ما نشهده اليوم في العراق أو في السودان هو ما تريده الولايات المتحدة من وراء طرحها شعار الشرق الأوسط الجديد الذي سبق أن طرحته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس أثناء اشتعال الحرب ضد لبنان . وهذا المنهج التفتيتي هو الذي سارت عليه بريطانيا من قبل حيث عملت على تقسيم شبه القارة الهندية بالشكل الذي نشهده اليوم. كما عملت على تقسيم بلدان المشرق العربي إلى دويلات صغيرة وخلقت لكل دولة مشكلات حدودية مع جاراتها وما زالت تلك المشكلات عقبة في إقامة علاقات ودية فيما بينها .
إن منهج التفتيت الاستعماري قديم جديد وقد ساعد في إبقاء هذا الوضع استمراء الوضع القُطْري وإتباع سياسة التفرد والاستقواء على أبناء الشعب بالتعاون مع الدول الاستعمارية على حساب مصالح البلاد والعباد فشاع الفقر والتخلف والبطالة وهو الأمر الذي دفع بعض الشباب العرب إلى الانخراط في صفوف الحركات المتطرفة التي أضرت بالإسلام وجعلت الدول الغربية تتهم الإسلام بالإرهاب . يبدو أن الكلام عن الوحدة في مثل هذه الأوضاع التي نعيشها في الوطن العربي كلام غريب أو في غير محله. كلام حالم كمن يمسك القمر بيديه .
ومن قوانين العصر أن الضعفاء لا يقوون على العمل النافع ولا يستطيعون اتخاذ قرارات مصيرية يذكرها التاريخ.ولكن الأقوياء هم الذين يُسَيّرون حركة التاريخ ويصنعون القرارات المصيرية التي يذكرها أبناء البلد بالفخر والاعتزاز.
منذ النصف الثاني للقرن الماضي خرج الاستعمار من بلادنا خروجا شكليا وتركها في حالة من الجهل وكل الصفات التي ذكرناها. وقد حاولت بعض الحركات القومية أن تحقق الوحدة بين قطرين أو أكثر ولكن ظروف قيامها كانت ظروفا غير موضوعية فكان مصيرها الفشل . وفي تلك الأيام راجت تهم حول الفكر القومي العربي بأنه فكر عنصري عرقي قياسا على الفكر القومي في أوروبا وبخاصة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي من قبل النازية في ألمانيا والفاشية في ايطاليا ..وقبل أربعة عشر قرنا حدد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ملامح الانتماء العربي تحديدا ابعد ما يكون عن العرقية والعنصرية. وقال :ليست العربية فيكم بأب ولا أم وإنما هي في اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي فمضمون العروبة عند سيدنا محمد ليست دما يجري في العروق ولا نسبا يشد الإنسان إلى جد واحد. وإنما هي مكونات ثقافية أهم عامل فيها هو اللغة. فالمضمون السليم للقومية عرفه العرب عندما كان الإنسان الأوروبي لازال يعيش في عهود التوحش والبربرية ومن يتهم القومية العربية بالعنصرية فهو جاهل بالتراث العربي وجاهل بالإسلام الذي ابرز مقومات الأمة العربية والعروبة إلى الوجود.
إن الأمة العربية هي اكبر امة في عصرنا تعاني من الظلم ولا تستطيع أبدا أن تواجه هذا الظلم وان تهزمه إلا إذا ناضلت بالمعاني الإنسانية وببعدها الإنساني وبخلفيتها التاريخية الإنسانية التي يشهد عليها تاريخها الحافل .فالأمة العربية ضحية أضخم ظلم عرفه هذا العصر ولا يمكنها أن تحارب ظلما بهذا الحجم التاريخي وان تتغلب عليه إلا إذا عممت نضالها حتى يلامس جذور إنسانيتها ويلتقي بكل نضال إنساني ..ولو أمعن الزعماء العرب في جدوى الوحدة لعرفوا أن احد أوجهها هي النهضة .والنهضة لا تتحقق إلا بالمعاناة والكفاح والعلم وكل هذه المقومات هي التي تقرب البلدان وتقرب مصالحها وتدفع باتجاه الوحدة. والوحدة بهذا الشكل هي عملية تحرر وبناء كما أنها في صف الحرية ومقاومة الاستعمار ومع التقدم . فالوحدة بهذا المعنى خلق وبناء .
إن الوحدة العربية لا تتحقق إلا بإمكانات الأمة الذاتية وليس بمعونة الاستعمار. تتحقق من خلال نضال الجماهير التي تنتظم في تنظيمات نقابية وأحزاب واتحادات وغيرها من أشكال التنظيم . فالوحدة ليست عملا يستهدف تجميع العرب وتأسيس الكيان العربي الواحد فحسب وإنما لابد لهذا الكيان أن يكون له مضمون.ومضمونه التحرر ضد التبعية ,ومضمونه المصالح الجماعية للجماهير الكادحة . فالوحدة بهذا المعنى مرادفة للتحرر ومرادفة للتقدمية في الداخل .ونقول للذين يخافون من الوحدة إنها ليست إلغاء للجوانب الايجابية في القطر لأنها ليست جمعا مفتعلا وعاطفيا يربط بين الأجزاء ربطا تعاونيا تضامنيا وكفى وإنما هي عملية متفاعلة تنبت من داخل الجزء كضرورة حيوية لتطوير هذا الجزء من ذاته , إنها لا تلغي شخصية القطر بل تفجر الطاقات المبدعة الخلاقة فيه ويبعث الأصالة الكامنة آو النائمة في مكنونه .إنها عملية بث الحياة في الجزء ووضعه في الكل كعنصر فاعل ومتفاعل على صعيد من الجدلية حي .فالوحدة لأ تفقد الجزء شخصيته بل تؤكدها وتعمقها وتعطيها حقيقتها وأصالتها وإبداعها .وفي ضوء ما تقدم ليس كل ما هو موجود في الواقع الإقليمي جدير بالبقاء كما انه ليس كل موجود بهذا الواقع لابد وان يزول ويلغى وأما السليم الايجابي فهو الذي يغني الوحدة ويأتلف معها بل هو شرط لوجودها.قد يقول قائل أين هذه الأفكار النظرية من الواقع ? نقول إن الواقع هو ترجمة للنظريات لأنها نتاج الفكر الإنساني ونتاج العقل البشري والعقل أسمى ما أعطاه الله لبني ادم والعقل هو الذي ميز الإنسان عن الحيوان. فهل نستخدم عقولنا بأقصى مدياتها ?.
التعليقات (0)