّ والحنان وقد كانت منذ لحظات تمسك بيَدٍ دافئة يَدَه الصغيرةَ الغضّة فتسري في نفسه البريئة كل مشاعر وأحاسيس الأمان كأن الحبل السُرّيَ لم ينقطع منذ سقوطه من بطنها.
يرتفع بكاءُ الطفل وعيناه تبحثان في نساء وفتيات متشحات بالسواد ويغطين وجوهَهن في مشهد عجيب كأنهن في سرادق عزاء يودّعن الحياةَ بعدما انسحبن منها زمناً طويلا.
بعد لحظات يختفي الطفلُ، وتخفتْ رويّدا .. رويدا صرخاته، ولعل حيرتَه تظل قائمةً عن السبب الذي دفع بكل هؤلاء النسوة إلى لعب دور الأشباح المتنكرة والمتشابهة، ولو كان بينها رجل أو أكثر للتحرش جنسياً لما اكتشفنه إلا بصعوبة بالغة.
الأولى: أشعر أنَّ غضَّ السلطات الطرفَ عن النقاب والخمار هو دعوةٌ صريحة لقوى الارهاب أنْ تتخفى في صورة امرأة. لقد حدثتْ بالفعل عشراتُ الحوادث الارهابية في عالمنا العربي، ولكن من الواضح أن هناك تكاملا بين غباء السلطة وغباء الرجل بعدما عثر رجالُ الدين على تبريرات وأدلة سطحية فجعلوها قاطعةً لتصبح الدعوةُ للارهاب واخفاءِ الرذيلةِ مقدسةً.
إنني أتذكر حتى الآن مقالا مُطَوّلا، ثم ردودا على المحاوريّن من الدكتور محمد شوقي الفنجري صحيفة القبس الكويتية في 17 أكتوبر 1986 يُثبت فيه بالأدلةِ والبراهين الاسلامية غير القابلة لتأويلات أخرى أن في النقاب كراهية شديدة، وكانت المرأة تصلي خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، كاشفةً وجهها، ولم ينزل الوحي بأيّ أمر لها أن تُغَطّيه رغم وجود رجال يستقدمون ويستأخرون في الصلاة للاقتراب من المرأة أو الابتعاد عنها.
الثانية: تنتابني مشاعر المهانة الشديدة عندما أُغَطّي وجهي وأغطي معه هويتي وشخصيتي وانسانيتي لمجرد أن الرجل لا يريد أن يَطّلِع آخرون على مِلْكِيته الخاصة.
هل تُصَدّقين أنَّ بعضَ المنقبات اللائي يتسلمن شهادات التخرج في حفل عام من زعيم الدولة يرفضن مصافحَته؟ لماذا يخرجن من بيوتهن، ويذهبن لحفل التخرج، ويتشرفن بتسلم الشهادات؟. حتى ابتسامة الفرح، أو ضحكات السعادة الغامرة تم منعهن من ابدائها خشية أن يفتتن الرجال، وتسري حالة رعشة جنسية بين كل ذكور الحفل ، وتهتز السماوات والأرض ومن فيهن من هَوّل الجريمة!
الأولى: تُحَيّرني كثيرا معضلةُ الرجل الذي يسمع الآذان خمس مرات في اليوم، ويقوم لله فجرا وصبحا ومساء، ويقرأ ويسمع آيات بيّنات، ويتعلم الخيرَ وكبحَ جماحِ نفسه وشهواتها، وتمنعه عاداتٌ وتقاليد وتربية وأصول اجتماعية وتهذّبه سنوات الخبرة والخشية من الله ومن الضمير، ومع ذلك فهو يظن أن أسفله مرتبط بأعلاه، وأن شهواته الجنسية في خياله، وأن عينيه لا تبحثان في المرأة عن المشاركة الانسانية، إنما يقفز إلى ذهنه الفراش كلما تخيل رجلا شاهد وجه امرأة.
نحن ضحايا مرض الرجل وضعفه وعدم ثقته في الآخرين، وأحيانا نصبح ضحايا رغبة الرجل الجامحة أن يخفي جرائمه وذنوبه وشهواته، فيخفي وجوهنا لئلا ينكشف هو أمام المجتمع.
الرجلُ في كثير من الأحيان يطلب تغطية وجه المرأة ليختفي هو، لا ليُخفيها.
إنه يغمض العيّنَ عما في تغطية وجه المرأة من آثار ضارة على الأسرة والعائلات وقيمة الشرف وكرامة المرأة.
عندما يفسر الرجلُ أحاديثَ الأقدمين، ويقرأ لمن تحللت عظامهم منذ ألف عام أو يزيد يتعمد ازاحةَ العقلِ جانباً، ويركع لرجال لم يرَهُمْ كما يفعل مع سيّد القصر في بلده.
ألا تتعجبين عندما تتابعين معارك الرجال وهي مُسْتَمِرّة منذ مئات الأعوام بسبب حوادث انتهت، أو حوارات وخلافات سياسية وقَبَلّية وتفسيرات مضت عليها قرون؟
ألا تضربين كفّاً بكفٍّ وتتحسرين على نخوة الرجال وشهامتهم وعقولهم وهم يمارسون القتل والذبح والطائفية، وندفع نحن النساء الضعيفات ثمن تهور الرجل وحماقة تفسيراته وعبادته لنصوص الأقدمين؟
الثانية: لو لم تكن هناك نصوص قاطعة ومقدسة لظننت أنَّ الأصلَ في الخَلْق هي حوّاء، وأنَّ اللهَ خَلَقَ الرجلَ من ضِلع أعوج في أُمِّنا الأولى!
إنني غاضبةٌ أكثر منك على هذه التفسيرات الذكورية لعالم الأنثى، وأرفض تماما الانكباب على قراءة فتاوى المرأة التي تكتظ بها كتب قديمة وحديثة وصحف ومجلات وفضائيات كأن الرجل انتهى من صراعه مع السلطة، وبسط هيمنة الخير، ونزع الظلم عن المعتقلين والمسجونين، وأصدر تشريعات تُحَرّم اغتصابَ المرأة، والتحرش بالطفل.
الرجل يمنح قفاه لكل ممثلي السلطة، وعندما يعود إلى البيت يبحث عن تفويضٍ من السماء لفرض سطوته على نصفه الآخر.
الأولى: شاهدت فيديو كليب لرجال يرجمون امرأة زانية قَطّعاً مع أحدهم ، ويا ليتني لم أشاهده.
كانت القسوة فيه واضحةً وكأن الرجال يلقمون ضمائرهم ومشاعرهم البليدة، أو كأنهم يسارعون في اخفاء جرائمهم في جسد تلك المرأة التي تتلوى وتصرخ مع كل قطعة حجر مدببة تصيبها.
الثانية: بل إن الرجم بالكلمات والنظرات والأوامر والنواهي أشد غلظة وحِدّةً وقسوة مِنْ تلك التي تصفينها لي.
إننا نحن النساء أمام مسؤولية عظمى ملقاة على عاتقنا لتحرير الرجل من هوسه الجنسي، ومن عبوديته للسلطة، ومن كراهيته لنفسه، ومن عالم المزايدات الدينية التي تخرج بالدين الحنيف المقدس من جماله وكماله وروعته إلى قشور وبلاهة وبلادة.
الأولى: بل يحتاج الرجل أن يتعلم قبل كل شيء أن الله أكبر، وأن خالق السماوات والأرض أسمى من أن ننسب إليه، سبحانه وتعالى، الظلم الذي حرمه على نفسه.
الرجل يحتاج لعلاج سريع قبل أن يُدَمّر الكونَ كله، ويدمر نفسه وهو يهدم المعبد علينا جميعا.
لازلت حتى الآن في صدمة عندما قرأتُ لشاب يقول أنه عندما يرى فتاة أو امرأة تروق له، يتخيل أنها من الحور العين، ويمارس معها الجنس في خياله، ويظن، بل يؤمن أنه يحصل على الاثنين معا: متعة ممارسة الشهوة في خياله، والثواب في ايمانه بقرب الارتماء في أحضان ثلاث وسبعين حورية، بل إنَّ أحدَ الفقهاء أكد له أنه سيكون في حالة انتصاب دائم في جنة الخلد.
الثانية: أتركك الآن فلدي موعد مع أحد حراس الفضيلة وقد أمرني بتغطية وجهي بخمار لا يبين منه حتى خيال العينين، فهو متزوج، ويخشى على بيته وأسرته، ولا يعرف أن ما يقوم به، سيفعل مثله أخي وربما أبي.
إنها دائرة من النفاق الاجتماعي، ودفن النعام رؤوسه في الطين وليس فقط في الرمل.
الأولى: إنني أدعوك، أختي الصغيرة، إلى الالتزام بالقيم والمباديء والخير والشرف، وعندئذ لن يجد الرجلُ صَيده بتلك السهولة.
الثانية: في هذه الحالة سأنزع النقاب، وسأكشف عن وجهي، فأنا أيضا خلقني الله، ونفخ في من روحه. إنَّ نظرةً واحدة لمشهد الأرض البائسة حروباً وطائفيةً وفقراً يجعلنا نثق أنَّ أكثرَ أهلِ النار يوم القيامة هم الرجال.
أوسلو في 5 يوليو 2007
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
التعليقات (0)