كان المجنون قد خرج من ملهى الليدو في باريس.. بعد أن أقنع مونيكا بأن
اسمه رمسيس.. وفي طريق العودة من الملهى إلى المغارة.. ضلت خطواته ما بين
شارع وحارة.. وفجأة جمعت مصادفة سعيدة.. بينه وبين حمارة شريدة.. ضاعت منها
البوصلة التي تهديها.. إلى الحظيرة التي تؤويها وتسكن فيها.. ولكن لم تكد
تمر دقائق معدودة.. إلا واطلقت الحمارة أعلى زغرودة.. بعد أن اقترب منها
أحد الحمير.. فأدرك المجنون أنه صديقها الأثير.. ويبدو أن هذا الحمار من
أصحاب الشهامة.. لأنه طلب من المجنون أن يركب على ظهره ولو إلى يوم القيامة..
وأخذ الحمار ينحني ويميل.. وهو يقول للمجنون بصوت خانع هزيل:
يبدو لي ياسيدي أنك إنسان فقير.. ولهذا لن أطالبك بالكثير.. فأنا بالماء
أكتفي وبالشعير.. وكل ما عليك أن تركب فوق هذا الظهر.. ولا أريد منك ولو
كلمة شكر.
- إني أفضل أن أمشي على القدمين.. وقد أتأمل الدنيا وأنا مغمض العينين..
أما إذا أردتُ أن أستريح.. فإني أركب بساط الريح!
لكنك يا سيدي هزيل الجسد.. ومع هذا فأنت لا تحب أن يمنَّ عليك أحد..
ولهذا لا تهتم بمجد أو مال.. وتفضل أن تبقى على هذا الحال:
»فلا مجدَ في الدنيا لمنْ قلَّ ماله
ولا مالَ في الدنيا لمنْ قلَّ مجدُهُ
وفي الناس منَ يرضَى بميسور عيشه
ومركوبُه رجْلاه والثوبُ جلدُهُ«
حاولت الحمارة أن تتدخل في الحوار.. فرفسها صديقها الحمار.. وأكد لها بعد
أن هاج وثار.. أنه لا ينبغي لحمارة شرقية.. أن تقلد تصرفات الحمارة
الغربية.. ولهذا فليس لها الحق في أن تتكلم.. حتى وإن كانت من الجوع والقهر
تتألم.. أما المجنون فقد نجح في إصلاح ذات البين.. فعادت الأمور إلى مجاريها
بين الاثنين.. وظل المجنون يمشي على القدمين.. على إيقاع حوافر الحمار
والحمارة.. وبدا كأنه يتأهب لشن غارة:
أيها الحيوان الطيب الصبور.. لماذا لا أراك تثور.. إلا على حمارتك
المسكينة.. رغم أنك تعيش عيشة مرة ومهينة؟
- وماذا تريد مني أن أفعل؟
على الأقل أن تحلم ولو مَرة.. بتغيير ما أنت فيه من عيشة مُرة!
- أراك تحرضني على الثورة!
أبدا.. أنا لا أحرضك لأن الثورة الفردية.. لا يمكن أن تنجح حتى لو كانت
دموية.. الثورات لا تنجح إلا إذا كانت مطلبا لجماعة.. لديها خطة وإرادة
وشجاعة.
- لكني يا سيدي لا أحب غير القناعة.
ألم تسمع عن حمار »توفيق الحكيم«.. هذا الذي تمرد على واقعه الأليم؟
- الحقيقة أني لم أسمع عنه.. فلماذا لا تحكي لي أنت ما جرى منه.
لقد تمرد حمار الحكيم.. في الزمن النائي القديم.. فقال متحديا: متى
ينصفني الزمان.. فأركب ظهر الإنسان.. فأنا جاهل بسيط.. ولستُ بالداهية أو
الحويط.. أما الإنسان فهو جاهل ُمَركَّب.. ومع هذا يحب أن يَركب لا أن يُركب.
- »وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المرُكب؟«
»الجاهل البسيط هو الذي يعلم أنه جاهل.. أما الجاهل المركب فهو من يجهل
أنه جاهل..«.
- إذن فالجاهل البسيط هو الحيوان الصبور.. أما الجاهل المركب فهو الإنسان
المغرور!
ليس بالنهيق وحده يحيا الحمار.. حتى لو رفع أجمل شعار.. إذ لابد من
العمل باستمرار.. حتى لا يواجهه أحد بنظرة احتقار!
- باعتباري حماراً فإني بكل تأكيد.. لا أفهم ماذا تريد!
وأنا أقول لك إلى متى تكتفي بالماء والشعير.. دون أن تطالب بحقك في
تقرير المصير.. ولماذا تقنع بالعيش في حظيرة قذرة.. تلسعك فيها ألف حشرة
وحشرة؟
أعترف لك دون رجاحة عقل أو حصافة.. بأني لا أحب النظافة.. فضلا عن أن
التنظيف.. هو مجرد حكايات ملأى بالتخاريف.
- معنى هذا أنك تفضل القذارة!
لك أن تقول اني عدو للحضارة.. مادام الظلم الذي يحكمها يخفي آثاره.. حيث
يغسله الظالمون بمعسول العبارة.. وعلى العموم إذا كان عندي طموح.. فهو أن
تكون النظافة في القلب وفي الروح.. أما الآن فلك أن تقول للصحافة..
ولغيرها من وسائل المكر والسخافة.. إن الحمار لا يحب النظافة!.
التعليقات (0)