كان الرئيس حسني مبارك جالساً في مكتبه الفاخر بقصر العروبة يقرأ في هدوء مقال لرئيس تحرير الأهرام بعدما انتهى من قراءة آخر لرئيس تحرير روزاليوسف.
ظهرت ابتسامةُ الرضا على مُحيّاه، ورفع رأسَه ثم إدار وجهه ناحية النافذة وجال ببصره وكأنه يجمع في خياله في لحظة واحدة كل أحلام وسطوة القوة لست سنوات قادمات.
فجأة سمع الرئيسُ حركةً في غرفة المكتب فالتفت ليرى بجوار الباب إبليسَ متقدما في اتجاهه دون أن ينظر إليه، ثم سحب مقعدا بمسندين وجلس بهدوء.
لم يضطرب الرئيس حسني مبارك أو تزداد دقات قلبه فهو قائد سابق للطيران، وحاكم لسبعين مليونا، وبطل اسكواش، ورابط الجأش في أحلك لحظات الخطر حتى عندما رأى الموتَ بأمّ عينيه مرات كثيرة .. في الطريق من مطار أديس أبابا، وفي المستشفى بميونيخ، وفي عدة محاولات انقلاب فاشلة قضى عليها ولفها صمتُ القبور.
نظر الرئيس إلى إبليس نظرة متفحصة فهو يعرفه جيدا، ثم قال له:
ما الذي جاء بك في هذه الساعة المتأخرة من المساء؟
إبليس: جئت لأحُذّرَك فقد عرفتُ أن قوىَ الخير والحرية تُصعّد معارضتها لك، وأخشى عليك أن تتوب إلى الله، وتفرج عن المعتقلين، وتنهي معاناة رعيتك، وتبدأ حملة مطاردة الفساد!
الرئيس: أحمق أنت أم ساذج؟ لقد كانت الفرصة أمامي عندما اختبرني رب العرش العظيم، وطرق عزرائيل البابَ عدة مرات وأنا على فراش المرض في ميونيخ، ولما شفيت عدت إلى مصر وأنا أكثر إصرارا وتشددا وتمسكا بالسلطة والسطوة ولم يدر بذهني قط أن أكون رحيما أو رؤوفا أو متسامحا مع هؤلاء المصريين!
إبليس: لقد بذلت جهدا كبيرا معك، وقدمتُ لك طوال أربعة وعشرين عاما مساعدات لا حصر لها جعَلَتك تدوس باطمئنان على رقاب سبعين مليونا أو يزيد؟
الرئيس: في الحقيقة فإن الفضل فيما أصاب بلدي ورعيتي يعود إليّ وحدي، أما أنت فدورك ثانوي!
إبليس وقد تطاير الشرر من عينيه وضرب على حافة المكتب بقبضته: ذاكرتك ضعيفة أيها السيد الرئيس، فبصماتي واضحة على ولاياتك الأربع أذقنا فيها شعبك كل أنواع الذل والمهانة.
هل تظن مقالات تدبيج المديح والنفاق والتزلف لك من كبار الكُتّاب والمثقفين خوفا منك أم حبا فيك؟
إنها تحمل توقيعي بجانب اسم كاتبيها وناشريها.
هل تظن صمتَ وسكوت وخوف المصريين من التمرد والانتفاضة ضدك نتيجة طبيعية لقوتك وسيطرتك الأمنية؟ إنها ايعازات مني لكل واحد على حدة بأن عذابا مقيما من جحيم سَعَر ينتظره على أيدي جلاوزة الأمن في عهدك فركن الجميعُ، إلا ندرة قليلة، لسكون مطبق وساقية تجر في روتين بطيء حياة المصريين من المهد إلى اللحد!
الرئيس: لكنك كنت توسوس لي ثم تتركني وقتا طويلا بمفردي أذيق أبناء شعبي مُرّ الحياة المهينة وأجعل زيارة عزرائيل لملايين منهم رفاهية لا يحلم بها أكثرهم تشاؤما!
كنت تطلب مني تقديم بعض المصريين على مذبح التعذيب والاغتصاب وانتهاك الحرمات في أقسام الشرطة ليسري الخوف بعدها في أوصال بقية أبناء شعبي، لكنني جعلت انتهاك كرامة المواطن عملية روتينية تجري في معظم أقسام الشرطة في طول مصر وعرضها، بل إنني إمعانا في اثبات قدرتي على منافستك قمت بتكريم ثلاثة ضباط متهمين بتعذيب مواطنين أبرياء في تخشيبات الرعب وغرف القهر والقمع.
كنت تحرضني على النكث بالوعد في نهاية ولايتي الثانية، والآن تفوقت عليك وأنا في ولايتي الخامسة ومريض اثباتا وتأكيدا أنني السيد المطاع ولستُ في حاجة إليك، ولو تخليت عني لما تغير الأمر كثيرا.
إبليس: أنت ناكر للجميل، ولو نظرت حولك لوجدت استمرار حكمك بفضلي أنا! هل تعرف أن لي مقعدا ثابتا في مكاتب كبار المثقفين والكتاب والاعلاميين، وعندما تمرر عينيك صباح كل يوم على مقالات تعدد انجازاتك ومكتسبات الشعب وتزيف الواقع فهي ممهورة بهمساتي في آذان كبار مثقفي بلدك.
لماذا لا يجتمع رؤساء الأحزاب الكبرى والجماعات المناهضة لحكمك على كلمة سواء في حب مصر؟
لأنني أقف لهم بالمرصاد، وأجعل كل فئة أو طائفة أو جماعة تظن أنها صاحبة الحق في تولي السلطة بعد غيابك. إنني أجعلهم يخشون عيون أمنك، ويشعرون باحباط شديد، ويعقدون الأمل على لجوئك إلى الملائكة بدلا مني لعل قلبك يرق لرعاياك، وينفطر حزنا لآلامهم، وينزل اللهُ سَكْينته عليك.
لقد قدمتُ لك دعما معنويا وأدبيا لم أقدمه من قبل لأيّ زعيم مصري في العصر الحديث!
معظم رجالك ووزرائك ومحافظيك وأعضاء مجلس الشعب والشورى تربطني بهم علاقة عاطفية شديدة، يطيعونني، ويغضون الطرف عن الفساد، ويكرهون الأمانة، وينافقونك، ويتزلفون إليك، ويقومون بتزوير أوراق وطن كاد يشهر افلاسه.
الرئيس: لا أنكر دورَك في اقناعي بالاحتفاظ بأكثر الفاشلين، وبادخالك الطمئنينة إلى قلوبهم بأن الفشل والتراجع والفساد والنهب والسرقة والهبر والاجرام كلها أمور لا يكترث لها رئيسهم ماداموا مطيعين كالخدم، وجبناء كالفئران، وجشعين كأَشّعَب، لكنني كنت أراقبهم، وأوحي لكل منهم بأن الولاء لي قبل الوطن، وأبتهج لتملقهم إياي ليلا ونهارا، حقا أو كذبا.
إبليس: هل تعرف أنني أسبغت عليك حمايتي من غضب الشعب عندما تخفيت في صورة العقلانية والصبر الممزوج بالخوف من قبضايات أمنك وجعلت مواطنيك يمارسون أقصى درجات السلبية، ويتهكمون على المناهضين لحُكمك، ويسخرون من معارضيك، ولا يكترثون لطوفان يرونه رؤي العين وهو يقترب من ديارهم وأنفسهم وأهلهم وأولادهم؟
الرئيس: هذا ليس صحيحا بالمرة فأنا في أربعة وعشرين عاما صنعت العبودية المختارة، وجعلت لذة الذل أشهى طعما من الشهد، بل إنني تركت آلاف المعارضين يناهضون حكمي في صحافة يقرأها أبناء شعبي ثم يلقون بها خلف ظهورهم لأن الأمل مفقود تماما في استبدالي أو العثور على مصري واحد يأتي من بعدي ويحل محل ابني جمال الذي أصبح سيد المصريين رغم أنوفهم.
إبليس: ظنونك من هوى الغرور، سيدي الرئيس، لأن استمرارك مرهون بوجودي الدائم في مجلس الشعب، ومقعدي الثابت بجوار رئيسه الدكتور أحمد فتحي سرور فهو الذي سيطيعني ويعصي الله والضمير والايمان وحب الوطن ليعلن ترشيح أغلبية أعضاء مجلس الكيف والقروض والفساد والأميّة لابنك سيدا فوق رؤوس المصريين لست سنوات عجاف.
الرئيس: لعلك نسيت، صديقي العزيز، أن الملائكة لم تعد تنزل على قلوب الكثيرين كما كانت تفعل من قبل مما سهّل مهمتك، أما أنا فأضرب بعُرض الحائط كلَّ القيم والمباديء والمُثل والأخلاق، وأجدد قانون الطواريء، وأرفض الافراج عن المعتقلين الأبرياء، وأطرب كلما أفرغ لصوص عهدي بنكا أو شركة أو مصنعا يملكه عرق الشعب، ويخرج اللصوص من مطار القاهرة الدولي كأنهم أسياد سامسوناتية ترفع رؤوسَها بوقاحة وتبصق مثلما أفعل في وجوه الناس التي تنتظر ملائكة مُسَوّمين ترسلهم العناية الالهية.
إبليس: لكنني أفَرّق المعارضة، وأجعل قوة أحزابهم وجماعاتهم ضعفا يتخفى خلف إدارات فاشلة، أو مساومات على ثمن السكوت، أو خشية وثوب واحدة منها على كرسي الحكم.
الرئيس: لعلك تشير إلى المظاهرات التي تندلع في كل مكان، ثم تذوب كما يذوب لوح الثلج في صيف حار يزيد عذابات المصريين، أليس كذلك؟
إبليس: إنني، سيدي الرئيس، عملت أوفر تايم في فترة ما قبل اعلانك ولايتك الخامسة على الرغم من أنك صفعت المصريين كلهم على أقفيتهم وأنت تعلن في قناة العربية أنك لا تستطيع أن تترك السلطة في أي حال من الأحوال، فضاعفت من تكبرك واستبدادك وتحديك لمشاعر شعبك جهدي في تخفيف الأمور عليهم، واقناع قوى الزيف والنفاق بالتحرك السريع فكانت زيارتك لمحافظة الدقهلية واعلان صحيفة الأهرام أن خمسة ملايين مواطن استقبلوك بالتأييد طالبين منك الترشح لولاية خامسة قبل أن يعلنها مجلس الشعب، والحقيقة أنني كنت في زيارة مفاجئة للصحيفة القومية الكبرى والتي نادرا ما تقوم الملائكة بزيارتها في عهدك، وساعدتُ بخط يدي في كتابة بيان الإفك والزور بدلا من قول الحقيقة وهي أن مستقبليك كانوا سبعين ألفا من رجال الأمن لحمايتك من شعبك.
الرئيس: لا أريدك، عزيزي الشيطان، أن تغضب مني أو تعاتبني فنحن نستعد لأكبر تحالف وتعاون بيننا منذ أن توليت حكم مصر بعد مصرع الرئيس أنور السادات.
هل تعرف أن تصعيدا من حزب العمل ترافقه جرأة شديدة لدى الناصريين، وتحركات من كفاية، ومحاولات استقطاب الجماهير تقوم به الجبهة السلمية لانقاذ مصر، وتعاطف من الوفد والشيوعيين واليساريين والمستقلين مما قد يجعل مهمتنا أكثر صعوبة؟
إبليس: لا تكترث لهم أو تهتم باستعراضاتهم فأنت في مرضك الشديد واستعداد عزرائيل صديقي سابقا، أي قبل أن أتحدى الأمر الالهي وأرفض السجود لمن خلقه الله من طين، لزيارتك في خاتمة محاولاته التي أمد الله لك في العمر بعدها عدة مرات لعلك تتوب وترفع الظلم عن أبناء شعبك، أكثر قوة من قبل، وستأتيك مصر طائعة مختارة، وستركع تحت أقدامك ملايين، فأنت تملك بين يديك أرواح شعب يستعذب الهوان ويغتبط بالظلم الواقع عليه.
الرئيس: حتى أنت، أيها الشيطان الرجيم، تخشى يقظة الشجاعة والنبل والخير والضمير والوطنية، وتشكك في وقوفي فوق رؤوس المصريين ما بقي لي من عمر ليكمل المهةَ ابني ووريثي جمال مبارك!
إبليس: دعني أتركك الآن فلدي عمل كثير، وأمامي مانشيتات الصحف الكبرى، وزيارات لأقسام الشرطة، وتجميع مئات الآلاف من المغيبين والمخدَرين والخائفين والساذجين والبلهاء من شبيبة الحزب الوطني، ومهمتي في اقناع المصريين بأن جمال مبارك أفضل من المجهول، وأن لا فائدة في حريتهم، وأنهم لا يساوون جناح بعوضة، وأن ابنك قادم لا محالة لاستحمارهم واستغفالهم وقهرهم وقمعهم.
وخرج إبليس بهدوء وعلى وجهه علامة الرضا، وكانت الملائكة تحلق فوق القصر ظنا منها أن الرئيس سيتوب إلى العلي القدير ويرفع الظلم والجور والعذاب عن شعبه، لكنه اختار طريقا آخر لا رجعة فيه.
أوسلو في 22 يناير 2005
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)