حمار.. يحاول الانتحار.. احتجاجا على الانحدار!
من مقامات مجنون العرب - 1 -
جلس المجنون في المساء.. في حالة استرخاء.. ليستمتع بالموسيقى والغناء.. حيث استمع إلى أسمهان.. وهي تتشكى اللوعة والحرمان.. واستمع إلى محمد عبدالوهاب.. وهو يعاتب الحبيب الذي غاب.. بعد أن سقاه من وهم السراب.. واستمع المجنون بالطبع إلى أم كلثوم.. لكي تزيح عن صدره الهموم.. وتذكر أنه كان قد وجه إليها قصيدة.. يعاتبها لأنها أصبحت بعيدة.. وهكذا أخذ يناجي «كوكب الشوق».. التي كانت تصدح في ليالي الشرق:
يا أمَّ كلثوم.. يا روحاً عشقناها
سَلي كؤوسَ المنى كيفَ ارتشفناها
مِنْ سحرِ صوتك يسري في جوانحنا
عشنا الحياةَ وعاش العشقُ يرعاها
ففي غنائكِ للعشاق نشوتُهم
وفي ابتهالاتِ الصحارى أنتِ سقياها
تخضرُّ مورقةً.. تُحْيي روائحها
أرواحَ مَنْ خبروا الدنيا وبلواها
يا أم كلثوم والأشواقُ عائدةٌ
ما أوجعَ الآهَ في «الأطلال» تغشاها
يا «قصةَ الأمس» أشجتنا مواجعها
ولم تزل كأسُهَا تغري نداماها
«رقَّ الحبيبُ» ووافانا بطلعته
فانزاح عن روحنا ما كان أشجاها
يا كوكبَ الشوق يلتفُّ النسيم بها
في كل أغنية تُهدي عطاياها
غناؤكِ السحرُ تشتاقُ القلوب له
مهما هجرتِ.. وسيفُ الهجر أدماها
في كل قلبٍ أريجٌ منك يسكره
يا بوحَ أشواقنا العطشى وسلواها
.. أفاق المجنون من نشوته.. فاعتدل بسرعة في جلسته.. ولم يجد معه غير وحشته ووحدته.. لأنه يرفض حكاية «الأصوات الجديدة».. ويرى أن أصحابها لا يملكون سوى حناجر بليدة.. كما إنهم يتصورون أن الغناء هو النهيق.. وهكذا يظلمون الحمير التي تسير في الطريق.. وكل هذا لأن أغبى حمار.. يمكن أن يقدم على الانتحار.. لو اضطر للاستماع لهؤلاء.. وهم ينهقون بما يسمونه بالغناء.. ورغم هذا فهم يكسبون الملايين.. لأنهم يضحكون على الشباب المساكين.. ويقفزون على المسرح كالقرود.. ويتحركون ما بين هبوط وصعود.. لأنهم تعلموا من البقرة النطاحة.. وتربوا في أحضان الذبابة الملحاحة.. ولهم وجوه غريبة.. كما أن لهم أسماء عجيبة.. فمنهن «أوهام» و«بلوى نكران».. ومنهم «سراب تلفيق» و«راكب نعامة» و«نائم الفاتر» و«تمرجي» و«مكوجي»..!.
خرج المجنون من بيته دون إبطاء.. بعد أن سمع صوت سيارة إسعاف يملأ الأجواء.. فاندفع بسرعة ليعرف السبب.. حتى يبطل العجب.. فإذا به يجد الناس متزاحمين.. حول حمار بائس ومسكين.. وقد سقط الحمار على الأرض.. وبدت على عينيه
علامات السخط والرفض.. وعلى الفور عرف المجنون الحمار.. ودار بينهما حوار:
| ألست أنت حمار الحكيم؟
- نعم.. لكن صاحبي توفيق الحكيم.. تركني وحدي أهيم.. ورحل دون أن يترك لي ولو حزمة برسيم.
| ولماذا أنت واقع على الأرض.. بالطول بالعرض؟
- بصراحة.. لقد حاولت الانتحار.. حيث شربت جرعة من ماء النار..
| ولماذا حاولت الانتحار.. مع أنك أذكى من أي حمار؟
- السبب لا يحتاج لشرح أو تعليق.. فقد استمعت إلى أغنيات موسيقاها نهيق.. وفيها تبدو الكلمات.. أشبه بالركلات واللكمات.
| كيف تحتج على النهيق.. وأنت رائد هذا الفن العريق؟
- لأن الذين استمعت لهم ليست لهم رسالة.. وليست في أصواتهم أصالة!
| لم أفهم ما تقول!
- كيف لم تفهم ما أقول.. وأنت وسواك من الناس أصحاب عقول؟.. المسألة باختصار.. أن المطربين الذين يؤكدون أنهم كبار.. ليست لديهم قدرة على الإبداع والابتكار.. وكلهم يحاول تقليد نهيق الحمار.. وهو تقليد فاشل.. وقد أخبرتهم بهذا فقالوا لي لا تناقش ولا تجادل.. ثم طردوني من الحفلة.. وألقوا بي في الشارع منذ ليلة..تحمل المجنون ما على الأرض من غبار.. وجلس بهدوء جنب الحمار.. لكن الحمار أجهش بالنهيق.. فَرقَّ له قلب رجل الإسعاف الرقيق.. وأعطاه حقنة مخدرة.. لكنها لم تكن مؤثرة.. لأن سم الأغنيات.. كان قد سرى في كل ما للحمار من نبضات.. وهنا تكلم رجل أصلع.. يفخر بأن الشمس من رأسه تسطع.. وقال للحمار.. بمنتهى الجد والوقار:
- لماذا لا تعود إلى زمان توفيق الحكيم؟
| وكيف أنفذ من أسوار هذا الزمن الدميم؟
- يمكنك أن تحاول.. ما دامت لديك آمال بلا حائل!
.. أطلق الحمار تنهيدة حزينة الإيقاع.. كأنه يطلق بها ما في صدره من أوجاع.. وأخذ يتذكر ما كان يقوله من قديم.. مما سجله له توفيق الحكيم: «متى ينصفني الزمان.. فأركب صاحبي.. بدلا من أن يركبني.. فأنا جاهل بسيط.. وهو جاهل مركب..؟!».
فجأة.. دوت في الأرجاء.. أغنية ركيكة الأداء.. فخرَّ الحمار مغشيا عليه من فرط الإعياء.. هذا وما زال الحمار في حالة إغماء!.
التعليقات (0)