في رؤية استشرافية وبعدسة بانورامية ترصد دعاوي معاكسة حق اللغة العربية في متابعة بنائها الهوياتي والحضاري للأمة العربية والإسلامية، نقف ولو باقتضاب لا يتنصل عن كل اختزال على المسلسل الهوياتي والحضاري مستقبلا، في وقت بات الكل مهوسا إلا من الانتصار للقيم الوطنية، ولعل ميسم ذلك، مس مستمر لعدد من البنى القيمية وعلى رأسها تهميش اللغة العربية. ولكن نأبى إلا أن نظل كائنات أصيلة ومنفتحة لأمة بصمت باللغة العربية الحضارة العالمية فأبدعت علما وأدبا، وأسهمت بقوة في نقش ثوابت هوياتية للملايين لم تزغ عنها لحظة ولا تزال، فكانت ترسيمتنا الثقافية واللغوية قوية، صمدت أيام ضعفنا ولحظة وقوعنا فريسة مستعمر جلاد لا يرحم لكن أبينا فعصينا، ومافتئ المستعمر يناور ويتطاول على أسباب صمودنا فلم يفلح في تطويعنا، أذيالا له، ولعل ذلك ما دفع بالعديدين من مستشرقيه إلى قيادة حملة واسعة النطاق لخلخل الثوابت والتشكيك في مقوماتنا من المعتقد إلى اللغة، بعدما تأتى له تقسيمنا سياسيا بمعاهدة سايس بيكو، فأصبحنا أمماً شتى، لينحو نحو تقسيمنا اللغوي بالدعوة إلى اللغة الفرنسية حيث أوقف عدد كبير من المستشرقين أمثال "ولهلم سبيتا"، و"كارل فولرس" و"لسلدن ولمور" أقلامهم للدعوة إلى اللهجة العامية، والدعوة إلى القوميات والإقليميات الضيقة كالفينيقية والفرعونية، للنيل من لغة القرآن أساس ما يسمونه بالخطر الأخضر.
ولقد كتب كذلك للغة العربية أن يتنكر لها بعض من أبناء جلدتها المغتربين، حتى بات يطالعنا بين الفينة والأخرى دعوات تنقض الركن الركين في رمزيتها الحضارية، بوضعها في قفص الاتهام بالتخلف، وقولبتها في توظيف إيديولوجي سياسي مغترب. وفي هذا السياق الاستلابي أخذت اللغة العربية مشجبا لتخلف وضعف العرب، واستدعيت متهمة رئيسة فيما آلت إليه أوضاع الأمة، بتهم كونها كانت أداة تواصلهم وإنتاج فكرهم وعلومهم.
وإن كانت الحقيقة الساطعة التي لا تحجب بغربال، أن اللغة تتبع أهلها في التطور والتخلف، فمتى كان مجتمع أهلها في دينامية وحراك كانت لغتهم ووسيلة تخاطبهم حية تتمتع بقابلية السيادة، وتمتد مما هو اقتصادي إلى ما هو سياسي. فألم تشر العديد من البحوث والدراسات الاجتماعية والنفسية أن الأمم لا يتأتى رقيها ما لم تهتم بلغتها الوطنية بتعليمها ونشرها وتبويئها موقعا في مؤسسات التعليم والعلم والإعلام، وهو ما تقوم به العديد من البلدان المتقدمة (اليابان) أو السائرة على درب التقدم كالصين، حيث ساوقت تنميتها الاقتصادية والسياسية تنمية لغوية بادية للأعمى والبصير، بعد أن طورت مناهجها التعليمية، باعتماد آخر الابتكارات التكنولوجية. ولعل هاتين التجربتين على سبيل المثال لا الحصر، فيهما ما يصدح بالحقائق الميدانية ضدا على دعاوي التغريبيين ومن لف لفهم وتـاه، الذين يدفعون باللغة الفرنسية بديلا للعربية تارة والناعقيـن بالعاميـة -السـم الزعاف والبهتان المبيـن- طورا، ولم تكن هذه الخرجات حديثة العهد عن اللغة العربية، فكان من دعا إلى تبديل حرفها القرآني بالحرف اللاتيني وإلى تبديلها لغة بالعامية كسلامة موسى وأنيس فريحة حين قال: إن وضع لهجة عربية موحدة سلسة لينة مكتوبة بالحرف اللاتيني يعجل في تحرير الفكر ونقل المصطلحات والتعابير التي لا غنى عنها (أنظر كتابه نحو عربية ميسرة). وهذا هو حال عدد من مؤسساتنا الإعلامية في هجومات سافرة على رمزية هويتنا الإسلامية والعربية، ودعم ظاهر للغة الفرنسية.
ولذلك وجب الحرص على حماية لغتنا من الأخطار الداخلية العامية والخارجية أي من الاستلاب اللغوي الأجنبي غير المحسوب، لأن في الاستقلال اللغوي استقلال سياسي.
ومن المعلوم اليوم أن شيوع العامية التي لا تعدو أن تكون لغة عربية أسقط إعرابها كتابة ونطقا وأغرقت بسيل من الألفاظ الأجنبية والدخيلة، فاستعملت وسيطا للتخاطب ووسيطا للتعليمي في المدارس العمومية، وذاك ما أسهم في أن يتابع التعليم مسار انحداره إلى مستويات قياسية، فارتفعت نسبة الهدر المدرسي وتفشت الأمية. وهذا غيض من فيض مما يمس لغتنا العربية ويلح علينا حمايتها بشتى الوسائل قانونية، تعليمة، إعلامية، علمية...
وهو ما يفرض على الدولة ألا تقف موقف المتفرج، وتعمل على القيام بمسؤوليتها لتبني قرارات تخدم السياسة التربوية عامة وممارستها بالعربية الفصحى على نحو أخص، ومراجعة السياسة اللغوية باستصدار قوانين تحقق أهدافها وتحفظ هيبة لغتها الوطنية.
ومن حق المغاربة كذلك أن يطالبوا بتطبيق بنود دستورهم حين يمسون في جوهر هويتهم، باستعمال اللغة الأجنبية نطقا وكتابة ووثائقيا في إداراتهم العمومية، وحين تمتلئ شوارعهم بإعلانات كبيرة مضاءة ليلا ومنصوبة نهارا أمام كل الأعين ومثبتة في كل الزاويا تحمل دعاية باللغات الأجنبية والعامية ونكاية بالعربية وفي خرق سافر لمنصوص الدستور.
عبـد الفتـاح الفـاتحـي: مستشار الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية في الإعلام والتواصل والشؤون القانون
التعليقات (0)