إذن ، هي ثلاث رحلات متتاليات خلال الأشهر الستة الأخيرة من عام 1991 .. لعل رحلتي هذه كانت الأكثر إثارة من السابقات واللاحقات .. وقد جاءت بعد مئة يوم تقريبا من الثانية ..
فبعد عودتي إلى حلب مهزوما ، جَبرَ خاطري صديقي وأستاذي الدكتور فؤاد المرعي " أمدّ الله في عمره " ، حين سردتُ له موجزا عن أحداث الرحلة ، وما تداولته مع صديقي الدكتور علي علاوي حول رغبتي بالتحضير لنيل شهادة الدكتوراه بالمراسلة في بلغارية ، فأبدى كثيرا من التفهم ، وشجعني ، ووعد بتقديم كل مساعدة تقنية وفنية يستلزمها البحث ، وبلا حدود ، وقال :
" إذا هبت رياحك ، فاغتنمها .. وها قد تحقق ما سعيتَ من أجله طويلا .. إذ لم يكن مجديا بناؤك الأفقي في كلية الحقوق ، لأنك لا تفكر بالعمل في أيٍّ من مجاليه الأساسيين ، لا في المحاماة ولا في القضاء .. لذا ، يجب أن تعود إلى الوجهة الأصح التي تهواها أساسا : وهي البناء عموديا في الآداب ، وأنا أعرف أن في صوفيا معهدا عاليا لتدريس اللغات الشرقية ، ويمكن أن تكون هذه فرصتك الثمينة التي لا تعوّض " ..
لامَسَ كلامُه حلمًا طالما صَبَوْتُ إليه ، لكن اليأس منه دفعني إلى التشتت الأفقي في دراسة الحقوق ، وأصاب أبو خلدون عينَ الحقيقة بتوجيهه ، وهو الصديق والأستاذ الذي يعرف جيدا ، تـَوْقي لإنجاز ذاك الحلم .. وسبق أن تناقشنا كثيرا وفكرنا ، وبحثنا معا عن طريقةٍ ما للوصول إليه ، إلا أن وجود " صديقه " د . وهيب طنوس على رأس الهيئة السياسية للتعليم العالي آنذاك ، سدّ عليّ المنافذ ، وأجهض كل محاولاتنا على صعيد إكمال دراستي العمودية محليا أو خارجيا ، حتى ، وأفشل مساعيَ د. فؤاد المتكررة لرأب الصدع بيننا ، على خلفية موقفه السلبي مني ، وتجنّيه عليّ بلؤم ، وبلا مسوّغ ولا وازع ، حين كان وكيلا لكلية الآداب ، وكنت طالبا فيها .. (( وكان بيننا صلات ود سبق أن عرضت بعضها في مقال سابق )) .
واتفقت مع الدكتور فؤاد أن تكون بداية طريق الألف ميل ، بالتأكد من استمرارية المعهد في صوفيا بعد التحولات التي شهدتها بلادهم وقارتهم ، والاستفسار عن وجود الدرجة العلمية المبتغاة وباللغة العربية ، ووجود الأستاذ المشرف وإمكانية قبوله بالإشراف ، والثبوتيات المطلوبة للتسجيل والإجراءات الأخرى اللازمة ...... وكانت كل هذه المسائل منوطة بالأخ الدكتور علي الذي لم يبخل بأي جهد ودعم لوقوفي بثبات على أول الطريق ..
وثمة أعزاء آخرون ، قدَّموا لي مساعداتٍ إدارية سهّلت إنجاز إجراءات السفر في زمن قياسي ، وتحتم عليَّ المثول في المعهد قبل نهاية العام الجاري 1991 لاستكمال التسجيل ، في وقتٍ حرجٍ من عطلات أعياد الميلاد ورأس السنة ..
وبمقدار ما كانت العطلة فسحة مكنتني من الحصول على الموافقات الرسمية للسفر ، لكنها في نفس الوقت ، غدت ـ بعد وصولي لصوفيا ـ عائقا أمام إنجاز مهمتي ..
ولا أعرف ـ حقيقة ـ من الذي اختار هذا التوقيت ، وما هي دواعي اختيار هذا الموعد الذي تأكد ـ فيما بعد ـ أنه غير مناسب أبدا .. لكن الموعد وصلني من كيريل عبر الأخ أبي حسين ، وهما مصدر ثقة أكيدة .. وربما كان توافقه مع عطلتي سببا مهمًّا لقبولي به بلا تمحيص ..
كما لم يعترض د. فؤاد على موعد السفر خلال لقائنا قبله بيومين .. موضّحا فيه تصوره ورؤيته ..
فقال : " إنه يعرف اهتماماتي وقدراتي جيدا ، ويعرف طرقي وممراتي وساحاتي الأمامية والخلفية ، التي يتوقع لي فيها نجاحا وتميزا .. فاختارَ عددا من العناوين التي تصلح أن تكون دراسة معمقة لأطروحتي ، واقترح عليّ ترتيبا تفضيليا لها ، للاتفاق عليها مع المشرف ، وأكد أنه سيقدم لي كل الدعم والمشورة والمساعدة مهما كانت خياراتنا هناك ، وأنه سيكون المشرف الحقيقي هنا " ..
وقبل السفر ، جمعتني صدفة نادرة في مكتب الصديقة عزيزة ، بالأخ أحمد حجو .. وكان عائدا للتو من صوفيا ، بعد أن ناقش أطروحته ، ولم ينتظر صدور قرار منحه الشهادة بسبب العطلات ، فآثر المجيء على أن يعود في مطلع السنة المقبلة ..
لم يبخل عليَّ الأخ أحمد بالكثير من الإيضاحات التفصيلية من خلال تجربته ، وسلمني عنوانَ ومفتاحَ شقته في صوفيا لأقيم فيها خلال وجودي هناك .. وقال : قد تجد فيها زملاء آخرين ، لكني غير متأكد ، لأنهم كانوا يستعدون للعودة ، ولا أعرف قرارهم النهائي .. ذلك لا يعيق وجودك معهم ..
ومرة أخرى ، أجدني عاجزا عن الحمد والشكر لله تعالى ، لِما تهيأ لي من تسهيلات هائلة ومدهشة ساعدتني في ولوج هذا الطريق الذي أرغب .. حتى بت " أخاف " من مزيد منها .. على مبدأ " الله يعطينا خير هالضحك " كما يقال ..
☼☼☼
كانت نهاية عام 1991 قاسيةً وشديدة البرد والعواصف الثلجية في حلب .. فكيف سيكون عليه الحال هناك ؟؟!!
سافرتُ برًّا إلى اسطنبول ، وبالقطار إلى صوفيا .. كان الأبيض يغطي مساحاتٍ شاسعة جدًا من الأراضي التي مررنا بها .. وكانت رحلة القطار هذه المرة مميزة بالدفء الباعث على الخمول ، وبالظرف الذي جمعني في المقصورة مع ثلاثة شبان أتراك رائعين ، بينما كل التسالي بورق اللعب تحتاج إلى أربعة .. ومرة أخرى ، لا يوجد بيننا لغة مشتركة .. ومع ذلك ، علمتهم لعبة أعرفها ، فأحبوها وأتقنوها ، ولعبناها معا حتى وصلنا إلى صوفيا ..
صوفيا مدينة بيضاء متجلدة .. تحوم الطيور في سمائها باحثة جوعى وحيرى ، ويتحرك المشاة على زحافات يتنقلون بها من مكان إلى آخر .. وكثير من السيارات واقفة كيفما اتفق ، لتجلـُّدها ، أو لعدم تمكنها من السير فوق الجليد ، أو لتصادم اضطراري بفعل التزحلق ..
أحمل في جيبي مفتاحا وعنوانا وحيدا أوصلتني سيارة إليه .. طرقت الباب قبل أن أفتحه .. ففُتح عن شاب بلباس صيفي ، وكأنه لا يحس بالبرد الذي أرتجفُ منه .. نقل بصره بين الحقيبة وبيني فأسرعت بتقديم نفسي ، وأخبرته بالمفتاح الذي بيدي ..
كان الفارق الحراري بين البيت وخارجه يزيد على ثلاثين درجة ، لأن التدفئة في صوفيا مركزية كلها .. والماء الساخن متوفر دوما ويقترب من درجة الغليان .. وكنا نضطر لفتح النوافذ أحيانا كي نقلل هذا الفارق ..
في البيت ، سمير ومحمد ، شابان ظريفان في متوسط العشرينيات من العمر .. شرحت لهما بالتفصيل طبيعة زيارتي واللقاء الذي جمعني بزميلهما أحمد في حلب ، فتقبلاها بود ورحابة ، وكانا مثال الكرم والضيافة .. وعبرت لهما " أني لم أكن لأثقل عليهما لو أكد لي أحمد وجودهما في البيت " ..
ومع ذلك ، فقد اتصلت فور وصولي بكيريل " الذي سيتولى تنفيذ إجراءات التسجيل " ، فقال : إنه آتٍ غدا بعيد الظهر لإنجاز عمل يخصني في صوفيا ، واتصلت بـ " خريستوف الذي كان قنصلا في حلب " ، فاستمهلني عشر دقائق ليصل إلي ..
يتميز خريستوف بحميميته وحرارة استقباله ولطفه الدبلوماسي الجم .. "" وكان لنا في حلب لقاءات وسهرات لا تنسى ، ربما يأتي الوقت للحديث عنها ""
اصطحبني إلى بيته ، وأمضيت عندهم ومع أسرته وقتا لطيفا خلال تحضيراتهم لأعياد الميلاد .. ثم أعادني في وقت متأخر من الليل ..
ومع تهافت المصادفات العجيبة عليّ ، تبين أن خريستوف على علاقة صداقة مميزة مع البروفيسور بويف مدير المعهد ، فاتصل به بحضوري ، وأخبره عن رغبتنا بلقائه ، واتفقا على موعد في صباح الغد نوافيه في بيته لأن المعهد في عطلة رسمية ..
البروفيسور بويف ، رجل وقور ودود بسيط .. استقبلنا باهتمام لائق ، وبوجه يكاد الدم ينفر من وجنتيه ، وطمأنني على أن الأمور ستكون في غاية السلاسة ، وأجابنا على كل ما سألناه ، ووعد بتقديم ما يستطيع لتحقيق ما جئت من أجله ..
بعد اللقاء ، ألححت على خريستوف أن يعفيني من الذهاب معه لأنني سأنتظر كيريل ، فاستجاب وأوصلني للبيت ..
قال سمير : اتصل بك شخص اسمه كيريل ، وقال إنه سيأتي هنا بعد الواحدة ..
وصل في الموعد .. ودعت محمدا وسميرا ، وشكرتهما على ما خصّاني به من رعاية ومودة ..
وبسبب عطلة المعهد ، كان على كيريل أن ينجز معاملة بسيطة ، أفوضه قانونيا في متابعة إجراءات تسجيلي بعد انقضاء عطلة الأعياد .. ومع المساء ، أخذتْ سيارة كيريل تطوي بنا طرقات متنوعة التضاريس ، زادها الليل والثلج وعورة وقسوة ..
" في حلب ، كان صديقي محمد بلوي قد طلب مني ـ إذا سمحت ظروفي ـ أن أحاول زيارة ابن أخته عباس المقيم في بلوفديف لأطمئن عن أحواله ، وأنقل لهم صورة عنها ، بعد أن تضاءلت وتضاربت معلوماتهم عن أحواله .. اتصلت به قبل مغادرتنا لصوفيا ، واتفق هو وكيريل على عنوان بيت قريبنا " مطيع " لنلتقي فيه معهما ..
كان الليل قارسا حين وصلنا .. لم يدم اللقاء أكثر من نصف ساعة .. ولم آخذ منه أكثر مما أعطاني .. المهم : أنني وجدته بخير وبعافية .. وباقي أموره لا علاقة لي بها ..
في فارنا ، هيأ كيريل مكانا لي في بيت قرب شركة كوندور ، وصلناه في ساعة متأخرة ، فتحت لنا البابَ سيدة ضئيلة الحجم أحنت السنون ظهرها ، فصعدت أمامنا الدرج المؤدي إلى الغرفة ..
كان الفارق الحراري بينها وبين الخارج صفرا .. فقط .. أشعل كيريل مدفأة الحطب ، وجلبت السيدة مزيدا من الأغطية ، وحضّرت لنا كوبين من الشاي فيما بدأت المدفأة تنشر حرارتها في المكان .. وقبل أن يغادر كيريل ، قال : سأتصل بك صباحا قبل أن آتي لأصطحبك ..
قضيت شطرا من الليل مستلقيا على أريكة بجانب المدفأة التي تحتاج لتلقيم دائم كي تحافظ على توهجها في ليلة كانونية لم آلف مثلها ، وفوقي سقف مائل من الآجر غير المبطن ..
قال كيريل ونحن في السيارة : لم أكن أتصور أن الغرفة شديدة البرد إلى هذه الدرجة .. وأضاف وهو ينظر إلي بدعابة بانت على حمرة خديه : هل أتصل لك بالبيت الذي كنت تسكنه صيفا ؟؟ لعله أكثر دفئا !!
وعندما لم أجبه ، اعتذر وقال : إنه مزاح ، ليس إلا ..
في الحقيقة لم يزعجني كلامه بمقدار ما حرك مشاعر كانت غافية .. وما زلت غير راغب في إيقاظها ولا تأجيجها ..
في المكتب ، أحضر موظفة تجيد لغتينا ، ترجمت لي بدقة ما يجب عليّ فعله ليستكمل ـ بناء على توكيلي له ـ إجراءات التسجيل في المعهد ، والرسوم السنوية المترتبة ، والمستندات المطلوبة ، ومدة الإقامة في كل عام دراسي ... وأن كل ذلك متوقف الآن إلى ما بعد رأس السنة الجديدة .. وأنه بإمكاني أن أسافر مطمئنا في أي وقت ، والمكتب سيقوم بمتابعة الإجراءات وإعلامي أولا بأول ..
لم يعد لبقائي في بلغارية أي ضرورة حاليا .. لكن كيريل وزوجته فانيا أصرا ـ قبل مغادرتي ـ أن يودعاني يوم 27/12/1991 بسهرة خاصة وعشاء احتفالي في أحد مطاعم المدينة .. وبالفعل كانت سهرة مميزة جدا ، وكانا فيها شديدي الاهتمام بضيافتي وراحتي في جو من الصداقة الدافئة ، ضحكنا خلاله كثيرا على تعليقات فانيا عليّ وعلى مآل قصتي مع غالا متحدثة عن فوارق بين طبيعة العلاقات العاطفية بين الشرق والغرب ..
ليس ثمة عمل ما ينتظرني في حلب ، فقررتُ الوصول إليها على مهل ..
وفي مساء اليوم التالي لتلك الليلة ، أخذت القطار إلى صوفيا .. ومن محطتها ركبت قطارا داخليا يوصلني إلى الحدود البلغارية التركية ..
استغرق الطريق وقتا طويلا ، حيث توقف القطار في كل المحطات ، حتى وصلنا مساء إلى آخر نقطة قرب المعبر الحدودي البلغاري ..
خرجت من الحدود البلغارية ، وتقدمت ماشيا بين نقطتي الحدود .. حركة التنقل شبه معدومة ، ولا أحد يمشي غيري ، ولا سيارات تمر .. والسيارة الوحيدة التي تبعتني ، توقفت إلى جانبي ، وفتح السائق نافذتها ليكلمني ، فلفحني منها دفء لذيذ ..
خاطبني الرجل بالتركية ، وأجبته بالإنجليزية : أني لم أفهم لغته .. فدعاني بالإنجليزية للركوب معه ، وقال إنه ذاهب إلى اسطنبول ..
لم أتردد طبعا .. كما لم أكن أعلم أن مشوارا كهذا سينتج عنه كثير من الآثار والمصادفات الجديدة ..
☼☼☼
" في صيف 2009 ، قال لي صديقي أبو حسين : إن خريستوف اتصل به يسأله عن رقم جوّالي ليعطيه لابنته روسيتسا التي انتقل عمل زوجها إلى قنصلية بلادهم في دبي ..
" وإذ لم تتصل روسيتسا بي بعد عودتي ، خشيت أن تكون فقدت الرقم .. استحصلت على رقم هاتف القنصلية واتصلت .. قدمت اسمي ، وبالإنجليزية طلبت روسيتسا .. فرحب بي بالعربية بعد أن عرف كنيتي ، وقال : أنا زوجها .. ويمكنك أن تكلمها على البيت ، وأعطاني رقم هاتف البيت وجوّالها ..
" كانت هي أيضا تجيد العربية .. فلم أجد مشكلة في الاسترسال معها ، وأجابت على استفساري قائلة : أنا وزوجي تخرجنا في جامعة دمشق ..
" وبعد مدة ، لاح اسمها على شاشة جوالي .. قلت : أهلا روسّي .. قالت من خلال ضحكة فرح كبيرة : أنا لست روسّي .. أنا مايا .. تعانقنا بالكلام .. وقالت : أنا وأمي هنا ، ونريد أن نلتقي ..
" تم اللقاء بعد ثمانية عشر عاما من آخر لقاء لنا في صوفيا ..
" وقتذاك كانت روسيتسا في الثامنة عشرة ، وأكبر من مايا بثلاث سنوات ..
" حصل لبْسٌ في عنوان المكان الذي سنلتقي فيه قرب بيت روسيتسا ، فتأخرت في الوصول ، وكنت أخشى ألا نتعرف على بعضنا في مكان مزدحم من حي جديد وراق وحيوي من أحياء دبي ، إلا أن الأمر كان أبسط وأسهل مما توقعت ، واعتذرت للأم وهي تنتظر انتهاء عناقنا ، ثم تحلقنا حول طاولة في شارع يكتظ بمقاهي الرصيف وروادها ، وكانت سعادتنا باللقاء أكبر من الوصف وأنا أستذكر لهن أحداث تلك الليلة في طريقي إلى حلب بعد لقائنا الأخير في صوفيا ، والتي استدعتها اللحظات المشابهة لها هنا ..
" وحدها الأم ، لا تعرف سوى البلغارية .. فكانت روسيتسا غالبا ما تقوم بالترجمة لها وهي التي تعرف ثلاث لغات ، بينما تواصلت مايا معي عن قرب بالإنجليزية ، وهي تتابع بشغف حكايتي في تلك الليلة ، وأنها الآن " businesswoman " كما قالت مداعِبَةً ، وتعيش مع زوجها في بريطانيا ..
" كنت أتحدث لهن بالعربية المشوبة بالإنجليزية حسبما تقتضيه ضرورة التوصيل .. وكانت الأختان تستجليان من بعضهما ما صعب عليهما فهمه مني ..
قلت :
وضعت حقيبتي في صندوق السيارة ، وركبت جانبه .. وبعد أن عبرنا نقطة الحدود البلغارية التركية ، وتجاوزنا مدينة إدرنة ، صارت التسلية مشروعة بحوار تعارفٍ بدأه قائلا :
أنا " جاني " من يوغسلافيا سابقا ، وأعمل في التجارة ، وأجيد التركية والإنجليزية والفرنسية ..
وأنا قدمت اسمي وعملي وظروف وجودي هنا ، وسألني عن بلدي ومدينتي ، وتبين أنه يعرف كثيرا عنهما .. وعبر عن سروره بمرافقتي له في هذه الليلة ذات الظروف المناخية الصعبة والخطيرة ربما ..
كانت السماء تمطر وتثلج حسب المكان الذي نمر فيه ، وهو يصغي للمذياع محاولا التعرف على جاهزية الطريق إلى اسطنبول ، معبّرا عن خشيته من أن تكون العواصف الثلجية قد قطعتها ، لأننا لم نتقابل مع أي سيارة قادمة من اتجاه اسطنبول .. لم أنتبه كم قطعنا ، لكننا لم نتوغل كثيرا في الأراضي التركية حين قال : سنتوقف بعد قليل في فندق أعرفه في " لوبر غاس " نشرب قهوة ، ونستوضح عن أحوال الطريق قبل أن نتابع ..
توقف في ساحة فندق كبير .. دخل أمامي ، إلى اليسار ثمة صالة ، ليس فيها سوى الموظفين وشابين على طاولة ، ورجل خمسيني أسمر البشرة يتحدث بالعربية على الهاتف ، بدا غاضبا وهو يخاطب محدثته باسم : ليلى .. بينما تقف بجانبه فتاة أصغر منه بكثير ، ذات شعر فوضوي مصبوغ بألوان غير متناسقة ، غربية الملامح ، عادية في كل شيء ..
طلبنا قهوة أنا وجاني ، ثم ذهب إلى موظف الاستعلامات وعاد ليقول : الطريق مقطوعة إلى اسطنبول بعد مئة كيلو متر من هنا ..
كان الرجل الأسمر يضج ويهدأ ويتهدج صوته كالمرعوب ، وهو يؤكد لليلى ويقسم أنه يحبها وأنه مسافر لوحده وأن " كيم " ليست معه ولا يعرف شيئا عنها ..
ومع القهوة ، رحت أشرح لجاني معلومات بسيطة عن سورية ، من خلال مطبوعات سياحية كنت أحملها معي ، ذاكرا أسماء المدن والمناطق ، فاقترب الرجل على استحياء من طاولتنا ، وبدا أنه يعتذر بالفرنسية عن مقاطعتنا ..
أجبته بالعربية : أنا عربي .. تفضل ..
انفرجت أساريره ، وكأنه تخلص من حالة الحرج التي أحسَّها وهو يقاطعنا ، ثم قال : أكرر اعتذاري ، لم أقصد مضايقتكما ولم أتوقعك عربيا .. لكن الأسماء التي كنت تلفظها تناهت إلى أذني وشدتني رغما عني لأقطع عليكما حديثكما .. هل يمكنك أن تجيبني على بعض الأسئلة لأنني أرغب أن أزور أهلي فيها وأتعرف إليها ؟؟
دعوته للجلوس ، فقال وهو يشعل سيجارته : أنا زامل من فرنسا .. وتلك صديقتي كيم .. (( انحنت من بعيد ولم تقترب )) أسمع من أبي أن جدي ـ الذي هاجر إلى فرنسا قبل سنين طويلة ـ أصله من مدينة يبرود ، لكني لا أعرفها ، ولم أزرها .. أحب أن أعرفها وأزورها .. هل سمعتَ بها ؟ هل تعرفها ؟ كيف سأحصل على تأشيرة لزيارة سورية ؟ هل ذلك ممكن ؟ كم يحتاج من الوقت ؟ ومن أي مكان سأحصل على التأشيرة ؟ هل يمكن من هنا مثلا ؟
كان يسألني كمن يودع شخصا عزيزا على النافذة الأخيرة من العربة الأخيرة في قطار تهيأ للرحيل ..
قلت : أعرف يبرود جيدا وزرتها مرات .. لكن أسئلتك كثيرة وسأجيبك باختصار عنها ، لأننا يجب أن نتابع طريقنا .. فقد صحبني جاني بسيارته من المسافة الفاصلة بين الحدودين ، ولا بد من أن نصل معا إلى اسطنبول ..
تحمّس بفرحٍ ضحكتْ له عيناه ، وقال كأنه متحضّر لهذه اللحظة ، بحيث يضعنا تحت الأمر الواقع : هل أنتما مضطران للمتابعة ؟ وتابع قبل أن أجيب : لا يمكنكما ذلك .. فالطريق مقطوعة بالثلج والحمد لله .. ثم إنني أدعوكما لقضاء الليلة هنا ، وغدا صباحا نكمل الطريق معا إلى اسطنبول ..
وثانية ، وقبل أن أجيبه تابع بذات الحماس : أرجوك لا ترفض طلبي .. إن كان هو سيغادر ، فليغادر .. ابق هنا أرجوك .. ستكون ضيفا عزيزا علي .. أنا مشتاق أن أعرف الكثير الكثير عن وطني وأهلي .. أرجو أن تعذرني ، فقد تلصصت على ما كنتَ تقوله له .. لقد جذبني لذلك اسم سورية ودمشق وحلب .. أنا لا أصدق ما أسمع .. أرجوك اقبلْ دعوتي .. لن تكون إلا سعيدا معنا .. ثق بكلامي أرجوك ..
كان يتكلم بفرح وبأسى ، وبرغبة شديدة في استضافتي .. ترتعش سيجارته بين إصبعيه وبين شفتيه ، وارتجفت شفته السفلى أكثر من مرة ..
كان ينظر إلي كأنه يستجدي بقائي واستضافتي .. أحسست بخجل حقيقي من نفسي ، وهزني بقوةٍ شعورُه الصادق ، وصرتُ على استعداد تام للبقاء ، فحسمت أمري ، وربّتُّ له على كتفه : لك ذلك عزيزي .. اهدأ من فضلك ..
نظرت في وجه جاني .. كان يقلب صفحات المنشورات غير آبهٍ لنا ، وقد أنهى قهوته ..
خاطبه زامل بالفرنسية عارضا عليه البقاء إن أراد ، لأنه متمسك باستضافتي ، وأخبرَه بموافقتي ..
لم يجبه جاني حتى أومأتُ له برأسي موافقا على قوله ..
خرجنا معا إلى السيارة ، أخذت حقيبتي شاكرا له صنيعه ، وعدت ..
كان زامل وكيم واقفيْن في البهو ، وقريبا منهما عامل يحمل مفتاحا ، تقدّمَ فأخذ حقيبتي ومضى بها إلى الغرفة ..
حيّتني كيم بفتور وبعكس زامل ، وسارا معي حتى افترقنا عند غرفتهما المجاورة لغرفتي ، بعد أن قال : أرجو أن تتجهز لسهرة على شرفك الليلة بعد ساعة ..
قلت له : لن يكون ذلك بلا نرجيلة .. أرجو أن تبلغهم بتأمينها مسبقا ..
حين دخولي إلى صالة المطعم ، وقف زامل يخيرني في انتقاء طاولة نجلس إليها .. قلت له : لا شيء سيختلف ، المكان كله لنا وحدنا كما ترى .. لكن : هل أوجدوا نرجيلة ؟؟ استل من جيبه علبة سيكار ، قدّمها لي ، وقال : اعتذروا وأعتذر لك .. ليس سوى هذه .. أخذتها وقد تناقص منسوب تفاؤلي بسهرة لا تنسى ..
(( ما الذي جعلني أروي هذه القصة لروسيتسا ومايا وأمهما ؟؟
" بالتأكيد ، ليس فقط لأنني لم أرَهُنَّ منذ ذلك الوقت .. وليس لمجرد التسلية أيضا ..
إنما ، ثمة تشابه في اللقاءين ، نتج عن ضرورات التواصل اللغوي فيهما )) ..
فهنا أيضا ، كنا نجيد ثلاث لغات ، ليس بينها لغة واحدة مشتركة نتفاهم بها جميعا ..
زامل : يتكلم الفرنسية ، ويتكلم العربية دون أن يعرف القراءة والكتابة بها ..
وكيم : تتكلم الفرنسية والإنجليزية ..
وأنا العبد الفقير لله ، أتكلم العربية وشيئا من الإنجليزية ..
زامل يضطر ليترجم لها حديثنا بالعربية ، وتترجم له بالفرنسية حديثها معي ..
(( هذا التشابه في الحدثين ، قادني لسرد الحكاية على مسامعهن .. فكانت روسيتسا على الخط مباشرة ، تتابعني وتترجم لهما من العربية أو الإنجليزية بسرعة فائقة ، وبخبرة أهّلتها لاعتمادها ترجمانا رسميا لقنصلية بلدها )) ..
قال الشيف لزامل : إن تراكم الثلج وسوء الأحوال الجوية ، وانقطاع الطرق ، وصعوبة التنقل ، أسباب جعلت المطعم يخلو اليوم من الرواد على غير المألوف .. لكن شبانا حجزوا ليحتفلوا بصديقهم العريس ، وسيأتون بعد الحادية عشرة ..
الصالة أوسع مما كنت أظن ، والفرقة الموسيقية من ثلاثة شبان تدوزن آلاتها وتتجهز خلف صورة كبيرة ملونة للمطربة " دِلارة " ..
لم يصدق زامل أنني لا أتعاطى الكحوليات ، فطلب عددا من الأنواع والزجاجات ، وأصر أن أضع كأسا أمامي ولو لم أذقه .. واستفرد بنا عمال المطعم ، فأنزلوا على الطاولة ما طلبه زامل وكيم وما لم يطلباه ، ثم جاؤوا بشمعدان كبير مُزَيّن ومُضاء بالشموع والإكسسوارات المتنوعة ، وجاءت المغنية إلينا تمحضنا عناية خاصة لا حيلة لها بها ، بعدم وجود غيرنا .. وحين سمعتنا نتكلم بالعربية ، أوقفت الموسيقا بإشارة من ذراعها المكتنزة ، وطلبت من الفرقة عزف أغنية " صيدلي يا صيدلي " ، ولم تبرح الطاولة حتى دفعتنا أمامها إلى حلبة الرقص ..
ولأنني جاملتها بترديد بعض كلمات الأغنية ، صار لزاما علي أن أشاركها بداية ، ثم تنازلت لي عن الميكروفون ، وراحت ترقص بانسجام كاد يلهب العمال والكراسي الفارغة ..
لعبت الأبخرة في رأسيْ زامل وكيم ، فشاركاها الرقص ، ثم جرّت كيم إلى الحلبة أحدَ العمال المتفرجين ـ كأنها استلطفته على ما يبدو ـ وصارت تراقصه بحركات خليعة سقطت إثرها على الأرض .. حاول الحاضرون حملها ، فرفضت وتحاملت على زامل إلى الطاولة ..
ومع دخول الشبان بعراضة العريس ، كان كل شيء طبيعيا في المكان ، فأضفوا على السهرة نكهة تركية شعبية رائعة ، وكانوا لطيفين جدا ، فأرسلوا لنا ضيافة خاصة ، ثم جاؤوا جميعا لتحيتنا ، والتفوا حولنا لدقائق في رقصة الدبكة على أنغام المزمار والطبل .. وما إن رفعتُ يدي أشكرهم حتى انسحبوا يحيوننا بانحناءة تترافق مع ختام الدبكة عادة ..
لم ينقص شيءٌ يذكر من المائدة سوى الشراب .. وبُعيد منتصف الليل ، طلبت كيم من زامل أن يرافقها إلى الغرفة .. وحين عاد ، كان قد غسل رأسه وأعاد تمشيط شعره الكثيف الأسود الطويل .. فاسترد بذلك بعض النشاط ، فقال : الآن بقينا وحدنا .. وما دمتَ سمعتني وأنا أتكلم مع ليلى ، فلا بد أنك فهمتَ قصتي .. قلت له : لا تكترث ، فأنا سمعتك عرضا ، ولم أكن أتابع ما تقول .. هي خصوصياتك ، ولا تهمني في شيء .. قال : كنت أتحاشى الفرنسية كي لا تفهمها كيم ..
صمتنا قليلا .. حاولتُ أن أتململ وأتذرع بالنعاس كي لا أضطر للاستماع لما لا يعنيني ، لكنه بدا مُصِرًّا ، وكأنما ليتخلص من عبء ثقيل يجثم فوق صدره ..
قال : ليلى زوجتي الثانية بعد أن ماتت الأولى ، وهي لبنانية وتملك مطعما في مكان بين فرنسا وسويسرا ، وكانت كيم عاملة مؤقتة عندها ..
ولأنه تزامن غيابنا عنها ، ساورتها الشكوكُ بأنها ترافقني ، فلم تردّ على مكالماتي من الموبايل طول الطريق من فرنسا حتى هنا .. ولما طلبتها عبر سنترال الفندق .. تردّ وتصرخ وتبكي وتشتمني وتتهمني بالخيانة وتقفل الخط .. طلبتها اليوم أكثر من عشرين مرة ، فكرّرَت الموشحَ نفسه في كل مرة ..
أقسمتُ لها أن كيم ليست معي فلم تصدق .. ماذا أفعل ؟؟ ما رأيك ؟؟
قلت له : بماذا ؟ قال : تكلمها وتؤكد لها أن كيم ليست معي كي تهدأ ، لأنني أخاف عليها من عصبيتها ، أن تفعل شيئا سيئا بنفسها .. قلت له : ما دامت لم تفعل شيئا حتى الآن غير العويل ، فلا تخفْ .. لن تفعلَ شيئا آخر قبل عودتك إليها .. ومادامت لا تصدقك ، فهي على حق .. أليست كيم معك ؟!! غمغم قائلا : معي .. نعم .. لكن لم تعطني شيئا ..
انتهى احتفال زفة العريس منذ أكثر من ساعة ، وانفض عقد الفرقة الموسيقية ، ولم يترك زامل على الطاولة أي أثر لأي مشروب .. لكنه لم يرتو .. فطلب من عامل يراقبنا من بعيد ، أن يحضر له مشروبا آخر ، فغاب وعاد ليعتذر ..
لم يعد الحديث مجديا لا شكلا ولا مضمونا .. واشتد ألم صداع في رأسي لا يطاق .. نهضت ، فقال : أرجوك .. عشر دقائق فقط ..
أخرج الموبايل من جيبٍ في صدره ـ وكنت سمعت عنه ولم أره إلا في الصحف والتلفاز ـ وأسمعَني صوت رنين الجرس .. ولمّا لم ترد ، اغتمّ أكثر ، وقال : لن أعود إليها أبدا ..
كنت متأكدا أن معظم مواقفه هذه لن يتذكر تفاصيلها بعد صحوه من تأثير الكمية الهائلة التي شربها ..
طلب ورقة وقلما ، فكتب لي أرقاما قال إنها " لهواتف ثابتة في عدد من الدول الإفريقية التي يتحرك بينها متاجرا بالخشب والحديد عبر أسطول من السفن والسيارات الناقلة الكبيرة " ..
ثم مزقها ، وقال : الموبايل يغني عن كل ذلك ، فهو موصول بالأقمار الصناعية ، ويعمل في أي مكان من العالم ، وتستطيع أن تجدني فيه حيثما كنت .. لا أريدك أن تتصل بي عليه .. يمكنك فقط أن ترن رنة وتفصل الخط ، فيظهر رقم المتصل عندي ، فأتصل أنا بك .. إن مكالماته مرتفعة الثمن ولا ينبغي أن تتحملها .. أعطني رقمك لأحفظه هنا ..
أنا بالأساس لم أستطع تصور أغلب الكلام السابق عن حدود تجارته عبر البحار والمحيطات .. لكن الاتصال الذي أسمعني رناته أعاد لي شيئا من الثقة بكلامه ، وإن كنت عجبتُ لما ذكره عن اتصال الموبايل بالأقمار الصناعية واستقبال المكالمات أينما كان ، وظهور رقم المتصل .... تلك كانت رجما بالغيب بالنسبة لي في ذلك الوقت ..
نهضت مبتعدا عن الطاولة ، فتحامل وتعلق بذراعي ، وخرجنا من المطعم إلى البهو الخارجي .. جلس على أقرب كنبة ، وقال : أرجوك اجلس قليلا .. لقد انقضى الليل ولم أسألك الأسئلة التي كانت في رأسي .. اللعنة على كل المشروبات .. سأقلع عنها وعن التدخين أيضا .. لن تراني بعد الآن أتعاطاها ..
" قلت في نفسي : بالتأكيد لن أراك بعد اليوم أبدا " .. وأضاف كأنه يصحو : كيم هي السبب في كل ما جرى .. لم أكن راغبا بالسفر الآن .. لكنها لعبت في عقلي وأغوتني بكذا وكذا ، فحققتُ لها مطلبها بالسياحة نحو الشرق .. لن أذهب إلى اسطنبول .. سأتركها وأعود ..
أشعلَ سيجارة ، ثم قال : لا.. لا .. يجب أن أذهب ، فأنا تعهدتُ لكَ بذلك .. أخبرني أرجوك : هل يوجد في سورية فنادق ومطاعم فخمة ؟ كم مطارا يوجد ؟ كم يبعد المطار عن يبرود ؟ أين تقع يبرود ؟ كم عدد سكانها ؟ ماذا يعملون ؟ كيف سأزور سوريا ؟ هل يجب الحصول على تأشيرة ؟ من أين ؟ هل يمكن أن أذهب إليها برا ؟ لو أردت أن أستثمر بعض أموالي ، ما المشروع المجدي الذي تقترحه علي ؟ هل هناك صناعات خشبية ممتازة ؟ أين تتركز المدن الصناعية ؟؟ هل يوجد قطارات للشحن ؟ ما حجم أسطول النقل البري في سورية ؟؟
كانت إجابتي مبسترة كأسئلته ، وأحيانا لا ينتظر الجواب .. إنه يسأل وكفى ..
هدّني تعب يوم طويل ، وهدته ليلى من هناك ، فلم يطل عنبَ الشام ولا بلحَ اليمن .. استبدَّ به الرعبُ على بُعده ، فلم تغبْ صورتها الغاضبة الحانقة ، واستحال الوعد الخلبي سرابا في مفازاتٍ لا ظلال لها ، ولا ماء فيها .. لقد خاب الرجاء ، وبارت التجارة المنتظرَة .. بدا محبَطا ، ضعيفا ..
كان كمن يهذي أو يهلوس .. بالكاد أفهم كلماته ، لكنه مصرٌّ أن أسمعه ، ولم أشأ أن أكسر خاطره ولو كان على هذه الحال .. فقد كنت أؤمل أن تكون سهرتنا حول طاولة نتحدث فيها عما سألني عنه في بداية اللقاء ..
أيا يكن .. لا فائدة من أي شيء الآن سوى النوم ..
غفوت بعمق .. لكني وجدتهما مستيقظين قبلي .. استقبلاني على مائدة الإفطار بلطف لا يعكس حالة الجو التي تعصف بهما .. تجاهلت ، وسرحت ببصري إلى الشمس الساطعة من خلال الزجاج الأغبش ..
طلب زامل فاتورة الحساب ، فاستهول المبلغ المطلوب ، ومضى قليلا ثم عاد أكثر تبرما ، وهو يلعن الاستغلال والسرقة المفضوحة ..
في الساحة الخارجية ، لم أر أي سيارة صغيرة .. أين يمكن أن تكون سيارته التي سنسافر فيها ؟!
ولم تظهر على وجهيهما آثارُ غيابِ سيارةٍ لهما ، يُفترض أن تكون في ساحة الفندق .. لكن اتجاه محور سيرنا نحو السيارة الوحيدة الباقية في الساحة فك الشيفرة المفقودة ..
إنها رأس شاحنة قاطرة ..
لا بأس .. وضعَ العمالُ حقائبنا على السرير داخل المقصورة ، وتعمشقت كيم ، فتمددت على السرير خلفي ، وجلستُ جانب زامل وهو يستعد للانطلاق ..
قال : لم ينفعني مجيئي بهذه السيارة في إبعاد الشبهة عني .. بل حوّلتْ شكوكَ ليلى إلى يقين .. لا يهم .. في النهاية سأترك السيارة للسائق ، وسأعود بالطائرة إلى فرنسا وحيدا .. وستذهب كيم في البحر إلى مصر ..
توقفنا في استراحتين على الطريق إلى اسطنبول ، حتى وصلناها في الرابعة مساء .. طلب من سائق سيارة أجرة أن يسير أمامنا إلى محطة الحافلات ، وأصر أن يدفع ثمن بطاقة الركوب إلى أنطاكية ، لكني رفضت قطعا ، وشكرته ، وودعتهما وهو يقول : سأنتظر اتصالا منك تطمئنني ..
كان ذلك يوم الثلاثين من كانون الأول / ديسمبر .. وبعد ثلاثين ساعة من تلك اللحظة ، وصلت إلى البيت ، كأني على موعد مع أسرتي ..
سهرنا ـ رغم إرهاقي ـ محتفلين بعام جديد ..
سألت مايا : ألم تتقابل بعدئذ بزامل ؟؟ قلت : ولا اتصلت به .. ليس ثمة مشترك بيننا ..
قالت : إذا كنت تحتفظ ببعض الصور التي التقطتها في بيتنا في صوفيا ، هل يمكن أن ترسل لي نسخة منها ؟
قلت : بالتأكيد .. وسأرسل أيضا صور جاني وكيم وزامل والمطربة دلارة .. ما رأيك ؟؟
ولأول مرة ألتقي " بَالمِن " زوج روسيتسا .. أحسسته قريبا جدا من قلبي ، بدماثته ولباقته وبساطته ، وإتقانه العربية باللهجة الشامية ، فأضفى حضوره ألفة أذابت حدود التعارف في أول لقاء ..
ثم مشينا باتجاه بيتهم القريب " كي أعرفه لأزورهم كلما سنحت لي الفرصة " ..
ولم تسنح لي حتى الآن .. لكننا نتواصل إليكترونيا .. أدام الله علينا كلَّ نِعَم تلك المواقع ، التي لولاها لكان الواحد منا الآن في غياهب المجهول ..
الثلاثاء ـ 12/04/2011
"" صودف أن كنت عائدا من تركيا في 31/12/2010 ، وكان مضى على تلك الليلة تسعة عشر عاما بالتمام والكمال ""
التعليقات (0)