حوار الإذعان ومفاوضات القطاعي .. إلى متى؟
مصعب المشرّف:
منذ أبوجا الأولى التي راهن بها النظام منذ سنوات طويلة . مروراً بما تلاها من أبوجات فاشلة ونيفاشا كسيحة ؛ ثم دوحات وأديسات لم تغني أو تسمن من جوع إلى السلام . فإن السؤال الذي يطرح نفسه مباشرة هنا هو :
إلى متى تشغل الحكومة نفسها والناس بمفاوضات سلام فانتازية بالقطاعي غير مثمرة ، لاتصنع سوى الفشل ، ولاتنتج سوى المزيد من تشظي فصائل الحركات المتمردة ؛ ثم تناسلها وتكاثرها في الخفاء ؛ لتخرج مستقبلاً مرة أخرى إلى العلن بأكثر عدداً ورؤى ومطالب عن ذي قبل .... مما يعني أن تضطر الحكومة لاحقاً إلى التفاوض مع أضعاف من تتفاوض معهم اليوم بالقطاعي.
تكاثر حلقات هذه السلسلة المعارضة المسلحة لن يكون أبداً في مصلحة السلام أو الحكومة .. فهو قد أدى وسيظل إلى إستحالة التوصل إلى حلول إستراتيجية قابلة للتطبيق طويلة المدى ، لاسيما وأن التدخلات الأجنبية السالبة ووعودها المغرية للبعض من قيادات هذه الشظايا والفصائل ؛ تشجع دائماً على خروج هؤلاء عن الجسد الأصلي الجامع للحركة ... كما أن طبيعة الأرض وتفاعل وإمتزاج الفصائل المسلحة مع بيئتها المحلية تتأسس وتنبني على الولاء القبلي والعنصرية العمياء المتبادلة جيئة وذهابا بين الفصيل وقاعدته القبلية العريضة ؛ بغض النظر عن المنطق والعقل .... وأحياناً أخرى يظل الخوف معشعشاً لدى القاعدة الإجتماعية لهذه الفصائل من مغبة الإنتقام منها أو الإستهانة بقوتها المسلحة الرادعة وما يؤدي إليه من إستباحة وإغتصاب ، وإهدار للكرامة وحرق المساكن ومصادرة للأموال والممتلكات داخل حمى القبيلة... ومن ثم يبقى التزود بالسلاح والذخيرة هو وحده الملاذ الآمـن الذي تضطر إليه هذه القبائل ....
وفي خضم كل هذا الحراك من العنف المسلح المشار إليه أعلاه المصحوب بإنعدام الثقة بين كافة الأطراف المتنازعة ؛ فلا يستطيع أحد (خلا المنافق) أن يبريء الحكومات في الولايات والمركز من المسئولية. ويلقيها على كاهل المعارضة بأشكالها المختلفة الشرسة منها والمستأنسة.
وفي جانب مضاعفات الفشل الذي لازم مفاوضات التجزئة نرى المؤتمر الوطني الحاكم يجد نفسه اليوم محاطاً بالشكوك والإتهامات بعدم الجدية .. وأن الغرض من دخوله مثل هكذا مفاوضات إنما هو أولاً وأخيراً ذر الرماد في العيون ، ومحاولة محفوفة بالمخاطر لكسب الوقت ؛ سعيا للحصول على مزيد من فرص الإرتقاء والبقاء لمدد أطول على كراسي الحكم.
ولكن إلى متى يستمر تكسير الدقائق والثواني . وكل يوم جديد يؤكد أن هناك لاعبون جدد من الخارج ينزلون إلى الملعب . والبعض الآخر يشمر عن ساعد الجد للدخول كبديل يؤدي إلى التعقيد والتشعيب ويعيد كافة الأمور إلى المربع رقم واحد؟
إن أكبر الأخطاء التي لازمت أداء الوفد الحكومي في جلسات مفاوضات السلام مع الحركة الشعبية شمال في أديس أبابا مؤخراً ؛ أن رئيس الوفد الحكومي قد ذهب إلى هناك للقاء ياسر عرمان بقناعات غير منطقية .. أو كأنه ذاهب للإجتماع بأحد الولاة وقادة حزب المؤتمر الوطني في الأقاليم .. وبما يظن به هذا الوفد الحكومي أنه ذاهب لتوجيه أوامر وتعليمات . ولن يحتاج من ياسر عرمان سوى السمع والطاعة والتصفيق الحار ، ورفع السبابة المصحوب بترديد شعارات من قبيل "جاهزين جاهزين لحماية الدين".
لقد هوّنت بعض أمانات المؤتمر الوطني وقادته من التصريحات الأمريكية والأفريقية النافذة مؤخراً . والتي أعلنت من جانبها فشــل مباحثات وإتفاقيات سلام الدوحة ، وبما يعني عدم إعترافها بما نتج عنها من ثـمـار ....
التهوين والإستهزاء بهذه التصريحات والقناعات الأمريكية والأفريقية النافذة ليس من المصلحة في شيء .... والظن بأن مثل هكذا تصريحات لن يكون لها مفعول على الأرض ؛ إنما هو سوء تقدير ولا مبالاة تصب في خانة الإستهتار أوالغيبوبة في أفضل الأحوال.
إن خطورة هذه التصريحات الأمريكية والأفريقية النافذة تكمن في أنها بشكل أو بآخر تؤدي إلى تريث دولة قطر من تفعيل وعودها بضخ مليارات الدولارات لتكريس السلام على الأرض في دارفور .. وتؤدي دون شك إلى إحجام الدول المانحة عي المساهمة بتقديم الأموال التي خرج بها "مزاد" المانحين في ختام مؤتمر الدوحة... نحن اليوم نعيش عصر العولمة والقطب الواحد ... وقد ذهبت أيام جيفارا وكاسترو إلى صفحات التاريخ ... ومن لا تصادق عليه الولايات المتحدة وتمهره بأختامها لن يجد إعترافاً أياً كان ولن يكون قابلاً للتطبيق بأية حال من الأحوال.
ثم أن الإعلان الأمريكي يقدح بشكل آخر في مصداقية مزاعم حزب المؤتمر الوطني ، وبعض حلفائه من أحزاب الفكة الدائرة في فلكه لجهة زعم هؤلاء بأنهم قادرون على فرض وإيجاد حلول سودانية خالصة لمشاكل البلاد دون حاجة لتدخل خارجي.
إن مثل هكذا مقولات تجعل المرء يستاءل إبتداءاً عن ماهية الإمكانيات المالية التي تمتلكها الحكومة من موارد البلاد وبما يكفي لفرض حلول محلية دون حاجة لعون خارجي ؟ .... وطالما كان الأمر كذلك فلماذا إذن توجهنا إلى الدوحة لإستضافتنا وتبنينا . وعقدنا إنفاقيات وتوسلنا إعانات ، وسعينا إلى عقد مؤتمر للدول المانحة؟
ثم أنه ومن جهة أخرى يحق للبعض أن يتساءل عن ماهية الآليات التي تمتلكها الحكومة وكذلك المعارضة لوضع هذه الحلول الذاتية (إن وجدت) موضع التنفيذ وفرضها على أرض الواقع ؟ ....
وطالما كان الأمر كذلك فلماذا جيء بقوات اليوناميد إلى دارفور أصلاً؟
الجبهة الثورية
لا محرج لحزب المؤتمر الوطني والبلاد إذن ؛ إلا بمؤتمر مصالحة جامع تدعى إليه كافة الأحزاب والفصائل المسلحة التي أثبتت يوما عن يوم أنها فاعلة على الأرض .. وأنه لا سبيل إلى التعامل معها بالتجاهل تارة ، والتهديد والوعيد تارة أخرى ... أو خيار الإنفصال في ستين .... لا بل وهي التي لم ينفع فيها حتى التوسل خلف أبواب غرف إجتماعات قيادات الوفود المغلقة.
ثم أننا إذا فرضنا جدلاً صدق المفاوض الحكومي بأن الحركة الشعبية في محتواها الفردي أو الجبهة الثورية في وعائها الجامع ؛ ترزح مكبلة تحت أغلال الأجندة الخارجية المشبوهة ، والمنافع المالية والمادية الذاتية لقيادتها ..... فإن أفضل ما يعالج هذه الجدلية وينفي عن حديد الجبهة الثورية الخبث هو دعوتها لتكون جزءاً من هذا المؤتمر الوطني الجامع بأجندة معلنة ؛ حتى تقول كلمتها للتاريخ علنا أمام أنصارها والشعب السوداني والعالم أجمع .... فإما أن تبريء نفسها أو تنكشف فتغوض في لُـجّـة العُـزلة ... وعندها يكون المؤتمر الوطني في حِلٍ مما تتهمه به هذه الحركات المسلحة ، وفي حِـلٍ من أمره ....
إن الذي يغيب عن ذهن بعض نواب ومستشاري الرئيس ؛ ثم وقيادات في أمانات حزب المؤتمر الوطني ... الذي يغيب عن ذهنهم أن إستعراض العضلات وشروط الإذعان في الدوري المحلي .. ثم وبذل العطايا والهبات ما بين حين وآخر ؛ إن كان يجدي مع دجاج أحزاب الفكة حتى الطيش .... ثم مع الأحزاب التقليدية المسالمة المستأنسة في العاصمة المثلثة التي ترفع لافتات دعوني أعيش ....... فإن الذي يجب على هؤلاء وضعه في الحسبان هو أن الإنسان الأفريقي يعيش على واقع أن الذي يحمل العصا يظل هو الوحيد الذي يستحق الإنصات ..
والواقع الساطع كالشمس في كبد السماء أن الجبهة الثورية تحمل العصا .. وأنها تحصل على السلاح والمال ، وتجند الشباب وسط القيزان والشعاب والأدغال بنفس السهولة التي يحصل بها قادة دراويش الأمة ، وحيران الختمية ، وأكياس الفـكّة الثالثة الأخرى على الأقلام التي يوقعون بها خوفا وطمعا على شروط الإذعان ؛ ومنتجات حوار الطرشان ، ومفاوضات التجزئة على طاولات المؤتمر الوطني ذات التصميم المشابه للحرف اللاتيني U.
إن السياسة تظل دائما فن الممكن .... والشاهد أن الأحداث الخارجية المؤثرة على السودان مباشرة قد تسارعت مؤخراً وبشكل فاجأ الجميع بما لم يكن في الحسبان .. ومن ثم فإن فن الممكن والعقل يقتضي التسليم بواقع أن حكومة المؤتمر الوطني لن تتمكن من السباحة عكس التيار الداخلي والخارجي معاً مسافة طويلة مستقبلاً في ظل وجود مسلحين أقوياء في الداخل . وحصار أثرياء ونافذون جداً من الخارج ....
هل ترى ستحتمل خزينة حكومة المؤتمر الوطني المفلسة تكاليف مدخلات النزاع الباهظة في كافة الجبهات الداخلية والخارجية ؛ وحيث من المتوقع تزايد وتكاثر الأعداء والخصوم من حولها؟
وهل تمتلك هذه الحكومة وحزبها الآليات والإستعداد الذي يُمكّنها من مواجهة مغبات مخرجات صناعة الفشل إن هي تابعت أشباح خيالاتها بإمكانية فرض إملاءاتها على الجميع القريب منهم والبعيد ، في الداخل والخارج ؟
الله أعلم ... وفوق كل ذي علم عليم.
التعليقات (0)