همست لقلمي بصوت خفيض جدا طالبا منه أن يخط بنفسه ودون أدنى تدخُلّ مني حوارا بين المباركين، الرئيس حسني مبارك والرئيس القادم جمال مبارك، فتنهد تنهيدةً كادتْ تمزق الورقة، وبدا لي أنها موافقةٌ على مضض.
فهمتُ قطعا أن الحوار َبين الرئيسين يمكن أن يلخص أوجاعَ وطنٍ، ويختصر عذابات أمةٍ، وربما يحتاج لمثل نهر النيل الخالد مدداً لعله يقص ما حدث في ربع القرن الأخير ، ثم تحرك حركةً دائرية، وبدأ يخُطّ الحوارَ التالي ...
الرئيس حسني مبارك: كنتُ فخورا بك وأنا أراقبك على شاشة التلفزيون في اليومين الأولين للمؤتمر الثاني للحزب الوطني الديمقراطي، وقد بدوت فعليا رئيسَ الدولةِ الحقيقي، أو ربما المهدي المنتظر!
الرئيس جمال مبارك: شكرا والدي العزيز فالمفاجأة كانت أكبر مما توقعت. كانت كلُ أجهزة ومؤسسات الدولة ممثلة بكبارها وصغار كبارها تجلس أمامي صغيرة، ضئيلة، مُحَجّمَة، مُقَزّمة كأنني أديت اليمينَ الدستوريةَ رئيسا مدى الحياة وفَقَدَ على اثرها الجميعُ أيّ أملٍ في زعيم آخر غيري.
مبارك الأول: ألم أقل لك من قبل بأننا نلعب الأوراقَ بمهارة، وينبغي أن تثق بأبيك فأنا لن أسمح، حيا أو ميتا، أن يرث الحكمَ من بعدي واحدٌ من هؤلاء المصريين المتخلفين الذين يتوهمون أن لهم حقوقا لَدَيّنا، وأنهم كمعظم شعوب العالم تختار زعيمها.
مبارك الثاني: كان الأمر في غاية البساطة والسهولة. الأيدي ترتعش، والظهور تتقوص، والمَسْكَنْةُ ترسم ملامحَ الوجه، والكبار العمالقة الذين تهتز الأرض تحت أقدامهم مثل صفوت الشريف وكمال الشاذلي وأحمد فتحي سرور ورئيس الوزراء وكل أعضاء الحكومة والأمن والمخابرات والجيش صغروا جميعا وهم ينظرون في عَيّنَيَّ، ولم يتجرأ واحدٌ منهم أن يسأل عن صفتي ووظيفتي الدستورية، بل إن المؤتمر كان استفتاءً حيّاً على الهواء تم تعييني بمقتضاه زعيما شابا لدولةٍ لم تعد تحتمل تمرّدا أو ثورة أو عصيانا.
مبارك الأول: الآن أؤكد لك أن الأمر لن يحتاج لتكملة مسرحية توريث السلطة فقد أعطيت أنا الاشارة في غيابي المتعَمِد لمدة يومين أن الحكم قد انتقل إليك وإذا أراد المصريون الادّعاء بأنهم أحرار يختارون رئيسهم وزعيمهم فليشُجّوا رؤوسهم، أو يخرجوا بملايينهم احتجاجا أو حزنا أو بكاء فنحن لا نكترث، وأقسم لك، ولدي العزيز، بأنني لن أترك هؤلاء الغوغاء يرثون منا مُلْكاً أو قصرا أو سُلّطة فمكانهم الطبيعي تحت أقدامنا.
مبارك الثاني: انتقال السلطة لا يقلقني وأكاد أسمع صوت الدكتور أحمد فتحي سرور يقول بصوته الجهوري وطريقته في السخرية من أعضاء مجلس الشعب بأن أكثر من ثلثي ممثلي الشعب قرروا ترشيح السيد جمال مبارك رئيسا للجمهورية خلفا للزعيم الكبير حسني مبارك،
إنما قلقي من تعاظم حركة المعارضة التي تمثلها بعض الصحف ومواقع على الانترنيت، وبعض المشاغبين من القوى الوطنية واليسارية والشيوعية والناصرية والاخوان والمستقلين.
مبارك الأول ضاحكا: وهل هؤلاء يملكون جيشا وربع مليون جندي في الأمن المركزي ونصف مليون شاب ينتمون للحزب الوطني ولا يعرفون زعيما غيرك تماما كما لا يعرف الليبيون رسولا للصحراء غير قائدهم وخيمته وناقتيه وحليبهما؟
وهل يملك هؤلاء مخابرات وأجهزة أمن ووسائل اعلام تغطي كل شبر من وادي النيل؟
وحتى مع افتراض نشر العربي، والوفد، والأهالي، والمصري اليوم، وكل نشرات الاخوان المسلمين مقالات يظن من يقرأها أنها سوف تزلزل الأرض من تحت أقدامنا، فإن في مقابل كل كلمة اعتراض هناك مئة من رجالنا يتولون حمايتنا.
مبارك الثاني: أنا لا أشك، والدي العزيز، في وفاء كلاب القصر الذين يبررون نزواتنا وجرائمنا وأمزجتنا، ويغَلّفون قانون الأحكام العرفية، ويُغضمون العينَ عن مئات من حالات الانتهاك والاغتصاب والتعذيب والامتهان التي يتولاها عنا رجالُ أمنٍ عاهدوا اللهَ في القَسَمِ أن يحافظوا على الوطن، فلما تبعثروا في أقسام الشرطة بطول مصر وعرضها ضربوا بعُرْض الحائطِ شعارَ الشرطة في خدمة الشعب ليصبح عمليا الشعب في خدمة القصر.
لكنني أخشى صوتا وطنيا تسمعه مصر كلها مطالبا بعصيان مدني، وفي هذه الحالة لا يستطيع ثلاثة ملايين من رجال الأمن والجيش والمخابرات وشبيبة الحزب الوطني أن يسحبوا سبعين مليونا من البشر من رقابهم كما يسحب جنود المارينز في سجن أبو غريب أهل العراق
مبارك الأول: يجب عليك أن تتحلى برباطة الجأش ولكن القسوة والغلظة والتعامل الفوقي ينبغي أن تسبق كل الأمور الأخرى.
لقد حاول والدك لثلاثة وعشرين عاما اغتيال مصر، فصنعتُ في عهدي نصّابين ومحتالين وهبّارين وبلطجية ينهبون خيرات الوطن في كل شيء يتحرك فوق أرض الكنانة، الجمارك وتحويلات المصريين والمساعدات العربية والدولية والأمريكية، وفي عهدي غَيّبْتُ ربعَ مليون مواطن أصبحوا مدمنين، وهناك ستة ملايين عاطل عن العمل، وملايين تفتك بأجسادهم الأمراضُ وتقتل روحَ الحياة فيهم خشونةٌ وصعوبةٌ ومهانةُ الحياة اليومية،
لهذا فمن الطبيعي أن تتوقع مناهضة مفاجئة لحكمك لو ظهرت قيادة ذكية وواعية تلتف حولها جماهير الشعب وهنا ستضطر للهروب من الباب الخلفي لقصر العروبة لأن أيّ محاكمة علنية لما ارتكبناه في حق مصر ستفتح علينا أبواب جهنم.
مبارك الثاني: وماذا أفعل مع الصحفيين المشاغبين الذين يُحرّضون عبيدَنا على التمرد، ويبسطون أمامهم حقوقهم التي نزعناها منهم؟
مبارك الأول:لقد تابعْتَ بنفسك الدرسَ الذي لقَناّه لعبد الحليم قنديل رئيس تحرير العربي، ولم يستغرق الأمر ساعتين هشّمْنا وجهه، وعلّمناه درجات ارتفاع وخفض الصوت لدى الحديث عن الكبار، وتركناه في الصحراء عاريا كما دفعت به لتِرْكَتِنا وعزبتنا وبلدنا بطنُ أمه.
وقائمة المترقب وصولهم إلى منافذ مصر بالآلاف، ولعلك تذكر مجدي أحمد حسين وجماعة صحيفة الشعب الذين قَدّموا مئات الوثائق والأدلة على فساد رَجُلنا الدكتور يوسف والي، فلقّنْتهم درسا بليغا، فأنا الذي أحدد قيمة الفساد، ولو جاءت مصر كلها راكعة مستجدية أن أزيح من الوزارة توأما لابليس لما فعلت لأن أكثر ما يغضبني ويثير حفيظتي هو ظن الرقيق أن لهم عملا آخر غير الركوع على أعتاب السلطة، والتذلل لزعيم مصر.
مبارك الثاني:لقد تابعتك، أبي العزيز، في الشهور القليلة المنصرمة وأدهشني هذا الكم الكثيف من الحماية التي تخشى عليك وعلينا من غضبة الشعب أو من انقلاب أو ثورة أو تمرد عسكري، فهل لديك اسباب أخرى؟
مبارك الأول: الزعيم الذكي هو الذي يتنبه للخطر قبل وقوعه بزمن طويل، وأنت ترى بنفسك دولة تغلى تحت مَسْكَنَةٍ ظاهرة، وشعبا يصرخ معظم أفراده من غلاء يقصم الظهر، ومعيشة أكثر ضنكا من أسفل خط الفقر، وقيمة للمواطن أرخص من حفنة تراب خاصة إن شاء سوء حظه أن يمر قفاه على يد ضابط أو مخبر أو مرشد أو صول في أحد أقساط الشرطة يتعلم بعدها أنه في عهدي وعهد ابني وحفيدي سيظل صفرا أكبر من صفر المونديال الذي حصلنا عليه في زيوريخ.
لذا كان من الطبيعي أن أتحرك بحذر شديد، فلو همست لك في أذنك بسرٍ أحسب أنه لم يغب عن فطنتك وذكائك المباركي الواضح لقلت بأنني أكثر زعماء مصر في تاريخها الحديث كراهية من الشعب،ورفضا من كل طبقاته، ولو ابتعد رجال الأمن عني خمس خطوات وثلاثة أمتار فإن عرش مصر لن يأتيك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
هل تظن، ولدي العزيز، أن بامكاني الخروج في موكب رسمي وسيارة مفتوحة في القاهرة أُحَيّي الجماهير ، ويخرج المصريون يهتفون بحياتي؟
حتى تَلَقّى العزاء في الرئيس الراحل ياسر عرفات أو تأدية صلاة الجمعة في شرم الشيخ بعيدا عن غليان العاصمة كان لابد لي أن أجلس وظهري للحائط وخلفه حماية أمنية مشددة، فالمصريون كما تؤكد لي التقارير الأمريكية والغربية والاسرائيلية والصديقة لم يعودوا يحتملون أكثر مما فعلنا بهم.
مبارك الثاني: لكننا صنعنا، أبي العزيز، طبقة ثرية إن نهب أقل أفرادها عدة ملايين لسخروا منه لزهده وجُبنه. إنهم يلعبون باقتصاد أكبر دولة عربية، ويحتكرون أموال الوطن كله، ويفرّغون مصارفه وبنوكه من المليارات التي تدخل الخزانة قادمة من تحويلات المصريين في الخارج وقناة السويس والبترول والدعم الأمريكي والغربي والخليجي والسياحة.
إن أصدقائي المقربين يملكون مليارات وقمت بمد خيوط بينهم ليصبحوا شللية متماسكة تستطيع أن تسبغ حمايتها علي في أوقات الكوارث .
مبارك الأول: مازلتَ، ولدي العزيز، ساذجا وتظن أن هؤلاء حماية لك من غضبة الشعب.
كما أن رأس المال في علم الاقتصاد جبان، فإن أصحاب رؤوس الأموال أكثر جبنا من أي شيء آخر يتحرك داخل دائرة الاقتصاد .. وهو عَصَبُ الحياة.
في فيلم بيت الأشباح عن رواية إيزابيل آينيدي التشيلية كان هناك حوار بين عسكري من قوة انقلاب وبين الرجل الأكثر ثراء والذي كان يدعم المؤسسة العسكرية مليارديرا ونائبا في البرلمان وصاحب ممتلكات لا تغيب عنها شمس تشيلي، وأصر الثري أنه هو الذي يملك المال ويدعم السلطة، فَرَدّ العسكريُ الجلفُ وقد وضع حذاءه فوق المنضدة: لكننا نحن الذين نملك القوة والسلاح.
كل أصدقائك سيختفون ويذوبون بُعيّد أي تغيير في الحكم، ونفس الأمر ينسحب على من نهبوا وهبروا واختلسوا واحتالوا واقترضوا مئات الملايين في مشروعات لم تحقق للشعب أقل أمانيه.
مبارك الثاني: أراك، أبي الحبيب، وقد شحب لونك، وضعفت صحتك، وبدا خوفك واضحا من يوم الحساب المصري الذي يعده لنا هؤلاء الغوغاء على نار هادئة، فلماذا لا نشرك الشعب في الحكم، وتعلن أنت كفايتك من ولايات أربع، وأقوم أنا بترشيح نفسي في مسرحية كوميدية سوداء كما فعل الرئيس زين العابدين بن علي؟
مبارك الأول: ليست القضية ترشيحا صوريا لشخصين أو ثلاثة وستحصل على نفس النسبة المئوية للأصوات، أي ستة وتسعين بالمئة، ولكن في الايعاز والايحاء والتصريح ضمنا أو جهرا للمصريين أنهم يتساوون بنا، وأن من حق المصري أن يرشح نفسه أمام مبارك الأول أو الثاني أو الثالث ...
عندما تتصرف بسذاجة وتواضع أمام المصريين فقد سقطت في فخ الحقوق والحرية والكرامة والمساواة.
هل رأيت أباك في يوم من الأيام يسارع لانقاذ المصريين؟ لو فعلت أنا هذا مرة واحدة فلن ينتهي مسلسل طلباتهم وكأنني أعمل في خدمتهم.
إنهم يبكون، ويصرخون، ولو جمعت دموع المصريين في ثلاثة وعشرين عاما لانشقت الأرض عن بحيرة جديدة، وهم يستجدون، ويتذللون، وأرسلوا لي عشرات الآلاف من الشكاوى المُرّة التي تخترق حجب السماوات العلا، ولم أكترث لهم أو أعبء بهم أو أهتم بأمرهم ..
إنهم في قناعاتي حشرات لا تستحق دهسة حذاء لي، يريدون مني مشروعا قوميا لمحو الأمية، ومشروعا وطنيا لبناء مدينة جديدة ينتقل إليها سكان المقابر ، ويطلبون دواء رخيصا، والقضاء على الاستغلال، والحفاظ على مستوى ثابت من الأسعار، واحترام كرامتهم، ووقف التعذيب والاغتصاب والحرق والسلخ في أقسام الشرطة، وتعيين أصحاب الكفاءات، والغاء قانون الطواريء، ومطاردة الفاسدين، ويطمعون في عدالة وقضاء نزيه وسريع، والبت في عدة ملايين من القضايا التي تنتظر في محاكم أبطء من السلحفاة، ويريدون إدارة سليمة، وتعليما جيدا، ومستشفيات نظيفة، ويزداد نهمهم فيطلبون مني حماية المغتربين والمهاجرين ..
في مكتبي أوراق مكدسة منذ بداية حكمي لم أَبُتّ فيها امعانا في اذلال المصريين حتى يظلوا عاقدين أملا مستحيلا في تدخلي.
لو أنني بقيت سيد القصر في ولاية خامسة حتى أبلغ الثالثة والثمانين فسأجعل المصريين يلعقون تراب الأرض جوعا ومهانة وخنوعا.
مبارك الثاني: ألست خائفا، أبي العزيز؟
مبارك الأول: لا يخيفني شيء في مصر كلها إلا العصيان المدني فهو تمرد سلمي يمتنع فيه كل المصريين بدون استثناء،إلا من رجالنا، عن العمل أو الخروج أو التعاون مع الحكومة، فإذا وصلت الرسالة إلى الجيش والمخابرات ومباحث أمن الدولة وفهموا جميعا أن أفراد الشعب هم أهلهم وأقاربهم واصدقاؤهم وأحبابهم فسنضطر أنا ووالدتك وأنت وأخوك علاء إلى طلب اللجوء السياسي في سفارة الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا أو بريطانيا أو نلجأ لدولة عربية مثل الأردن واليمن والجزائر.
مبارك الثاني: لكنك لم تصرح لي حتى الآن بما يدور في ذهنك عن تجديد ولايتك لمرة خامسة أو اهدائي مصر عسى أن تضمن ربع قرن جديد لحكم مبارك حتى أُعِدّ أنا حفيدك ليتسلم مصر من بعدي إذا بقي فيها شيء لم ينهبه أو يسرقه أو يدمره حيتان عهدي.
مبارك الأول: إنني أعرف أن صحتي لم تعد تنهض بي لكنني لا اصدق أن يوما قد يغرب ومعه سلطتي كنصف إله لهذا الشعب. هل سمعت عن أي فرعون مصري زَهَدَ في الحُكم وخرج من الباب الرئيس للقصر عائدا إلى صفوف الجماهير كواحد منهم؟
ومع ذلك فقد بدأت أفكر جديا في اكمال مسرحية وراثة العرش لينتقل إليك دستوريا ويقطع الطريق على المتربصين بنا، وفي الوقت الحالي ليس أمامي غير ترشيح ثلثي أعضاء مجلس الشعب إياك، ثم يعقبه استفتاء شعبي يكتسح فيه الجاهلون والخائفون وأعضاء الحزب الوطني كل دوائر البلد لتصبح مصريا وعربيا ودوليا وأمريكيا فخامة السيد رئيس الجمهورية!
مبارك الثاني: وماذا عن المعارضة وقوتها واصرارها على كشف سوءاتنا؟
مبارك الأول: في نفس العام الذي شهد موّلدَك كتب المأمون أبو شوشة قصيدته الشعب ثار، يقول فيها:
الأغبياء .. الأدعياء .. المغرضون
يهللون: إن الرعيةَ حرّةٌ والشعب جبّار عنيد
انظر لسخف حديثهم
لغبائهم
أو ليس شعبك أو كلابك كلُهم مُلْكاً حلال؟
هكذا، ولدي العزيز، حري بنا أن نتعامل مع هذا الشعب، وفي الأيام الأولى بُعَيّد توليك السلطة تُلقي خلف القضبان عدةَ آلاف من المشاغبين والمعارضين، ولستَ في حاجة للشرح والتفصيل والتبرير فلدينا من الكلاب أكثر من الهَمِّ على القلب وهؤلاء سيكتبون، ويبررون حملة الاعتقالات بأنها للحفاظ على أمن الوطن،
وسيعلقون في رقبة المتهم تهمته التي تليق به، مثل الانتماء إلى تنظيم غير شرعي. التخابر مع دولة أجنبية. التآمر ضد الشعب المصري.. الانتساب لتنظيم عالمي ارهابي. تعكير صفو السلام الاجتماعي. اثارة النعرات بين أبناء الوطن الواحد .. الخ
وكل تلك التهم ستجدها في درج مكتب رئيس التحرير لأي صحيفة قومية، أما رَصُّها وزركشتها ونفخُ الروح فيها فهي مهمته إذا أنجزها باتقان ضَمَنَ منصبه حتى يبلغ من العمر أرذله!
مبارك الثاني: القاء نظرة متفحصة ومتأنية وعميقة على المشهد المصري برمته يوشي بأننا أسرة يبغضها المصريون بغضا شديدا، ويتمنى رعايانا رحيلَنا في انقلاب يقوده وطنيون مصريون لانقاذ ما بقي من هذا البلد، هل تضمن بقاء ولاء الجيش لنا؟
مبارك الأول: انصت إلي جيدا، ولدي الحبيب، إنما يبكي على الحبِ النساءُ، فلا تنشغل بأبعد من صناعة العبودية. أما الجيش الوطني المصري فهو يغلي في كل ثكناته، وضباطه وجنوده ينتمون للشعب المصري ويعرفون من ذويهم واقاربهم وأهلهم أن الغليان امتد إلى كل أفراد الطبقتين المتوسطة والدنيا فضلا عن المثقفين والأكاديميين والمفكرين والشرفاء المستقلين، لهذا أقوم أنا بمراقبة الجيش أكثر مما أفعل مع العدو على حدودنا.
أقوم بتغييرات في القيادات. أجعلهم يشعرون أن أنفاسهم تصل إلى في مخدعي بالقصر الجمهوري، وأنني أستطيع احصاء عدد دقات القلب لأي مصري تُسوّل له نفسه أن يحلم، مجرد الحلم، بتأييد انقلاب ضدي، واجعل وزير الدفاع لا يغيب عن عيني ليلا أو نهارا، فمهمته ليست بناء جيش قوي، إنما خدمة الرئيس وحضور الحفلات والوقوف في صف المودعين والمستقبلين.
عندما قام شيخ الجامع الأزهر يؤم الناس للصلاة أمام نعش الرئيس الراحل ياسر عرفات، كان وزير الدفاع خلفه مباشرة وأنا كنت في سرادق العزاء أحتمي برجالي وحراسة لم تشهد لها مصر من قبل مثيلا.
مبارك الثاني: هل تنصحني بالتحالف مع المخابرات ومباحث أمن الدولة؟
مبارك الأول: ليست القضية تحالفا أو اقترابا، ولكن عليك أن تربكهم، وتشغلهم بقضايا هامشية، وتضع أمامهم ملفات لأخطار وهمية حتى تخلق صراعا بينهم وبين أفراد الشعب مثل تطبيق قانون الطواريء، ومراقبة الجماعات الاسلامية والعائدين من أفغانستان والبوسنة والعراق والصومال وأي منطقة بها صراعات.فهم رجال يتعاملون بجدية مع قضايا العدو الخارجي.
بين الحين والآخر تقوم بعمل تنقلات مفاجئة لكبار رجال الأمن والمخابرات، وتفصل بين المتحالفين والأصدقاء، وتشم رائحة المشاعر الوطنية الجارفة فتركل بلطف بعض اللواءات الذين يعرفون أكثر من اللازم.
لكن الأهم أن تنمي روح الخوف منهم والكراهية لهم من أفراد الشعب مثلما فعلت أنا عندما تركت ضباط الشرطة يُنَكّلون بالمواطنين، ويرتكبون جرائم الاعتداء على الكرامة، ويسلخون جلود مواطنينا ورعايانا، ثم تتوجه الاتهامات إلى مباحث أمن الدولة وأجهزة المخابرات وغيرها من الجهات الأمنية الوطنية.
مبارك الثاني: هل يمثلون خطرا علي في المستقبل؟
مبارك الأول: نعم، في حالة واحدة وهي تحالفهم مع الجيش والشعب في الوقت عينه، وتنامي روح الوطنية الجارف.أما الغضب الشعبي فأنا نجحت فيما لم يتمكن منه أي حاكم أو طاغية حكم أرضَ الكنانة في الخمسة آلاف عام من عمر وادي النيل. لقد تمكنتُ بمهارة فائقة من التسلل خفية إلى النفس المصرية، وعبثت في أزرارها، وغيرت في قواعد سلوكياتها، وأخرجت إلى السطح اللامبالاة والخوف والجُبن وثقافة التسول والقسوة وبعد ثلاثة وعشرين عاما من حكمي ظهر المشهد المصري الجديد كأنه لا يَمُتّ لأصالة وعمق وتاريخ وجذور وحضارة هذا الشعب.
تحدث الآن مع مصري مغترب أو عربي عاشق لهذا البلد، ودعه يحكي لك عن انطباعاته منذ وصوله مطار القاهرة الدولي وحتى عودته إلى مهجره أو بلده.
ستعرف آنئذ أن والدك قام بتكسير وتهشيم وتدمير الشخصية المصرية، وغَيّرْتُ ملامحها، ورسمتُ البؤسَ عليها، وألصقت الخوف بأوصالها.
لا تخف، ولدي العزيز، فالمصريون لن يثوروا قبل صعود البطل الجديد على خشبة المسرح، وقد يكون من الجيش أو المخابرات أو أمن الدولة.
البيان رقم واحد لا يعلم إلا الله متى وأين وكيف سيُعْلَن على الملأ.
المصريون ينتظرون بصبر نافد قيادة جديدة تنهي حكمنا المباركي الشريف، وتعيد السلطة إليهم، وتفضح عورات نظامنا، وتفتح ملفات جرائمنا، ونحن لن نمكنهم من اكمال حلمهم، ولو اضطررنا لارسال الالاف منهم لمقابر جماعية أو نكدس كل السجون والمعتقلات بكل صاحب صوت ينطق أو يعبر عن أحلام المصريين وآمالهم وتمنياتهم بزوال نظام حكم مبارك وأسرته.
مبارك الثاني: إنك تخيفني، والدي العزيز، بدلا من أن تدخل الطمأنينة إلى قلبي، فأنا لست على استعداد للوقوف متهما أمام محكمة الشعب.
ولا أستطيع أن أتخيلك واقفا في قفص الاتهام، فملفُك، أبي الحبيب، متضخم حتى الانفجار، وبامكان أي قاض أو مستشار متمرس أن يستخرج منه آلافَ التجاوزات والأخطاء والسلبيات والجرائم أو الصمت عمدا على جرائم مافيا عهد أسرتنا المباركة ولن تفلت من حكم صارم وقاس وغليظ يكون عبرة لكل زعماء العالم الثالث.
مبارك الأول: لا تخف فالمصري يتحمل صبر الأنبياء، وعذاب القديسين، وجبالا من القهر، ثم تشتري صمته وسكوته ومزيدا من صبره عندما تقنعه بالخوف من المجهول، وبأن المستبد الحالي أكثر شفقة عليه من حاكم عادل لم يره بعد.
إن وقوفي خلف قفص الاتهام في محكمة شعبية لن يحدث حتى يلج الجمل في سَمِ الخْياط.
تأمل، ولدي العزيز، في الحراسة التي تحيط بي. إنها دولة داخل الدولة، وجيش عرمرم من الأمن والاستخبارات والمرشدين وكلهم يُكَوّنُون هرما قاعدته تمتد مع عشرات الآلاف من الأمن المركزي وشبيبة الحزب الوطني وأعضاء مجلس الشعب واعلاميي الصحف القومية ، الأهرام فقط بها 2000 صحفي.
نعم فمصر تغلي فوق بركان ألهبت حِمَمَه سنواتُ عهدي، لكنه لن يثور الآن، وقد يمتد لأجيال ثم يهدأ عندما يدب اليأسُ في نفوس المصريين، وتتحول الطبقةُ الدنيا بملايينها إلى خدم وعبيد أقصى أمانيها أن يلقي إليها رجالنا بفتات الخبز أو بقايا ما تستغني عنه حيتاننا.
مبارك الثاني: هل الدرس الذي لقنته للممدوح حمزة وعبد الحليم قنديل كاف لتخويف الآخرين؟
مبارك الأول: دروسنا لا تتوقف، فإذا ظننت أن الشعب هاديء دون أن تُلوّح بعصا الطاعة فقد كتبتَ نهايتك بيديك.لهذا، ولدي العزيز، كلما هدأ الحديث عن حقوق الانسان المصري وكرامته، خرجتْ من أحد أقسام الشرطة جثةٌ لمواطن قضى تحت التعذيب مع ضمان كامل مني لمعذبيه من ضباط الشرطة بأن لا يُقَدَموا لمحاكمة أو تُوَجَّه لهم كلمة عتاب واحدة، ولا مانع بين الفينة والأخرى أن نبحث عن كبش فداء حتى يتمكن رجالنا في بلاط السلطة الرابعة من الكتابة عن القصاص العادل من ضباط الشرطة الذين يتجاوزون حدود مهمتهم في خدمة الشعب.
مبارك الثاني: هل سنتعرض لضغط أمريكي من أجل اقامة انتخابات حرة، وترشيح أكثر من منافس، والافراج عن المعتقلين، وتوسعة مساحة الحرية؟
مبارك الأول: أمريكا لا تطرد رجالها أو تتخلى عنهم ما داموا قادرين على تأدية الخدمات بأمانة.إن السياسة الأمريكية لا يرسمها رُسُل أو أنبياء أو حتى مصلحون مثاليون، وأمريكا وقفت دائما مع العصابات والمجرمين باستثناء حالات خاصة ونادرة مثل تحرير دولة الكويت والفضل في هذا يعود إلى تكاتف الكويتيين والتفافهم في جدة حول شرعية آل الصباح في المقر المؤقت على الأرض السعودية.صدام حسين كان صناعة أمريكية، والمجاهدون الأفغان تدربوا على أيدي أجهزة استخبارات أمريكية، واياد علاوي صناعة أمريكية أيضا.
الولايات المتحدة تتخلى عمن تم استهلاكه، واعلامها قادر على رسم الفضيلة في بيت للبغاء، أو جعل عاهرة قديسةً يحج إليها المؤمنون برسالة البيت الأبيض.
هكذا تحول العقيد من ارهابي مطلوب لكل محاكم الدنيا إلى رجل أمريكا في شمال أفريقيا متفوقا على زين العابدين بن علي وعبد العزيز بوتفليقة والراحل الحسن الثاني.
واشنطون لن تتخلى عني وعنك مادمنا قادرين على تأدية الخدمات المطلوبة.
وأنت رأيت بنفسك عندما قمتَ بزيارتهم أن الجميعَ تعامل معك كرئيس مصر، وكذلك فعل توني بلير وجاك شيراك.
المهم أنْ تُردد صدى ما يلفظ به سيد ُالبيت الأبيض، فإذا تحدث عن الارهاب والقاعدة والتطرف الاسلامي وحماس وحزب الله، فما عليك إلا أن تشن حملة اعتقالات تجعل السفير الأمريكي في القاهرة يبعث رسالة عاجلة إلى سيدنا هناك بأن كل الأمور تسير على ما يرام.
مبارك الثاني: هل فكرت في منح الأقباط حقوقهم الدينية والمواطنية؟
مبارك الأول: أحذرك، ولدي العزيز، من فتح ملف الأقباط فهو شائك.
لقد تعمدت اهمالهم، وتركت أحيانا قوى التطرف تؤذيهم وتسرق محلات تجُاّرهم وتحرق بعض كنائسهم، وعلّمْتهم درسا في الكشح، وانتهى التحقيق المفتعل إلى تبرئة المتطرفين المسلمين.
أما تعيين قبطي في منصب وزاري سيادي فهو غير وارد على الاطلاق على الرغم من أن الإسلام منحهم كل حقوق المسلمين، ومصر وقّعَتْ على وثيقة حقوق الانسان العالمية.
مبارك الثاني: أشعر بأنك، والدي العزيز، تركت لي حكما أوهن من بيت العنكبوت، وأن العبيد سيثورون ويتمردون ولن نستطيع أن نهرب من غضبة عارمة تهز، وربما تكسر كل أوتاد يرتكز عليها نظامنا.
مبارك الأول: لا ترتجف، ولدي العزيز، وتماسك قليلا فقد علمتني التجارب أن ذاكرة المصريين أضعف من نظام حكمي.
ذاكرة المصريين الضعيفة هي قوتنا في الاحتفاظ بالسلطة. إنهم يتظاهرون من أجل الحجاب في فرنسا، ومحاكمة سلمان رشدي وتسليمة نسرين، وربما احتجاجا على رسم كاريكاتيري في مجلة هندية، لكنهم سرعان ما يعودون إلى طبيعتهم الأيوبية صبرا لا تتحمل شطرا منها شعوبٌ كثيرة في العالم.
هنيئا لك، ولدي العزيز، بقرب وصولك إلى القصر الجمهوري، وسيأتيك المصريون أفرادا وجماعات يؤدون قَسَمَ الخنوع والطاعة.
أما الغليان المصري فربما يكون فوق بركان هاديء.
أوسلو في 19 نوفمبر 2004
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)