مواضيع اليوم

حلب اسطنبول صوفيا ـ 4 ـ

يوسف رشيد

2011-04-04 14:53:03

0

  

 في الوداع ، صدَقتْ فينا أغنية السيدة فيروز :  

" كان الوداعُ ابتساماتٍ مبللةً بالدمع حينا ، وبالتذكار أحيانا ..

حتى الهدايا وكانت كل ثروتنا ، يوم الوداع ، نسينا هدايانا " ..

قبلئذٍ ، طلبتْ مني غالا أن تحتفظ بشريطٍ مسجلٍ ، فيه مقطوعات موسيقية ناعمة ، كثيرًا ما آنسَ سهراتنا .. وأوصتني أن أقتنيَ نسخة منه " لنستمعَ إليها معًا ، وأن أرسلَ لها رسالة تطمئنها ، مع نسخة من الصور التي جمعتنا " ..

في الطريق إلى مدينة برغاس ، لم نتكلم أنا ودوبريه سوى بضع كلمات ، أحسَّ بعدها أني غيرُ راغبٍ بالمزيد ..

وفي المحطة بعد أن استكمل لي الإجراءات في المكتب المختص .. عانقني وودعني ..

لم تنطلق الحافلة إلا قبيل المساء .. كانت الطريق ضيقة ، تحفّها الأشجار العالية الكثيفة والأعشاب المرتمية عند أقدامها ، كأن الطريق في غابة .. وحين حلَّ الظلام ، وصلنا إلى نقطة الحدود مع تركيا ، ولبثنا ساعاتٍ لسببٍ لا أعرفه ، نمتُ خلالها وقتا لا بأس به ..

 

بعد وصولي إلى حلب بأيام قليلة ، اتصلتُ بغالا ..

فرحتْ حتى غصَّت بالبكاء .. ثم تمالكتْ ، وقالت : أريد أن أراك .. تعالَ من فضلك ..

أرسلتُ لها الصور فيما بعد ، وكتبت : " رغم أني مشتاق لك ، إلا أن ظروفي الآن لا تسمح لي بالسفر " ..

لكن ، كان للقدر قرار معاكس ..

زارني صديقي أنور برفقة أخيه أبي شادي المقيم في إيطاليا ، وقال : ألا ترغب بزيارة بلغارية ؟؟ سيسافر أبو شادي بسيارته بعد أيام .. فإن كنت راغبا ، استعد .. ستترافقان وتتسليان وتتعاونان على طول الطريق ..

لم أكن أتصور أن أستكمل إجراءات السفر بهذه السرعة والسهولة ، على صعوبتها وتعقيداتها .. لكن .. بما أن القرار كان متخذا ، فقد أزيلت كل العقبات تلقائيا ..

وحين انطلقنا من حلب ، لم يكن قد انقضى عشرون يوما على وصولي إليها ..

أحبُّ السفر برا ، وأستمتع به ، فكيف إذا كنا في سيارة جديدة ، وبصحبةٍ نوعيةٍ كأبي شادي !

طوينا الطريق بسرعة ومتعة .. توقفنا طويلا في مدينة إدرنة على الحدود التركية البلغارية .. تجولنا في أسواقها الأثرية التي تشبه إلى حد كبير أسواق حلب القديمة ، كونهما تنتميان إلى ذات الحقبة التاريخية ..

ومما أدهشنا في المدينة ، ملامح الجمال الأخاذ التي تتصف بها وجوه وقدود صباياها .. وقد سبقني أبو شادي بالتعبير عن ذلك ، فقال : رغم أني تجولت في أكثر من ثلاثين دولة ، ما رأيت جمالا كالذي أراه الآن .. وأضاف : سمعت عن جمال أهل مدينة إدرنة ، لكني لم أتخيله إلى هذا الحد ..

بعد أن عبرنا إلى بلغارية ، عرض أبو شادي أن أرافقه إلى صوفيا بدل أن آخذ الطريق الساحلي الذي سبق أن عبرته في رحلة العودة ، مرورا ببرغاس إلى فارنا ، لأساعده في قيادة السيارة فأجَنّبَه قضاء ليلة أخرى على الطريق لو أكمَلَه وحيدًا ..

تبادلنا الأمكنة ، فالطريق إلى صوفيا لا تقل عن أربعمئة كيلو متر ، ولم تسبقني ، بل لا يمكن أن تسبقني أي سيارة في بلغارية آنذاك .. ولم نتوقف إلا في بلوفديف ، منتصف الطريق تقريبا ، أحضر أبو شادي كوبين من القهوة ، وتابعنا إلى صوفيا .. وصلناها مساء .. ذهبنا من فورنا إلى محطة القطار ، حجزتُ سريرا في قطار إلى فارنا سيتحرك بعد ساعتين ، أمضينا جزءا منهما في مطعم قريب ، ثم ودعت أبا شادي والتحقت بالبوابة المحددة إلى العربة ..

كان القطار بطيئا وكثير التوقف في المحطات المنتشرة على طول الخط ، ويستخدمه السكان كواسطة نقل شبه وحيدة ، تمخر المدن والقرى والمزارع والحقول ..

بزغت خيوط شمس الصباح من عيني بعد ليلة متعبة قلقة .. وقفتُ على النافذة المشرفة على حقول عبّاد الشمس الفسيحة التي سبق أن شاهدتها يوم زيارتنا لصديقتيْ غالا ..

" بالتأكيد ستفتح الأمُّ الباب .. ستُفاجأ بي .. لكن .. كيف سيكون وقْعُ المفاجأة على غالا ؟؟ كيف ستستقبلني وهي التي أرسلت إليّ ترجو زيارتي ؟؟ هل ستكون في البيت ؟؟ ربما لم تستيقظ بعد ، وربما ذهبت إلى عملٍ ما .. هل سأجد مكاني  في الغرفة شاغرا ؟؟ الأهم أن يكون مكاني في قلبها محفوظا ولا يهم بعدها أين أقطن .. "

كثيرة هي التساؤلات التي تواردت على مخيلتي ، فيما بدأ القطار يتسلل إلى المدينة عبر بيوتها النائمة ..

أعطيت سائق التكسي عنوان البيت على ورقةٍ أحتفظ بها في محفظتي ، فأدرك أني لا أعرف لغته .. مضى دون أن يكلمني .. وعندما وصلنا ، عرضت عليه نقودا ، فاستل منها وحاول أن يساعدني في حمل حقيبتي .. شكرته وأعفيته ..

البيت في الطابق الأول .. توقفتُ مترددا .. فالساعة قبيل الثامنة صباحا .. هل استيقظ أحدٌ ؟؟

كبستُ زرَّ الجرس ، سمعت صوت باب ينفتح في الداخل ..

اتسعت عينا الأمّ دهشة بالمفاجأة ، وتكلمت بما لم أفهمه ، وأومأت إلي أن أدخل .. توقفت في الممر وأمامي ثلاثة أبواب : غرفة مايا ، فغرفتي سابقا ، فغرفة غالا ..

دخلت الأم إلى غرفة غالا وأغلقت الباب وراءها ، لينفتح ثانية بعد لحيظات عن غالا بثوب النوم الفضفاض والشعر الفوضوي ، عانقتني بحرارة وهي تتمتم بالبلغارية من خلال عينين نائمتين وصوت دافئ أبح ..

طال عناقنا فيما غادرتنا الأم إلى الصالون ..

جلستْ إلى جانبي غير مصدقة .. دعكتْ عينيها بكفيْها مرات وهي تنظر إليّ بين اللحظة والأخرى ، وتتساءل : أحقا أنت هنا ؟؟ أم مازال حلمي مستمرا ؟؟ كنت أراك في الحلم قبل أن توقظني أمي .. أنا لا أصدق .. ما أجمل أن تستيقظ على حلم تحقق للتو !!..

خاطبتْ أمَّها وهي في المطبخ ، فخرجت الأم مبتسمة ، وفهمتُ من حوارهما أن غالا ـ التي تمسك بيديّ ـ تسأل أمها إن كان هذا حلما أم حقيقة !!

سألتْني : لِمَ لمْ تخبرني بمجيئك ؟

قلت : ألم تعجبْكِ المفاجأة ؟؟

قالت وهي تذهب إلى المطبخ : إنها أروع وأسعد حلم يتحقق لي ..

خرجنا إلى الشرفة مع القهوة .. قالت : لم أذقها بعد ذاك اليوم أبدا .. ليس لها طعم إلا معك ..

زفرتْ دخان سيكارتها ، وقد بدا عليها شيءٌ من الحيرة والضيق .. دنت مني .. أسندت رأسها إلى كتفي وقالت : ما العمل ؟؟

قلت : ما الأمر ؟؟ قالت : غرفتك عندنا مشغولة بشاب سوري منذ ثلاثة أيام ، وسيبقى ثلاثة أخرى ..

" لم أحسب حسابا لهذا ، فلم أجد ما أقوله " .. ساد صمت ثقيل وقصير ، قالت بعده : سأتدبَّر الأمر .. لا عليك ..

وعندما صارت طاولة الإفطار جاهزة ، قالت غالا : سأوقظ مايا ، وأدعوها للإفطار ، لكني لن أخبرها بوجودك ..

دخلت مايا تمسح آثار النوم عن وجهها ، وتوقفت في الباب مرتعشة حين لمحتني على الطاولة .. دعكتْ عينيها من جديد ، ثم صرخت كالملدوغة ، واندفعت نحوي ..

دار بينهن حديث مطول لتأمين مكان قريب لي ريثما يغادر الشابُّ الغرفة ، وأجرت غالا اتصالين هاتفيين ، ثم اصطحبتني إلى بناء مجاور ، قالت إن ثمة غرفة معدّة للإيجار فيه .. قادتنا امرأة مسنة إلى الغرفة ..

ليست كغرفتي هناك .. لكنها مناسبة لثلاثة أيام ..

قالت غالا ونحن عائدان بحقيبتي : لا تقلق .. هذه مؤقتة وللنوم فقط .. وكل شيء آخر سيكون عندنا .. لو أنك أخبرتني بمجيئك !!..

 

☼☼☼

 

لم يكن لديَّ ما أقوم به في فارنا .. جئت بقصد الزيارة فقط .. وكان لا بد من زيارة كيريل في شركة كوندور ..

معالم البهو متغيرة .. " فقد تخلت فانيا عن استثمار الكافتيريا " كما قال كيريل ، ففقدتُ ملاذا أقضي فيه شطرا من الوقت الضائع .. وكانت مفاجأته بوصولي ، لا تقل عن مفاجأة غالا .. تعانقنا بحرارة ، وتفرَّغ لي ، وسأل عن مكان إقامتي ، وإذا كنت أريد مكانا آخر ، وعرض أي مساعدة أحتاجها في أي وقت من الليل والنهار .. واعتذر عن غيابه في وداعي لانشغاله في صوفيا ، وسألني مطمئنا عن قيام دوبريه بمهمته على الوجه الأكمل ..

لكني كنت ألاحظ ارتباك السكرتيرة وهو يرفض دخول أحد عليه ، أو الرد على الاتصالات ، فشفطت قهوتي سريعا ، واعتذرت منسحبا لارتباطي بموعد هام "" وهمي "" .. 

" تصبح الغربة مضاعفة الوطأة حين تحسّ بوحدتك ، وبافتقادك لمن يؤنسها .. ولاسيما إذا لم يكن لك عمل تقوم به ، أو هدف ذهبت من أجله ..

" كما أن مرور الوقت يغدو ثقيلا ، وليس أخف منه أن تفرض نفسك ـ وأنت المتسكع ـ على أشخاص لديهم عمل يقومون به ، ويحتاجون لكل دقيقة كي ينجزوه ..

" تستطيع أن تتجول ، وأن تجلس على مقاهي الرصيف ، أو تتسوق أو تأكل أو ... لكنك تقوم بذلك مُكرَها ، وقتلا للوقت ، لأنك لا تملك شيئا آخر أكثر إلحاحا منه في اللحظة الراهنة .. وأنت في مكانٍ ، خياراتك محدودة فيه جدا ، ومتواضعة جدا ..

" إن اللغة حاجة ضرورية للتواصل ، واللغتان اللتان تعرفهما ، غريبتان مثلك عن المكان الذي أنت فيه ..

فانطبق عليك القول : لا تقسم الرغيف الصحيح .. ولا تأكل من الرغيف المقسوم .. وكُلْ ، كُلْ حتى تشبع ..

" حتى د. ترايكوف ، لم أجد أي وسيلة للتفاهم معه بغير الإشارة ، فقد زرته بعد أن اتصلت به بناء على رغبة أبي حسين ، لكنه لا هو ولا زوجته يعرفان غير البلغارية والروسية .. وشتان ..

" وترك غيابُ ولده عن بلغارية أثرًا سيئا آخر ، حرمني من قضاء الوقت مع مَن يمكن أن أتفاهم معه بانسجام وودّ ..

أنهت غالا قبل أسبوع دورة اللغة الإنجليزية ، وبدأت تعمل مع صديقتها في كشك لبيع الصحف والمجلات ، تتبادلان أوقات الدوام حسب ظروف كل منهما ، " وهو عمل مؤقت ريثما تردّ عليها الشركات التي راسلتها " كما قالت ..

وأضافت : إن هذا العمل يؤمّن نفقات داني حاليا .. وستكون فرصتي في الحصول على عملٍ جيدٍ ، أفضل مع إلمامي باللغة الإنجليزية ..

انقضت الأيام الثلاثة بتثاقل عكرته ظروف عمل غالا ، وانفرادي في كثير من الأوقات سواء في غرفتي أو في تجوالي .. وكنت أتناول طعامي خارج البيت ، إلا بوجود غالا ، حيث تتصل بي أو نكون متفقيْن مسبقا لنلتقي على موعد الطعام ..

زارتني غالا مرتين في غرفتي ، وشاركتنا فيهما صاحبة البيت في تناول القهوة ، وقد تلذذتْ بها ، فتركتُ لها كمية بعد دفع الحساب ومغادرتي بيتها ..

قالت غالا : إن الشاب السوري حزم حقائبه وسيغادر اليوم ..

وما إن انتهينا من طعام الغداء حتى عاد الشاب ليقول لي مغتبطا : لقد تأجل سفرنا للغد .. لكن بإمكانك أن تشاركني في الغرفة وهي بثلاثة أسرة كما تعلم ..

كان يكلمني بالعربية ، فانتظرتْ غالا حتى انتهى حديثنا لتستفهمَ مني .. شرحت لها ظروفه ، فرفضتْ أن أشاركه الغرفة قائلة : " إن ليلة واحدة يمكن أن نقضيها معًا على الشرفة .. ما رأيك ؟؟

بعد الغداء ، خرجت أنا وغالا ، تسكعنا ، ثم ذهبنا إلى الكشك فغادرته زميلتها ، وجلسنا على كرسيين بداخله ..

جاء شاب ، قدمتنا لبعضنا ، وقالت لي : إنه زميلها في دورة اللغة .. تكلما طويلا ، وغادر المكان غاضبا ، ولم تفلح هي في إخفاء اضطرابها .. ولم أسأل عن السبب ، ولم تقل لي شيئا .. ولم يكن في الأمر ما يحتاج إلى شرح ..

ومع المساء دبّت الحركة في الشوارع .. انضممْت إلى الجموع ، مشيت ومشيت .. استرجعتٌ مواقفَ لم تكن ذات مغزى قبل الآن .. لكن ، لا بد من ربطها بما شاهدته منهما اليوم ..

عدتُ إلى البيت بعد العاشرة ، فتحتْ غالا ، وأخذتني من يدي إلى الصالون .. قالت : سنسهر معا ، وتنام هنا الليلة .. كانت تحاول أن تبدو طبيعية ، لكن آثار ذاك اللقاء كانت لا تبرح وجهها وعينيها ، كما تهدج صوتها بشدة أثناء الرد على مكالمة هاتفية ، وبكت في نهايتها وهي تلتصق بي وتتمتم بالبلغارية .. ولم تجبني في النهاية عن سبب ذلك ..

خرجتُ إلى الشرفة أدخن ، فتبعتني مع القهوة ..

جلستْ وراحت تدخن وتتكلم طويلا بلغتها ، مجهِشة بين الفينة والأخرى ..

جاءت أمها ، قالت لها شيئا ، فمسحتْ دموعها وقالت : داني مستيقظ ومحموم ، سأذهب إليه وأعود ..

نمت في الصالون ، وحين استيقظت صباحًا باكرًا ، ذهبت إلى غرفة غالا ، فلم أجدها ، ولا نملك أنا والأم وسيلة تفاهم تزيل هواجسي وقلقي بعد الذي رأيته ولمسته من غالا أمس ..

وإزاء ما رأتني عليه من ضيق وغم ، دخلت الأم غرفتها وعادت إلي بورقةٍ كُتب عليها بقلم رصاص ما فسرتُه ـ مستعينا بتبادل بعض الإشارات معها ـ بأنه العنوان الذي ذهبتْ إليه غالا ..

أعددت قهوتي بنفسي ، وتجهّزت للخروج بينما كانت الأم تعد الإفطار .. شاركتها بلقيمات ، وخرجت ..

الصباح جميل ولطيف .. ملامح وجوه الناس تحمل آثار إرهاق السهر وقلة النوم ، والحركة وئيدة خجولة ..

ذهبت إلى سوق بيع الزهور .. ليس ثمة زبائن بعد .. كان الباعة ـ وأكثرهم من السيدات ـ يرتبون وينسقون العربات التي يعرضون عليها أزهارهم النضرة الضاحكة .. شعرت براحة لتلك الحالة الإنسانية الموشحة بالزهور وأجمل الألوان ..

" ليس من المناسب أن أحمل وردة أو باقة إلى غالا ، وأنا لا أعرف شيئا عن ظروف وجودها في المكان الذي ذهبتْ إليه  ، فقد تكون مناسبة حزن أو عمل ما " ..

اشتريت باقة نرجس من سيدة هرمة مقعدة ، هززت لها رأسي وهي تكلمني بهدوء ، وإذ لم أرد عليها ، فهمتُ منها أنها تسألني إن كنت تركيًّا .. ابتسمتُ نافيًا ، وابتعدتُ عنها وهي تخاطب جارتها ..

وسبق أن تعرضت لأكثر من موقف كهذا ، فيظنني مُحَدِّثي تركيًا ، للشبه الكبير بيننا ، كما يقولون ..

السوق طويل ، وفيه عدد من مورِّدي الزهور ، يوزعونها على الباعة ، وينتقلون من مكان إلى آخر بسياراتهم الملونة بآثار الطين والحشائش ..

وجدت مَن سرتُ معه في طريقه إلى مكان انطلاق الحافلة .. وحين وصلت إلى الموقف المخصص ، عرضت العنوان على السائق ، فأكد لي صواب الوجهة ..

تحركت الحافلة على الطريق الساحلية .. إلى اليمين يمتد البحر عاكسا أشعة الشمس ، وإلى اليسار ، تلال وجبال مكسوة بالشجر والمباني الجميلة الملونة بالأبيض ، المسقوفة بالقرميد الأحمر ، وقد بدأت الحركة تتسارع عبر سيارات وحافلات تنقل سياحا بسحنةٍ اسكندنافية ، يفضلون قضاء عطلاتهم على شاطئ البحر الأسود ..

حافلتنا تسير ببطء ، وتتوقف عند مواقف محددة ، يصعد إليها ركاب ، وينزل آخرون ..

وحين تسلقت الحافلة طريقا جبلية ضيقة ، صار المنظر أكثر جمالا وروعة ..

كنت أستمتع بتلك المشاهد الآسرة حين خاطبتني السيدة الجالسة إلى جانبي أكثر من مرة .. التفت إليها بحيادية وكأني لم أسمعها .. ظنتني أصمّ وأبكم على ما يبدو ، فلكزت فتاة أمامنا ، وهمستْ لها وهي تومئ بإصبعها إلى أذنها وفمها ..

نظر السائق إلي عبر المرآة ، وأشار بأن أتحرك للنزول حيث توقف .. انتبهت السيدة إلى ذلك ، فأزاحت لي ، وهي تكلم السائق مستفسرة عن حالي ، ربما ..

نزلتُ في ساحة ترابية ، في صدرها العالي تمثال حجري نصفي على قاعدة تسلقتْ عليها الأعشابُ ، فغطتْ كثيرًا من الكتابات المنتظمة والمضافة عليها ..

مشيت إلى التمثال ، وجدتها فرصة مناسبة لوضع باقة النرجس ، تأملته ، وغسلت يدي ووجهي من ماء ينز من أعلى القاعدة .. تلفت حولي .. لا شيء يحرك الهدوء سوى نسمات لطيفة ، تحمل أصواتا آتية من مكان ما .. وبدا المكان ساحرًا وقد ارتمى البحر عند أقدام التلال والجبال ، تمخره القوارب والدراجات المائية النزقة ، بين أمواج متوسطة القوة ..

قليلة هي البيوت المحيطة بالساحة .. وهي ريفية متواضعة .. خرج من إحداها خروفان تتبعهما فتاة يافعة ، توقفتْ حين فاجأها وجودي ، ثم تابعت بلا اكتراث ..

تسلقت الطريق الإسفلتي المتعرج ..

أين سأجدها ، وكيف ؟؟ وما الذي أتى بها إلى هذا المكان ، ومنذ الصباح الباكر ؟! ولماذا لم تخبرني بذلك ؟!

زادتني التساؤلاتُ حيرةً .. أشعلت سيكارة وأنا أمشي إلى الوراء متقيا لفحات هوائية باردة وقوية ..

بدأ الصوت يصلني أكثر وضوحا مع تقدمي في المسير .. وهي أصوات ناعمة ، تتضح رويدا رويدا ، وكان لا بد من تمييز صوت غالا بينها حين رنت ضحكتها فجأة وكأنها استجابة لنكتة رُويَتْ لها همسًا .. حددت مكان الصوت بدقة ، واقتربت من جدار أقصر مني .. التقت عيناي بعيني غالا ، فتوقفت عن الكلام وقد عقدت المفاجأة لسانها ..

لم يكن في فسحة الدار غيرهما ، تقفان متقابلتين حول كمية من البندورة ، وترتديان ثيابا ملوثة بعصيرها ، فيما لم يسلم وجه غالا ولا شعرها من ذلك التلوث ..

ربما لم تكن غالا لتفاجأ برؤيتها لأي شخص آخر غيري .. ولمَا انتابها ما انتابها حين تقابلت عيوننا .. التفتت الفتاة الأخرى إلى الوراء ، وبدأت تتنقل بنظراتها بيننا .. تسمّرْنا أنا وغالا ، وسكن كل شيء آخر سوى النظرات الحيرى .. وأدركت الفتاة أن غالا تعرفني ، لأثر وقوة المفاجأة عليها .. تبادلتا عبارات موجزة سريعة ، واقتربت غالا من الجدار .. سألتني باندهاش هادئ ومكتوم : كيف عرفت أني في هذا المكان ؟ من أوصلك ؟ كيف وصلت ؟ من أعطاك العنوان ؟ يا إلهي .. هل نزلتَ من السماء ؟ كيف اهتديتَ إلى البيت هنا ؟

كانت هذه المفاجأة أشدَّ وقعًا عليها من مفاجأة الزيارة بحد ذاتها ..

قلت لها بهدوء قاتل : الأمر بسيط جدا .. هذا هو العنوان بخط أمك .. ألا يكفي لوصولي هنا ؟!

التقطت أنفاسها ، فيما كانت الأخرى متشاغلة عن حديث حاولت أن تلتقط أطرافه فلم تفلح ..

تطايرت قصاصة الورق التي رميتها خلف الجدار ، واستدرت غاضبا محتقن الوجه ، متوترا مستاء ..

ساعدني الهواء وانحدارُ الطريق ، على التسارع في المشي ، تتبعني نداءاتها المُلِحَّة بالعودة ، ثم ما لبثت أن اختنق النداء في حنجرتها ..

غير بعيد ، توقفت بجانبي سيارة صغيرة ، تقودها سيدة .. قال لي الرجل الذي بجانبها شيئا ، وأزاحت الفتاة التي وراءه نحو الداخل .. لم أتكلم .. صعدت بجانبها ، تلاقت بعض عيوننا ، فيها ملامح ريفية بسيطة وناعمة ..

انطلقت الفتاة تتكلم وتتكلم إلى حد الثرثرة ، مستغلة إصغائي ، لكن الرجل تدخل بعد أن قلت لها ببطء وبالإنجليزية : أنا لا أعرف لغتكم .. وفهمت منه بصعوبة أنهم من القرية المجاورة لهذه القرية ، وهم ذاهبون إلى فارنا لمراجعة الطبيب .. ثم أجاب عن أسئلتهما ، وقد أسقط في يد الفتاة أنني لا أفهم لغتها ولا تفهم لغتي ..

كان يوما لا يوصف ، ولا يُشتهى لا لصديق ولا لعدو ..

مر النهار وشطرٌ من الليل قبل أن أعود إلى البيت ، ولما عدت ، فتحت لي الأمُّ بابَ غرفتي وقد وضعتْ حقيبتي فيها بعد أن غادرَها ذاك الشاب ..

فهمتُ من الأم أن غالا لم تعد بعد .. كانت كلها قلقة .. وجهها وصوتها وحركاتها .. وبالإشارة خففتُ عليها شيئا من القلق ، بأن أخبرتها بذهابي إليها صباحا حسب العنوان ، ومقابلتها ..   

لا أعرف متى غفت عيناي .. لكني صحوت قبيل الحادية عشرة .. مشيت إلى الصالة .. لا توجد حركة في البيت .. لا أحد .. حضّرت القهوة وعدت ، وتركت باب غرفتي مفتوحا على غير المألوف في كل مكان شاهدته من بلغارية ..

" إنهم يَهوَوْنَ الأبوابَ المغلقة دومًا وأبدًا .. إنها بلد الأبواب التي يجب أن تكون مغلقة " ..

جاءت الأم من الخارج تحمل أكياس المشتريات ، وأومأتْ للساعة الجدارية : بأن طعام الغداء سيكون جاهزا بعد ساعة ونصف .. هززت برأسي ، وخرجت هائما بعيدا عن البيت والكشك : حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت .. وذلك أهْوَنُ وأخفُّ وطأة ..

 

☼☼☼

 

إن كل ما يمكن أن يقال بعدئذ ، إنما هو تفاصيل ثانوية تتشابه مع غيرها ، وربما تتطابق ، وهي تحصيل حاصل ، وما عادت تضيف جديدا ..

لذا ، سأسرد مقاطع مترجمة من رسالة غالا التي وصلتني في /04/11/1991 أي بعد هزيمتي تلك بقرابة شهرين ..

كتبتْ :

" اعذرني أنني تأخرت في الكتابة إليك ..

" أجد نفسي مضطرة لأوضح لك أمورًا كثيرة ، ولا أدري إن كنت ستفهمني بالشكل المطلوب !!

" تعودتُ أنا أن أكون مستقلة بكل شيء ، وحتى في الحب .. ولا أريد أن يُملى عليَّ كيف يجب أن أحب ، ومع مَن سألتقي ، ومع من أتقاسم وقتي ..

" لا أريد أن أمتلك شيئا بمقدار النصف .. وإذا لم أكن قادرة على امتلاكه كله ، فمن الأفضل ألا أملكه على الإطلاق ..

" كان من الصعب عليّ جدا أن أفترق عنك .. ولكني يجب أن أفعل ذلك .. ليس لي الحق في أن آخذك من عائلتك ، وأن أفرض عليكَ طريقتي في التفكير ، وفي الحياة ..

" وإضافة إلى ذلك ، فإنني لا أريد أن أحب .. لأنني عندما أحب ، فإنني أتعلق بقوةٍ فيمن أحب ، وهذا يتناقض مع طريقتي التي أريد أن أعيش فيها حياتي ..

" وهذا لا يعني أنني سأبقى وحيدة طيلة عمري ، ولكن ، حاليا هذه هي رغبتي .. وإذا ما كانت رغبتي أن نفترق ، فإن الأمر سيكون سيئا بالنسبة لي ولك على السواء .. حيث أنك لا تستطيع أن تكون إلى جانبي باستمرار ، وأنا أريد أن تكون إلى جانبي .. فكيف ذلك ؟!

" ربما لأنني معك أحس بالأمان الذي لم أحسسه مع أي شخص آخر حتى الآن ..

" أريد أن أصل إلى ما أريد بمفردي .. وبمفردي أريد أن أذلل كل الصعاب ..

" من الصعب علي كثيرا أن أفترق عن أناس أحببتهم ، ولكني في نفس الوقت ، ليس لي الحق في إرادتي أن تكون من أجلي ولي فقط ..

" سيسعدني أن أراك من جديد .. ولا أريد أن أفقدك كصديق ، وأنت أعطيتني الكثير الكثير المطلق.. وأنت أعدت لي من جديدٍ الثقة حتى في نفسي ..

" أنا آسفة أن يكون بيننا حاجز لغوي ، حيث لدينا أن يقول كل منا للآخر الكثير من الأشياء .. أليس كذلك ؟

" أنت تمكنت من تحقيق أشياء كثيرة أنا مازلت أطمح من أجل تحقيقها وأناضل من أجلها ..

" سيسعدني كثيرا أن تكتب لي .. يمكن أن تكتب وبالإنجليزية .. ألم تعدْني بأن تكون لي معلما ؟!!

" أرجوك أن تغفر لي كل شيء .. ربما يكون العالم مبنيا بهذا الشكل : أن نفترق عن أناس لا نريد فراقهم ..

" أعتقد أننا مختلفان كثيرا .. أنا حريصة جدا على حريتي الشخصية ، وأنت تريد أن تمتلك حتى تفكيري ..

" هذا هو حقك .. ولكن ليست هي رغبتي ..

" يسعدني أن أراك من جديد فعلا .. أرجوك اكتب لي ..

" تذكر : أنه دائما أهلا وسهلا بك في منزلنا ..

" لا تزعل مني أرجوك .. هكذا كان يجب .. سيسعدني كثيرا أن تحاول أن تفهمني ، ولا أريد أن تتذكر ما هو سيء .. اذكر فقط ما هو جميل .. """"

 

وشكراااااااااااااا

 

الإثنين ـ 04/04/2011

 

"" أعتذر من الإخوة القراء لبعض الاضطرابات الأسلوبية الواضحة في نص الرسالة المترجم ، وقد تركته كما هو بلا تصرف بحدود 99% .. وفهمته جيدا وهو على هذه الحال .. "" 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !