يجري الحديث كثيرا اليوم عن مقولة "حوار الأديان"، كمنتوج مقولاتي جديد بعد مقولة "حوارات الحضارات" لروجي جارودي و مقولة "صراع الحضارات" لصاموئيل هنتنجتن التي عادت إلى الواجهة بعد الترويج لها من قبل الكثيرين الذين سارعوا إلى وسم مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر و حرب أفغانستان و العراق بصراع حضاري بين الغرب والإسلام. إن كل هذه المقولات التي راجت بشكل كبير في العقود الأخيرة هي من إنضاج الفكر الغربي الذي يفرض كل مرة وحين من الأفكار والشعارات ما يناسب وضعه الاستراتيجي والأيديولوجي في إطار الحضارة الغربية، والحديث عن مقولة "حوار الأديان" يحفزنا على العودة لبعض من نظروا الغربيين ودافعوا عن هذه الأطروحة كعالم اللاهوت الألماني هانس كينغ (Hans Kung)حين قال: "لا حواربين الحضارات بدون سلام ولا سلام بدون حوار بين الأديان"، والكاتب و المفكر الفرنسي أندريه مالروعندما أكد بأن "القرن الواحد والعشرون هو قرن الأديان" و المؤتمر الخامس لحوار الأديان الذي انعقد بالدوحة مؤخرا، يندرج في سياق تفعيل المنتوج المقولاتي الجديد و تضبيب صورة الراهن بما يخدم إستراتيجية الغرب الأمريكي في التمويه على مطامعه و تطلعاته ومخططاته السائر في تنفيذها بالمنطقة العربية. إن اللغط و الصخب المرافق لطاولات الحوار الخشبي بين الديانات السماوية الثلاث لا مبرر له، و الانتظارات المرجوة من البيانات الختامية لهذه اللقاءات و المؤتمرات و الندوات لابد أن تكون مخيبة للآمال، و كل الذين يروجون لنبرة التقارب و القواسم المشتركة و نقط الالتقاء إنما يبيعون الدجل و الزيف و يغالطون أنفسهم قبل أن يغالطوا غيرهم. لذا وجب التوقف عند مقولة "حوار الأديان"، لطرح الأسئلة التالية: ما المقصود بحوار الأديان؟ لماذا يهرول كثيرون إلى الجلوس على طاولات الحوار في هذا الوقت بالذات؟ هل حوار الأديان جاء بديلا لصراع الحضارات؟ ما الفائدة من إطلاق حوار بين الأديان؟ ما هي ضمانات نجاح هذا الحوار بعد فشل كثير من المحاولات؟ هل الأديان الثلاث مستعدة للتحاور فيما بينها؟ هل نقط الالتقاء قادرة على تجاوز مثبطات نقط الخلاف؟ ألا يفترض في الأطراف المتحاورة الاعتراف ببعضها البعض أولا قبل الجلوس للتحاور؟ إن الحديث في الآونة الأخيرة عن الجلوس للتحاور بشأن القواسم المشتركة بين الأديان الثلاث، و التي يعنون بها الجوانب الروحية، دليل قاطع على فشل هؤلاء المتحاورين في الوصول إلى نتائج مرضية في المؤتمرات السابقة، و مرد الفشل هو اصطدامهم الدائم بنقط الخلاف الدائمة التي يصعب عليهم تجاوزها. و أولى هذه النقط الخلافية هو الاعتراف المتبادل بين الديانات، و هو ما خلص إليه الدكتور محمد عمارة في مقدمة كتابه " مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا "، حين قال: "إن كل هذه الحوارات التي دارت وتدور بين علماء الإسلام ومفكريه وبين ممثلي كنائس النصرانية الغربية، قد افتقدت ولا تزال مفتقدة لأول وأبسط وأهم شرط من شروط أي حوار من الحوارات ؛ وهو شرط الاعتراف المتبادل والقبول المشترك بين أطراف الحوار... موقف الآخرين من الإسلام والمسلمين هو موقف الإنكار، وعدم الاعتراف أو القبول، فلا الإسلام في عرفهم دين سماوي، ولا رسوله صادق في رسالته، ولا كتابه وحي من السماء ... فكيف يكون، وكيف يثمر حوار ديني بين طرفين، أحدهما يعترف بالآخر، ويقبل به طرفاً في إطار الدين السماوي، بينما الطرف الآخر يصنفنا كمجرد "واقع"، وليس كدين، بالمعنى السماوي لمصطلح الدين؟! ذلك هو الشرط الأول والضروري المفقود، وذلك هو السر في عقم كل الحوارات الدينية التي تمت وتتم رغم ما بُذل ويُبذل فيها من جهود، وأنفق ويُنفق عليها من أموال، ورُصد ويُرصد لها من إمكانات!" غير أن هذا الشرط حتى لو توفر يبقى غير كاف في نظر الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقول "حتى أنا وإن اعترفت به إلا أني أعتبر أن دينه باطل، وكل إنسان مؤمن بدينه يرى أنه على حق وغيره على باطل، صحيح الباطل بعضه أكبر من بعض والأمور نسبية فالكتابي أفضل من المشرك والمشرك أفضل من الملحد الذي لا يؤمن بألوهية ولا نبوة، فإنما أنا أعتقد أنه هو على باطل وهو يعتقد أنني على باطل ومع هذا الاعتقاد المشترك بيننا نتحاور لأنه أنا أرى أن اختلاف الأديان واقع بمشيئة الله" و يأتي بعد ذلك السجل التاريخي الحافل بالصراع والتطاحن والاقتتال بين المسلمين و المسيحيين و اليهود، فالذاكرة لازالت تحتفظ بالصدامات الدامية، حيث يقول الشيخ يوسف القرضاوي: حدثت في التاريخ صراعات طويلة أدت إلى أن الغرب صار يحمل روحاً عدائية للمسلمين، طبعاً بدأت هذه حينما أخذ الإسلام بلاداً كثيرة ابتداء من الدولة الرومانية والبيزنطية مثل فلسطين وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا، هذه البلاد كلها كانت تعتبر من ضمن المنظومة الغربية التي كانت تمثلها الدولة البيزنطية في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك حدث صدام أشد مرارة وقسوة وهو صدام الحروب الصليبية جاء الغرب بقضّه وقضيضه وثالوثه وصليبه في تسع حملات صليبية، على بلاد الشرق الإسلامي وأقاموا ممالك في الشام وفلسطين واستمر بعضها حوالي مئتي سنة ودخلوا المسجد الأقصى وأسالوا الدماء حتى غاص الدماء إلى الركب، وقتل عشرات الآلاف وظل المسجد الأقصى أسيراً لمدة تسعين سنة إلى أن هيأ الله.." علاقة جديدة لم تنس الجراح القديمة ولا الآثار القديمة، و ظلت الروح الصليبية، كما قال يوجلد فايز ومحمد أسد وغيره من الناس الذين رصدوا الاتجاه الفكري والنفسي عند الغرب وعلاقته بالمسلمين، قال أن الغرب لا يزال يحمل هذه الروح، ربما السياسيون يحاولون أن يخفوها، ولكن العسكريون يظهرونها، كما قال الليمبي حينما دخل القدس سنة 1917 (اليوم انتهت الحروب الصليبية)، وكما قال جورو القائد الفرنسي عندما دخل إلى دمشق وذهب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وقال له (ها قد عدنا يا صلاح الدين)، فهم لم يتخلوا، نحن نطالبهم بذلك، نطالب الغرب بأن يتخلى عن أحقاده، يعني الاستعمار كما قال الشيخ الغزالي – رحمه الله – له كتاب عنوانه "الاستعمار أحقاد وأطماع" فهو أحقاد قديمة وأطماع جديدة. فلنتصور كيف يجري الحوار و يسير باتجاه حصد نتائج مرضية لكل الأطراف، في ظل ما ساد داخل دهاليز المؤتمر الخامس لحوار الأديان بالدوحة، و أستحضر هنا سجالا دار بين راكيل يوكلس الأستاذة اليهودية في جامعة فار فيلد الأميركية و الفلسطينية لينا رأفت خلال جلسة "إشكالية الحوار بين الأديان"، حين أشارت راكيل يوكلس إلى وجود كتب كثيرة في العالم الإسلامي "توجه نعوتا قبيحة لليهود" وقالت في هذا السياق "لدي في غرفتي كتاب تقول أول جملة فيه (اليهود أعداء الله والإنسانية ". (فاشتعل النقاش عندما أجرت لينا رأفت إحدى المشاركات مداخلة توجهت فيها إلى الأستاذة الأميركية اليهودية قائلة "ليس غريبا عنكم ان تكرهوننا لأنكم تسبون الأنبياء في كتبكم" ، وأضافت الفلسطينية لينا رأفت إن "احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية قام على أساس ديني وليس على أساس سياسي". فردت راكيل يوكلس قائلة:"إذا أردتم إقامة علاقة مع اليهود في العالم عليكم أن تدركوا بأن معظم اليهود يحبون إسرائيل و ليس بالضرورة الحكومة الإسرائيلية وسياساتها".، فعقبت على كلامها لينا رأفت قائلة: "بأي حق تعيشون في فلسطين فيما لا يمكن لي أن أشاهدها إلا على مواقع الإنترنت؟". إن هذا السجال يبين مدى استحالة إقامة جسور حوار بناء و مجدي بين الديانات، في ظل عدم القطع مع التاريخ الدامي و انسداد أفق إيجاد حلول للأزمات القائمة، إن الحوار في ظل الحروب الدائرة بمنطقة الشرق العربي، و في ظل الاستعلاء الغربي و هيمنته و طموحه إلى تسييد قيمه السياسية و الاقتصادية و الثقافية يبدو غير ممكن، كما يبدو محاولات رخيصة و بائسة للتمويه على جوهر الصراع و حقيقته.
التعليقات (0)