حماس وجدلية المقاومة والحكم
بلال الشوبكي
العام السادس من الألفية الثالثة حمل في طياته العديد من التحولات إلى الساحة السياسية الفلسطينية، التي أفرزت بشكل تلقائي إشكاليات متباينة ومتنوعة، وبعيدا عن الحالة المأزومة داخليا بين فتح وحماس، وقبل أن تصل الخلافات بينهما إلى حالة الانقسام الماثل الآن، ووجهت حماس بعد فوزها بتساؤلات عدة حول جدليات كثر، أبرزها جدلية المقاومة والحكم.
ارتباط ظهور هذه الجدلية كتساؤل عام من حيث الطرح مع وصول حماس إلى الحكم، يأتي برأيي نتاج حقبة سياسية فلسطينية شكلت فيها منظمة التحرير عبر سلوكها السياسي نمطية تفكير وثقافة سياسية بررت مثل هذا التساؤل بشأن هذه الجدلية، بحيث أصبحت تجربة المنظمة في التخلي عن المشروع المقاوم لصالح السياسي، محدداً للتنبؤ بسياسة الأطراف الأخرى على الساحة، بمن فيهم حركة حماس.
عموماً، يمكن القول أن التساؤل حول إمكانية الجمع بين المقاومة والحكم من قبل حركة حماس بعد فوزها في آخر انتخابات تشريعية، صدر من قطبين:
الأول: قطب المؤيدين، والذين تساءلوا عن إمكانية الجمع بين ما هو سائد على أنه من الثنائيات المتناقضة، رغبة منهم في الجمع.
الثاني: قطب الخصوم، والذين تساءلوا عن ذلك رغبة في الفصل، بحيث يصبح دخول حماس للحكم، خروج لها من ساحة المقاومة.
بتجاوز كلا القطبين السابقين، نحاول في هذه السطور إلقاء الضوء على ماهية هذه الجدلية، ومدى قدرة حماس على توفير وعاء يحتضن تلك الثنائية –المقاومة والحكم- وذلك بالعودة إلى أدبياتها وسلوكها السياسي منذ توليها سدة الحكم. إجمالا يمكن الحديث عن إبطال تدريجي من قبل حماس لمبررات مثل هذه التساؤلات، حيث أظهرت نوعا من المزج بين كونها حركة مقاومة بالأساس، وحركة حاكمة مؤخرا، وهذا يتضح في الآتي:
الحكم الرشيد، أحد صنوف المقاومة (جهاد النفس)
كلاسيكيا درج حصر مفهوم المقاومة في إطار الأنشطة العسكرية، وبدا هذا الطرح معززا لدى عامة الناس نتاح حقبة من المواجهة العنيفة مع الاحتلال الاسرائيلي. مؤخرا بات الحديث أكثر مقبولية عن إعادة النظر في مفهوم المقاومة بحيث لا يبقى في إطاره المجتزأ والمنقوص، وهنا تجدر الاشارة الى أن المقاومة هي مفهوم مجرد يتسع للكثير من التعريفات الاجرائية ليس أهمها الجانب العسكري.
من بين ما يمكن إدراجه ضمن تعريفات المقاومة، هو البناء الذاتي على صعيد الفرد والمجتمع، وبما أن الحديث هنا عن الدائرة الفلسطينية، فإن المقاومة وفق هذا التعريف الإجرائي تشتمل على بناء مؤسسات السلطة بشكل يخدم المصلحة الوطنية، بما يعني ذلك من محاربة للفساد وإصلاح لمكامن الخلل وتمكين مكونات المجتمع من إدارة واستثمار مقدراتهم بالشكل الأنسب.
انطلاقا من المفاهيم الادارية المعاصرة، فإن الحكم الرشيد أو الصالح يلخص مشروع البناء المؤسساتي للسلطة على أسس سليمة تخدم المواطن أولا، وتحارب كل مظاهر الخلل في المجتمع الفلسطيني، وهنا يمكن القول أن تعزيز القدرات الذاتية ليس إلا عاملا مؤسسا لمقاومة أكثر فاعلية ضمن تعريفاتها الإجرائية الأخرى التي قد تتضمن المقاومة العسكرية.
مقاومة عسكرية ضد أي احتلال تحتاج بداية وقبل أي استعداد عسكري، إلى التماسك الداخلي، والبناء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي يحتضن تلك المقاومة. في حالة حركة حماس قد ينظر إلى التركيز على مقاومة الضعف الداخلي على أنه تراجع من قبل حماس عن خيارها في مقاومة المحتل، وسيحاول البعض ولمصالح سياسية أن يخرج عملية التغيير والإصلاح من إطار عملية المقاومة. لكن هذا الترويج سيكون ضعيف التأثير إذا ما قورن برغبة الشارع في علاج حالة الترهل الداخلي، كما أن هذه الرغبة ليست مرتبطة بقدوم حماس للحكم، فأحد استطلاعات الرأي الذي أجراه برنامج دراسات التنمية التابع لجامعة بيرزيت، أثناء حكومة أحمد قريع أشار بوضوح إلى أن ما يقارب 82% من عينة الدراسة التي شملت الضفة وغزة، اعتبروا قضية إصلاح الوضع الاقتصادي والأمن الداخلي وتعزيز سيادة القانون وتطوير المؤسسات هي أولوية بالنسبة لهم.
حماس وقبل دخولها للسلطة استطاعت أن تجد لنفسها مكانا في ساحة المقاومة الجديدة، مقاومة الذات، والمقصود هنا مقاومة كل مواقع الضعف والخلل في الجسم الفلسطيني، ولذلك كان طريقها لدخول المؤسسة الرسمية، هو مشروع التغييير والاصلاح الذي ارتضته لنفسها، وبالعودة الى البرنامج الانتخابي لكتلة التغيير والاصلاح نجده عالج ملفا مهما آخر غير الموضوع السياسي، تمثل في قضية الفساد والاصلاح المؤسساتي، فما بين الحذف أو التعديل أو الإضافة كانت أهداف حماس تدور فيما يخص صياغة العمل المؤسساتي الفلسطيني.
فالتأكيد على ضرورة تبني مفاهيم جديدة لادارة الحكم كالشفافية والنزاهة والمساءلة والرقابة المالية، كلها أمور عززت من رصيد حماس في الشارع بعد إخفاق الحكومات السابقة خلق مصداقية لها أمام الجمهور، وما ساهم في إعطاء صورة أكثر قرباً لنبض الشارع هو ربط البرنامج الانتخابي لمفاهيم ارتبطت برؤى غربية مع الموروث الاسلامي، في إشارة من الحركة إلى أنه لا يوجد تناقض بين الدعوات العالمية للإصلاح المؤسساتي مع المرجعية الاسلامية.
المقاومة، عسكرياً
مع ذلك فإن حماس لم تغفل التعريفات الأخرى للمقاومة بما فيها الطرح التقليدي، ومن خلال النص الصريح في ديباجة البرنامج الانتخابي لكتلة التغيير والاصلاح لم تخف أنها جاءت لتعبر عن الرغبة بتوجيه النظام السياسي الفلسطيني نحو خط المقاومة، وإن لم تستطع ذلك فيفهم ضمناً أن سعيها للتواجد في المؤسسة الرسمية، والتشريعية خصوصاً هو محاولة لتعزيز وتقوية رؤيتها بشأن إدارة الصراع، حيث أشارت السطور الأولى في البرنامج أن المشاركة في الانتخابات تأتي "لتكون إسنادا ًودعماً لبرنامج المقاومة والانتفاضة الذي ارتضاه الشعب الفلسطيني خياراً استراتيجياً لإنهاء الاحتلال." هذا نظرياً.
أما عملياً فحماس برهنت، ولكن بشكل جزئي على قدرتها في الجمع بين المقاومة والحكم، ليس كما أشرنا في سطورنا الأولى من خلال ما يشمله مفهوم المقاومة من معاني أخرى فقط، وإنما من خلال الجمع بين المقاومة العسكرية والحكم، وما أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت في الوقت الذي انشغلت فيه الحكومة الفلسطينية في تلك الفترة بحوار لترتيب إدارة المؤسسات الفلسطينية إلا مثال عملي على ذلك.
خلاصة القول في هذه الجزئية، أن الجمع بين المقاومة والحكم كفكرة هو أمر منطقي وممكن، بل إنها تحولت إلى واقع ملموس مؤخراً، لكن النجاح في إقناع الشارع الفلسطيني بتلك الفكرة حول المفهوم المجرد للمقاومة مرهونة بإعادة تأسيس مفاهيمية تنطلق من النخب إلى الشارع، بحيث تعيد بلورة مفهوم المقاومة، وتوجد العلاقة المترابطة والوثيقة بين المقاومة بمفهومها الواسع، والحكم في ظل بناء مجتمعي متماسك وسيادة القانون وعمل المؤسسات.
خلق البدائل، الهدنة
تقليدياً، صيغت العلاقات بين إسرائيل وحركة حماس بشكل عدائي منطلقة من محددات كثيرة أهمها ميثاق الحركة، ونشاطاتها المستمدة من ذلك الميثاق، وهذا ما جعل من الصعوبة بمكان الحديث عن علاقات فلسطينية إسرائيلية، إذ كانت هناك أكثر من رؤية لشكل تلك العلاقة من المنظور الفلسطيني، وحتى انتفاضة الأقصى كانت هناك رؤية حركة حماس التي ترى أن المقاومة هي الخيار الوحيد، ورؤية منظمة التحرير التي ترى أن التسوية هي خيارها.
الآن، لم تعد الرؤيتان القائمتان على الساحة الفلسطينية بشأن التعامل مع الجانب الإسرائيلي في إطارين منفصلين، المقاومة خارج السلطة والتسوية داخلها. فالمقاومة والتسوية باتا خيارين مطروحين في نفس المؤسسة. بدأت حماس في تلك اللحظات تعي أنها لم تعد طرفاً سياسياً لا يمثل إلا نفسه، هي الآن على سدة الحكم وعليها أن تقدم جديدها لمن انتخبها، الجديد فيما يخص إدارة العلاقة مع الاحتلال الاسرائيلي.
الجديد هنا، هو طرح الهدنة، ورغم كونها طرحاً نظرياً قديماً، إلا أن تحولها إلى حالة عملية ارتبط بهذه المرحلة، فتطبيق الهدنة بشكل متقطع ورغم كافة الخروقات الاسرائيلية لها، بات يمثل البديل الذي من خلاله استطاعت حماس الصمود في الحياة السياسية، وفي ذات الوقت لم تتنازل عن مشروعها المقاوم (عسكريا في هذه الجزئية).
السياسة الجديدة من حماس تجاه إسرائيل، بدأت تتكيف مع الواقع، حيث عملت ومنذ اللحظة الاولى على رفع سقف المطالب الفلسطينية، وبدأت تتعامل مع إسرئيل على أساس الندية من خلال طرحها للهدنة، معتمدة في ذلك على جملة من النقاط التي تشكل أوراق ضغط بيد حماس، أولها أن حماس لم تعترف بإسرائيل وهي الآن ممثلة الشعب الفلسطيني، ثانيها أن المقاومة العسكرية بشكلها العملي الفعال تعني كتائب القسام الجناح العسكري لحماس، ثالثها أن حماس هي الحركة الفلسطينية الوحيدة التي تستطيع التأثير في الشارع العربي والاسلامي.
من خلال النقاش السابق، يتبين لنا أن قدرة حماس على الجمع بين المقاومة والحكم اتضحت في أبعاد ثلاثة، وبأشكال مختلفة، أول الأبعاد مرتبط في تبني حماس مشروع حكم لا يمكن اعتباره خارج دائرة المقاومة، فما التغيير والاصلاح إلا جهاد النفس للنفس، وثاني الأبعاد؛ مقاومة عسكرية تقليدية مستمرة كان أبرزها أسر شاليت، وثالث الأبعاد تعزيز الصمود والحفاظ على مشروع الحكم دون التخلي عن المقاومة من خلال الهدنة.
محلل سياسي فلسطيني- ماليزيا
التعليقات (0)