بعدما انتهتْ الأيامُ الأولىَ لدفءِ اللقاءِ مع العائلةِ والأصدقاءِ والجيران، وفي مساءِ يومٍ باهتٍ، مفتعَلٍ جرىَ بينهما الحوارُ التالي:
المقيم: سانشغل عنك في الأيام القادمة لأنني أنزل من البيت مبكرًا، وأعود منهـَــكًا في المساء، فألقي بجسدي على الفراش كأنني ميـّـتٌ نصفُه حياة، ويستحيل خلع يومياتي من إطارها المرسوم، وعلىَ كل حال فلك خالص الشكر على الهدايا التي جئت لي بها من الخارج!
المغترب: لا تقلق، فأنا سأقوم بعدة زيارات رغم أن الجميع غارقون في أعمالهم ومدارسهم وامتحانات الأولاد. المقيم: ظننت قبل وصولك أنك بدَّلـْـتَ جـِـلدك، وغيرّت بـَـشرتك، وعجــَّـمت لسانــَـك، ونسيت عاداتـِـنا وتقاليدَنا، فقد اخترتَ الخارجَ داخلا، وحَرَمتَ نفسك من متعة الموت فوق أرض أجدادك، وأضحى شـِـتاتــُـك شتاءً باردًا، وغربتـُـك كغريب ألبير كامي، فتبعثرتَ هناك وطارت روحُ الماضي منك لتتفتت أجزاؤك في كل اتجاه ما عدا قــِـبلة الوطن الأم.
المغترب: لقد اختزلتني في سنوات الطفولة، واختصرتني في أعوام الشباب، وقصصت أجنحةً كانت تسمح لي بالطيران ذهابا وإيابًا، فجعلتــَـها أنتَ هجرة بدون عودة. نحن نهاجر ولا نتغرب إلا بمشاعركم نحونا، ولا نقطع شعرة معاوية مع الوطن إلا بمقصٍّ في أيديكم، ونتابع أخبار ترابه ونيله وسدوده وسحاباته فإذا عدنا عاملتمونا كسائحين، وإذا أبدينا الرأي في هموم الوطن حسبتموها حشراً لأنوفنا في خصوصياتكم. كلما أكدنا أننا امتدادٌ لأهلنا، انفرجتْ شفاهكم دهشة وتعجـُـباً من الضيوف الثقلاء الذين، حسبما تظنون، يريدون الغربة والوطن، يحتفظون بمسمار جحا فيعودون لتثبيته في كل زيارة. لو كان هناك جهاز لقياس الوطنية لدى المقيمين والمهاجرين لانبجست منه دموع على انفجار حب المهاجرين لوطن غضَّ المقيمون الطرف عنه.
منذ اللحظة الأولى لوصولي المطار وأنا أشعر أن العيون تنزع عني رداء الوطن، وتدثرني بغيره، فالناس تراني مواطنا نصف سائح، أو سائحًا يعرف لغتهم.
المقيم: أنت هاجرتَ فهجرتَ، وتركت مكانك لغيرك فلم تعد تعرفه أو تملكه أو تشعر به على على استحياء. لا تمدّ إقامتـَـك فقد أصبحـَـتْ عبئًا علينا، ونشوة الأيام الأولى يجب أن لا تصبح مقدمة لهجرة معاكسة. في كل زيارة تطرح نفس التساؤلات التي أجبنها عنها من قبل وسقطت من ذاكرتك في المرة السابقة فور تحرك طائرة عودتك إلى وطنك الجديد.
إنك لم تعد تعرف أسماء أفراد العائلة وأولادهم فهي كائن معقد كلما كبرت العائلة في بيان تنازلي زاد جهلك بها.
ثم إنه لم يعد من حقك أن تنهر أو تعاتب أو تلوم طفلا صغيرا أو شابا يافعا أو سلوكيات لا تفهمها كقنديل أم هاشم، وزيارتك لمدة شهر ثقيلة علينا في منتصفها، وتكاد لا تُطاق في نهايتها. إن حبنا إياك لم يتغير، لكن وهجه يبرق من بعيد، فإذا اقتربتَ بهــَـتَ، وإذا أطلت المكوث انتظرنا سفرَك بصبر تشويه جمراتُ نار ظاهرها مودة، وباطنها غرابة.
في المرة القادمة يجب أن تحزم حقائبك بعد فتحها، وأن تؤكد حجزتذكرة عودتك إلى وطنك الثاني في اليوم الثالث لوصولك حتى تظل مكانتك في قلوبنا ثابتة. سيأتي الوقت الذي يصبح فيه الوطن من داخل شاشة، وزيارتك إلكترونية، وأحاديثك الخاطفة تنتهي فور انقطاع التيار الكهربائي وصمت السكايب.
نظراتك خلال عطلتك لا نستريح إليها، فأنت تتعجب أن لدينا في فقرنا أكثر مما لديك، وأنك تصرخ عندما تأتيك فاتورة الغداء في مطعم وتطرح سؤالك الفضولي الأحمق: أنا أعيش في المهجر ومع ذلك فكل الأسعار هنا تُفرّغ جيبي.
من فضلك لا تشفق علينا، وأكمل عطلتك في هدوء، فنحن بك أو بغيرك نعيش بالستر والدعاء وسدّ ثغرات المرتب الشهري الذي ينتهي قبل أن نتسلمه.
إن بيتك الذي اشتريته والشاليه الذي دفعت آخر أقساطه والسكن الثاني الذي سددت قيمة الدُفعة الأخيرة منه لا تمنحك الحق في استعادة المواطــَـنة التي تركتها، فأنت تشتاق لوطنك الثاني قبل مرور أسبوع في عطلة الصيف، وتتحدث عن حياتك وعملك وأولادك في الخارج أكثر مما تسمع حكاياتنا، وترينا صورًا كما نشاهد فيلما سينمائيا نعرف فقط أشكال أبطاله ولم نلتق بهم.
أحيانا تؤكد أنك تعمل كالحصان، وتجتهد كالذئب، وتفترس الفرص كأسد جائع، فيزورنا صديق حميمي لكَ ويقسم أنك لا تعمل، وأن مكتب الضمان الاجتماعي أبوك في الغربة، والتحايل على الدولة المضيفة هو ست الحبايب!
المغترب: أنتم تعتقدون أن الرؤية من الخارج أقل وضوحا من رؤية المقيمين.
تتيهون في العادة والاعتياد وتحسبون أنكم تعرفون، وأن أهل كل مدينة أدرىَ بشعابها. تسمعون منا فإذا اختلفنا قلتم لنا: أنتم تعيشون في عالم آخر يؤثر فيكم فتأتوننا بأفكار الغرباء والكارهين والمستعمرين، رغم أن الذي يشاهد من بعيد تكون الرؤية المتكاملة لديه أكثر سطوعا. إن خوفي على الوطن الأم ليس فضولا لكنه مشاركة مني، ففي المهجر شاهدت، وقارنت، والتقطت عيناي ما اعتادت عيونُكم على عكسه فظننتموه الإبداع.
ما العيب أن أكون متعلقًـا بالوطن وعالقاً بغيره ومعلــَّـقا بينهما؟
المفترض أن تنتابني مشاعر الغرور ولو على فقاعات صابون، فيحدث أن الكبرياء يتمسك بكم قبلي، وترفضون الحبل الرفيع الذي يربط المغترب بالمقيم وهو سينقطع في يوم من الأيام مع جيل قادم أو أحفادي حتى لو جاء الرئيس البرازيلي وقام بتقبيل الحجر اللبناني أمام بيت ماضيه قبل الهجرة.
لا أحب أن تقولوا عني بأنني مغترب، فمن يتأمل في عُمق الحقيقة لا يخالجه أدنـىَ شك في أنكم أنتم المغتربون في الداخل وأنا المقيم بينكم وجسدي في الخارج. المغترب كان وكائن وسيكون، والمقيم كائن فقط! إن الهجرة ليست انعتاقَ الروح من الجسد، إنما عملية انتقال سلسة يدفع ثمنــَــها المقيم، وضعفَ ثمنــِــها المهاجر. المقيم: في نسياننا إياك تــَــعـَـلمنا الفرحَ أيضا، وعندما نراك تحاول أن تُذكـِّـرنا بالحزن! مخزون ذكرياتك يحشرنا في ماضٍ بنينا فوقه سبع حيوات بعد هجرتك.
وإذا كنتَ تمُنّ علينا ببعض الهدايا التي تشتريها في كل عام من بقايا أوكازيونات الخارج، فنحن في غــِـنىَ عنها، خذها وخـُـذْكَ.. إنْ أردتَ!
صناعة الشوق ترهقنا أكثر من فبركة الشك، وحتى زيارتك في وطنك الجديد لكنيسة قبطية أو مسجد لا تعنينا في شيء، فاللهُ هنا ليس هو اللهَ هناك، فأنت قاطعت فقطعت، وحبلُ السُرّة انقطع مرتين: واحدة هنا عقب مولدك، والثانية هناك عندما اخترتَ الولادة الأخرى.
أنتَ تتوهم دموعـًـا دافئةً عليك في وطنك الأم فتمنحك قيمة، ونحن نتوهم انشغالك بنا عقب محادثة هاتفية تسير مع عقرب الساعة الكبير فتظنها عناقا وأحضانا عبر الأثير، ثم تنفصل الحياتان إلى نصفين يتناثران في الماضي ولا يبقى لهما أثر في المستقبل.
المغترب: لقد تغيرت سلوكيات أهل بلدي الملتصقين بأرض الوطن أكثر من تغييرات طرأت عليَّ في طيراني المهجري. مساحات الصمت بيننا أوسع من المسافة بين الوطنين: الأم و.. الجديد!
أفكر في الأموات أكثر لأنهم لم يعيشوا مشهد الانفصال الحديث، على الرغم من أنني أزور قبورهم بحماس في البداية، ثم بتكاسل في وسط عطلة الزمن المجزَّأ، ثم تصبح ذكرياتهم دعاء الرحمة لهم. إن الزمن مضاد لنا نحن الاثنين، فيوحي إليك أنني قريب يبتعد، ويشي لي بقربك الأبعد! ألحقُّ معك أنني أزعج سطحَ البحيرة الراكدة، والحقَّ أقول لك أنَّ عُمقَ البحيرة تضاعف فلم أعد أستطيع رؤية أقرب نقطة من سطحها.
فلنمارس معا مسرحية سيقوم جيلٌ قادم بإسدال الستار عليها.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 22 مايو 2016
التعليقات (1)
1 - مراوغة الوطنية !
أحمد قيقى - 2016-06-11 10:36:39
أحسنت التعبير يا صديقى , ولكن الذين يشعرون بالغربة فى الوطن مثل الذين يشعرون بالوطنية فى الغربة وكلاهما ترك خيرات الوطن للشطار والفهلوية الذين يجيدون التجارة بكل شىء !