حليب التين
تحتشد الرواية الصادرة عن دار الآداب اللبنانية في 215 صفحة بتفاصيل عذابات يومية في حياة أبناء المخيمات، خصوصاً من النساء، تلك الكائنات التعيسة المنسية، والمحرم عليها الشكاية، كي لا تخدش مرايا البطولة، أو حتى يصيبها بعض الغبش، ولتبقى في الأذهان، بيضاء من غير سوء، صورة أم البطل الرومانسية المتسامية على صبوات البشر، والمؤجلة لأحلام الحياة إلى لحظة الرجوع إلى الوطن المسلوب، متصبرة بمفتاح حق العودة التي تحفظه كتميمة معلقة في رقبتها، ففاطمة «أم الشهداء» التي تركت صفد الفلسطينية عشية النكبة، وخرجت مع أسرتها منتعلة غبار الوطن، تعيش هي وغالبية اسر مخيم «أوزو» في بؤس، لا تجد مكاناً تمارس فيه جزءاً من خصوصيتها سوى مرحاض عمومي، على جدرانه المهترئة تستند حين تستسلم للبكاء بلا خجل، وفيه تعرفت لأول مرة على حضور جسدها بعد عمر من غيابه، وفيه اقتنصت لحظات من المتعة، قبل ان يهدم ذلك المرحاض من قبل مسؤول وحارس لـ«الفضيلة» في المخيم، كان يسترق السمع على تأوهاتها في بعض الأوقات.
دلالة العنوان
تقول سامية عيسى عن دلالة «حليب التين» عنواناً للرواية «ارتباط الشجرة أساساً بفلسطين والإحالة إلى حلم العودة، وكذلك أتذكر أن أهلنا كانوا يحذروننا دوماً ونحن صغار من أن تمس أعيننا تلك المادة اللزجة التي تخرج بعد قطف ثمرة التين، كي لا يصيبنا العمى أو ضعف النظر على الأقل، لكننا لم نكن نصدق وحاولنا أن نمتحن صدق كلام أهلنا وبالفعل كانت تصيبنا حالة من تشوش الرؤية، وهو ما استشعره في وقتنا الراهن، ولا نعرف متى ستتضح لنا معالم الطريق إلى وطننا الفلسطيني». يذكر أن الكاتبة والإعلامية الفلسطينية سامية ولدت في لبنان، واستشهد والدها الذي كان يعمل مسؤولاً في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» وهي في الرابعة من عمرها، ودرست الفلسفة، وبعدها الإعلام في الجامعة اللبنانية، تعلقت بالشعر منذ صغرها، ولها محاولات كثيرة لم تر النور، وحصلت على شهادة ماجستير في التربية، في بحث عن الفكر التربوي لدى الدكتور طه حسين. ونشرت كثيراً من التحقيقات عن معاناة أبناء المخيمات خلال عملها في جريدتي «السفير» و«النهار»، اللبنانيتين، ولها نشاط في مجال حقوق المرأة إذ انضمت إلى أكثر من منظمة، وتعمل حالياً منتجة برامج في تلفزيون دبي، وتعد لروايتها الثانية التي تعود في التاريخ إلى ما قبل عام 1948 ناكئة جراحاً جديدة.
كشف المستور
تفتح الرواية عين قارئها على عالم لم يعرفه، وقد تصدمه بكشف المستور عن أساليب وعادات سرية لأجساد وقلوب تحيا في ضيق المخيم، فمنذ أولى صفحات «حليب التين» يجد المتلقي نفسه أمام قبح عارم، تنقل الكاتبة تفاصيله بواقعية لا تعرف الانتقاء احياناً، وكأن حالها حال الكاتب المصري صنع الله إبراهيم الذي صدمت روايته «تلك الرائحة» كثيرين، فرد عليهم بقوله «كيف نصف وسخ الشوارع، وقذارة الناس، بكلمات مهذبة، وبلغة متطهرة؟»، تقول سامية عيسى «حاولت ان أتجنب في روايتي الفجاجة وما قد يراه البعض مثيراً للاشمئزاز، لكن كيف أصنع ذلك في مكان لم يعترف ببشرية ساكنيه، ولم يوفر لهم كرامة ولا خصوصية؟، لغتي فرضها الواقع الذي لم استعر من خارجه شيئاً، وليعرف كثيرون كيف عشنا كلاجئين، ولماذا رضينا بذلك وهل ستستمر الحال هكذا؟»، غير عابئة في بعض مناطق الرواية بأن تخبو جذوة الفن، أو أن تحل المباشرة المبررة وغير المبررة بديلاً للسرد المتزن، وأن تضطرب حبكة عملها أحياناً أمام اختلال الواقع.
وتشير الروائية الفلسطينية إلى أن «حليب التين» حاولت ان تتماس مع واقعها، لكنها يقيناً لم تصل إلى مدى قسوته، مضيفة لـ«الإمارات اليوم» أن «المعاناة في المخيمات أكبر مما حكته الرواية بكثير، دائماً الحياة تسبقنا ليس بأحزانها فحسب، بل بأفراحها ومتعها، وكل سلوكيات الإنسان الذي يسعى لتحقيق وجوده اليومي، ولم يقصد قلمي أن أكون قاسية، بل الواقع فرض ذلك، إذ إن قصة المراحيض العمومية كانت موجودة في معظم المخيمات، واستخدمتها رمزاً مطلقاً للخصوصية التي افتقدناها بعد التهجير القسري والنكبات، خيالي حاول أن يقارب الواقع المعيش، وأن يعكس جزءاً من تلك المرارة»، معتبرة أن الواقع اليوم يزداد قسوة وعذاباً، بسبب العنصرية الرسمية التي يتعرض لها كثير من اللاجئين الفلسطينيين، خصوصاً من قبل الرافضين تماماً لوجودهم في هذا الظرف التاريخي على أراضٍ عربية مجاورة لفلسطين.
وتشدد سامية على أن شخوص روايتها متخيلة، «خصوصاً فاطمة وصديقة، فهما لا تمتان إليّ، ولا إلى أحد أعرفه بأي صلة إذ جرت العادة أن يشير كتاب إلى أن أعمالهم تتماس مع أناس حقيقيين، إلا أن أبطال عملي من نسج الفن، عدا بعض الأحداث التي استندت فيها إلى وقائع تاريخية مثل مجزرة صبرا وشاتيلا وحرب المخيمات والنكبات التي وردت في الرواية».
فاطمة وصديقة
وحول سبب اختيارها لتلك الشخصيتين بطلتين لروايتها، وتراجع الصوت الذكوري إلى حد كبير في «حليب التين» توضح الكاتبة «اخترت أن احكي من خلال شخصيتين نسويتين لأنني أعتقد أن المرأة، على الرغم من أن ذلك لم يعجب ابنتي الكبرى، أنسب عاكس لخبايا أي مجتمع، وهي في كثير من الأماكن لاتزال كائناً منسياً، ومعاناتها في مخيماتنا بلا حد، ومحرومة من كثير ممن يحفظ لها خصوصيتها، أما المتعة فلفظة لا حيز لها في قاموس أغلبية نساء المخيم».
وتعترف سامية بأنها خشيت من سوء فهم قد يصيب الرواية من قبل البعض، بسبب اختراقها لضلعي «السياسة والجنس» من ثالوث التابو، لافتة إلى أن أصدقاء لها اطلعوا على مسودات «حليب التين»، وعلى الرغم من إعجاب بعضهم بها إلا أن آخرين رأوا فيها جرأة حذروا من تبعاتها، مضيفة «الكتابة فعل تحرر، ولن أتواطأ على حريتي كي أرضي رقيباً مضى زمنه، ولو فكرت فيه فلن أسطر صفحة، ولن أتنازل ولو (شحطة) عن سرد قناعاتي، وكنت عاقدة العزم على أنه لو رفض نشر الرواية، فسأهبها لفضاء الإنترنت الرحب، لأنني في الأساس كتبت الرواية نصاً أمتلك أنا التحكم فيه، وليس لأحد سواي أن يفرض عليه وصاية، كفانا وصايات وممنوعات».
وتابعت «حاول أحد المقربين أن يمارس سلطته الذكورية على حوار في الرواية، وشطب بعض الكلمات، دون اعتبار لخصوصية الشخصية التي وردت على لسانها تلك الألفاظ، إذ كان أبوعلي جامع الخردة الذي يحيا في المخيم، وكان ذلك حكيه وليس حكي سامية، متناسياً ذلك الصديق كذلك النغم الذي يستشعره الكاتب خلال تسطير عمله، والموسيقى السردية التي يحرص أن تسري في روايته، ثم إنني استعنت بقاموس لغتنا، ولم أخترع مفردة من عندي»
وتنفي صاحبة «حليب التين» أن تكون تأثرت بما يطلق عليه موجة «كتابة الجسد»، لاسيما من قبل كاتبات رأين ذلك طريقاً قصيرة للشهرة، كاشفة عن أن روايتها جاهزة للطبع منذ عام ،2002 وتضيف «الكتابة مسؤولية، وأعتقد أنني لم أسرف في سرد مشاهد تتعمد الإثارة، وما ورد كان من وجهة نظري التي تقدّر رأي الآخر ولا تصادره، موظفا بشكل يخدم العمل، ويصبّ في المصلحة العامة للرواية، ولا أعتقد بحال أنه يمكن فصل الجسد عن الروح، أو أن تكتب عن شيء وتترك آخر، في النهاية نكتب أنفسنا ككل»، مشيرة إلى أن العلاقات الواردة في «حليب التين» يغص الواقع بأعقد منها في جغرافيا عالم المخيم الضيق، وفي التركيز على معلم واحد في فضاء روائي متعدد الملامح، اختزال للعمل، وظلم لقيمته.
التعليقات (0)