التقتْ سمكتان في قاع البحر، الأولى صغيرة مُلونة كألوان الطيف، والأخرى كبيرة وذات لونين فقط، ودار بينهما حوار التقطناه بصعوبة بالغة، لكنه كان واضحاً للغاية.
قالت السمكة الكبيرة : أراكِ ترتعشين كأنكِ هاربةٌ من شبكة صياد ضــَيــَّــقَ فتحاتـِـها فــَـبــَـدَتْ ملائمة لأسماك خرجت لتوها من بيض مفقوس!
قالت السمكة الصغرى وهي تتقدم وتتراجع: هل أنا آمنةٌ لديك أمْ أنَّ مُستقري في جوفك قبل أنْ نــُـكـْمــِـل حوارَنا؟
السمكة الكبيرة: لا تخافي، وصارحيني بما يعتمل في نفسك، فأنتِ وأنا، في مياه واحدة، وشبكة الصياد لا تــُـفَرِّق بيننا، وسنارتــُـه تجرح كلينا بنفس القــَـدْر.
السمكة الصغيرة: لقد قابلتُ بالأمس صديقة لي وكانت تسبح علىَ غير هــَــدْي، ففهمتُ أنها في أزمة، واستسبـَـحــْـتُها لبعض الوقت، فحــَــكتْ لي عن الخطر الذي حاق بها عندما حاولت العيش في البحر الأحمر بالقرب من سفاجا، ووجدتْ هناك أسماك قرش ترتع، وتلعب وتنتظر منذ وقت طويل (عــَــبـَّـارَةً) لعلها تغرق في العهد الثالث بعد مبارك الذي أهداها رجاله أكثر من ألف غريق مصري فكانت مأدبة العُمر.
قالت السمكة الكبيرة وهي تحاول تعليمها أصول الشك في نوايا الإنسان: ومع ذلك فأسماك القرش أرحم علينا من جنون البشر، وهو غير جنون البقر. لقد سمعت هنا في مياه الخليج الدافئة عن أم الكوارث التي أنجبتها أم المعارك عندما أحرق صدام حسين أكثر من سبعمئة بثر نفط في الكويت، وبدا تلوث المياه وقتها مفزعا من البر، فما بالك بالأسماك والطيور التي عاشت آمنة، تأكل، وتسبح دون وجود مراكب الصيد الكبرى المجهزة بماكينات لا فرق لديها بين الصغير والكبير، فقانون الصيد الدولي يُحرم صيد، وتعليب الأسماك الصغيرة جداً.
ابتسمت السمكة الصغيرة وقالت لها: أنا أعرف مقصدك، فأنت تشيرين إلى المراكب الروسية الكبرى التي تصطاد أسماكاً صغيرة في المياه الاقليمية المغربية بالمحيط الأطلسي الذي كان العرب يطلقون عليه في غابر الأزمان بحر الظلمات، وتقوم بتعليبها فنختنق قبل وبعد موتنا.
لكنني لا أخاف شيئا خوفي من تسرب مخلفات المصانع الكيميائية فتتلوث المياه بالأملاح السامة كالزرنيخ والزئبق، وأملاح المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم!
لقد بحثت رغم صغر سني عن مكان آمن لي من شر الإنسان وهو أحيانا أغلظ وأشرس من شر الوسواس الخناس، فلم أجد، وقد قيل لي بأن الهجرة إلى مياه المحيط الهادي ستجعلني مثل ساكن عشش الصفيح الذي انتقل فجأة إلى قصر منيف يطل على بحر الشمال في بقعة لم يمسسها من قبل إنس ولا جان.
دارت السمكة الكبيرة حولها دورتين ثم اقتربت أكثر وقالت لها: خبرتي الطويلة في قاع البحارعلمتني أن الإنسان طاغية فوق سطح البحر وفي أعماقه، وهو يلوث البيئة بيديه ثم يقيم معاهد بحث علمي للوصول إلى الحل الأنجع لتنقية ما لوثته يداه!
أما الهجرة إلى مياه المحيط الهادي فهي أضغاث أحلام من وضع ثقته فيمن هبط من الجنة إلى الأرض بعد المعصية، فأحسب أن أجدادك كانوا صغاراً عندما تسرب النفط من بئر في عام 1969 خارج المياه الاقليمية لولاية كاليفورنيا الأمريكية، وطاردَ في أيام قلائل ثمانون ألف برميل شقيقاتنا من أسماك آمنة وبعيدة عن الشاطيء والصيادين، فقتلت ملايين من الأسماك الصغيرة والكبيرة في مساحة تسعين كيلومتراً، وضاع لحم طري كان يكفي أهل قرية تأكل من خيرات البحر سنوات فجاءت حماقة الإنسان لتضع القبح الأسود في المياه الصافية.
قالت السمكة الصغيرة: هذا يعني أن لا مكان لنا غير المياه العربية الدافئة والواقعة بين جزيرة ليلى المغربية وجزيرة حنيش اليمنية، وبين اللاذقية السورية ومنطقة القراصنة الصوماليين في البحر الأحمر، وهي شواطيء يتحدث صيادوها وسبــَّـاحوها وشراعوها وقباطنتها في أربعة وعشرين ألف كيلومتراً اللغة العربية.
بدا أن مهمة السمكة الكبيرةِ.. كبيرةٌ، فهي في كل اجابة مــَــدْرسة للتعليم، فقالت لها بصوت خفيض مسموع بشق الأنفس: بحارنا وأنهارنا العربية ليست فقط مصائد، لكنها مصائب، ولا فرق لديها بين مالحٍ عاتية أمواجه، وعذبٍ نائحة أفواجه. مياهٌ إنْ لم يلوّثها أصحابها سرقها جيرانها، وإنْ أحتاج عربــُــها لمزيد منها نهضتْ سدودُ جيرانهم لتحجبها عنهم.
الأملح الميّــت فيها تتحدث مياهه العبرية رغم أن منبعه نهر الأردن ولا تعيش فيه كائنات حية فيطوف على سطحه سياح كأنهم موتى، وفــُــراته الحزين ينبع نصفه في أرمينيا، والنصف الآخر في تركيا، ويمر على قلب العروبة الذي كان نابضاً فأهلكه أسدان، أب وشبل، فلما ثار الشعب العظيم اختلط بهم غزاة ومقاومون، شرفاء ولصوص، عشاق وكوهينيون، فعرفتْ سوريا لأول مرة أن أهلها سنيون وشيعة وعلويون ومسيحيون وأرمن وأكراد وكتائب وعروبيون وجواسيس، واحتفلت الجماعات الدينية بالسقوط الثالث قبل اقامة خلافتهم على أنقاض خلافاتهم.
ثم أردفت قائلة: مياه دجلة لونتها بالأحمر القاني جثث عراقية وإيرانية لثمان سنوات، ثم زاد احمرارها في انتقام مهيبها من معارضيه، وبعثها من مُخالفيه، وجاء شباب يانكيٌ يلوكون العلكة من أقصى الأرض و يلعبون بأزرار في طائراتهم الشبحية غير المرئية فتحولت مياه دجلة إلى بديل للمقابر الجماعية الأرضية، وأخيرا جاء غزاة في ملابس وطنية وسكنوا منطقة خضراء الاسم، صفراء الوجه، سوداء القلب، حمراء اليدين، تحدَّت صدام والخوميني وبوش أنها ستجعل من العراق مقراً دائما لإبليس إلى يوم القيامة.
كأن الخوف جعل ألوان السمكة الصغيرة تبهت فجأة من هول ما سمعت، فقالت وفي صوتها حشرجة رعب: سأنتقل من المالح إلى العذب رغم استحالته، وسأجد في مياه النيل أمنا وسلاما وأُصاحــِـبُ أسماكا من كل الأنواع تــَــمـُـرُّعلى أحد عشر بلداً، فهو نهر يغني له شاربوه، ويسكر من مياهه الحلوة عاشقوه، وينعكس الضوء الفضي في منتصف الشهور القمرية على سطحه فتخفق القلوب التي في الصدور ولو كانت من حجر.
ضحكت السمكة الكبيرة على سذاجتها وأكملت دروسَها لها قائلة: آه، كَمْ الحياة خبرة ومصاعب ومعاناة وهروب دائم من الإنسان وغضب الطبيعة وتلوث البيئة و .. أسماك القرش.
أخشى أن تكون نهايتك في جوف تمساح يتهادى في بحيرة فيكتوريا، أو من جراء قنابل يتبادلها الجنوبيون السودانيون مع الشماليين فتنفجر في النهر وتقتل منا ما يسدّ رمق جائعين على شواطئه وفي قراه القريبة.
لا يغرنك غزل النيليين في نهرهم الخالد، فهم يلقون فيه أوساخهم ومخلفاتهم وفضلاتهم وكيماوياتهم، ويختلس صاحب المصنع في قاهرتهم نظرة ذات اليمين وذات الشمال ثم يأمر عماله بتسميم النيل بكل الدهون والأحماض والقلويات والأصباغ والنفط والزيت والمنظفات الصناعية حاملة البكتريا الضارة.
إلى أين ستهربين في نهر كان هبة الله لمن يمر عليهم، فأصبح لعنة الصراعات والسدود والكراهية وبــُــغـْـض الإنسان للطبيعة والبيئة والجمال والسحر.
إذا كان الله قد جعل من الماء كل شيء حيّ، فالانسان جعل الموت والتسمم والقذارة رديفا للماء الحيّ.
أخاف عليكِ أن تنحشري خلف سدّ يــُــكــَــلــِّـف الفقراء الإثيوبيين مليارات تساهم فيها خزينة الدولة العبرية، فإذا كان جعفر النميري عرَّابا للفلاشا السمر فقام بنقلهم إلى إسرائيل، فالهارب من العدالة الدولية، البشير، سيقف مع أحفاد النجاشي للتحكم في عدد نقاط الماء التي يشربها أو يغتسل بها أو تروي حقول من يصُبُّ النهر مياهه، أو بعض مياهه لديهم.
هنا قررتْ السمكة الصغيرة مُصارحة معلمتها حيث لا يسمع هذا السر غير دلافين تسبح بالقرب منهما: لقد فكرت في بحر الشمال، لكنني تذكرت ناقلة النفط التي غرقت أمام سواحل اسكوتلاندا وقضت على حياة ملايين الأسماك، ثم فكرت في التجول على شواطيء الأزرق الكبير الذي حلم نيكولاي ساركوزي أن يكون قبطانه وأمينه فيمنع المهاجرين الفقراء السمر من الابحار نحو جنوب أوروبا الذي يعاني من مشاكل متفاقمة، لكنني لا أتحمل مشهد شباب غرقوا وهم يهربون من مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب لعلهم ينعمون باللجوء لمالطا أو اليونان أو ايطاليا أو إسبانيا، فكانوا طعاماً دسما لأسماك القرش رغم ندرتها في البحر المتوسط. ليس هذا فقط فهناك مئة وعشرون مدينة ساحلية في حوض البحر المتوسط تصب مخلفاتها ومجاريها بدون معالجة مما يجعل مياه البحر ومياه الصرف الصحي متساويتين في الاضرار بنا.
أمامي عشرات الفرص في بحار ومحيطات وبحيرات وخلجان وإذا ضاقت بي المياه بما رحبت فأمامي فرصة الهجرة إلى خليج المكسيك أو بحر سيبريا رغم فزعي من التجمد أو البحر الأسود أو بحر إيجة أو البحر الأصفر.
لم تــُـرِدْ السمكة الكبيرة أن تصارحها بالحقيقة المُرّة وهي أن الهروب من الإنسان شبه مستحيل، فحتى التجارب النووية إذا لم يجد فرصة حرب لتجربتها ألقاها علينا في عمق المياه، وإذا اصطادنا بغير الشبكة خدعنا بالسنارة ليرفعنا إلى الأعلى وهو يهلل بهجة وسعادة ونحن نصرخ ألما ووجعاً، لو تعرض الإنسان لذرّة منه لسقط مغشياً عليه.
ودَّعــَــتها، وألقتْ قبل ذلك عليها بعض النصائح في تجنب الشواطيء، وشبكات الصيد، وأسماك القرش التي لا تختلف كثيرا في طريقة افتراسها عن افتراس الإنسان لأخيه وحليفه السابق وخصمه اللاحق.
تركتها تتعلم فالهروب من الأسماك الكبيرة أسهل كثيرا من الفرار من حيلة البشر وهم يتفنون في القتل برا وبحرا وجواً.
كانت تختزن مئات الحكايات عن الخطر في حياة قصيرة قد تنتهي في جوف سمكة أكبر أو على طبق شهي يلتهمه جائع، أو يتلذذ الإنسان بها قبل أن يستوي شواؤها فوق نار هادئة.
ألقت عليها نظرة حزينة وهي تسبح مبتعدة وألوانها الجميلة والغنية والطيفية تتلالأ في العيون، خاصة عيون البشر التي تنبهر بجمالها ثم تنتهي المسكينة الصغيرة في معدة إنسان لا يكون بالضرورة جائعا، فالرغبة في أكل الأسماك لدى البشر لا ترتبط بالحاجة أكثر من ارتباطها بلذة الافتراس، أليس هذا ما يقوم الإنسان نحو أخيه الإنسان؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 25 يونيو 2013
التعليقات (0)