قبل تلك الرحلة ، لم أكن قد غادرت بلدي إلى أي وجهة في العالم .. وإن كنت قصدت بيروت ليوم واحد قبيل اندلاع حربها الأهلية بأشهر قليلة ..
لذلك ، فقد كان لهذه الرحلة إلى بلغاريا ، طعم خاص ، لاسيما أنني التقيت ـ عن قرب ـ عددا من مواطنيها ، ونشأت بيننا علاقة صداقة ومودة ، مما زاد في رغبتي بالسفر إليها ..
وتلاقت رغبتي مع إلحاح صديقي د . علي ، الموجود هناك لمناقشة رسالته لنيل الدكتوراه في الهندسة ..
وكان حين استضاف أستاذه المشرف د . ترايكوف ، في حلب ، توطدت علاقتنا ، وأعجب شديد العجب بمدينتنا الخالدة ، وطراز البناء القديم والجديد فيها ، وبالياسمين المستلقي على الأسوار المزخرفة بهندسة بديعة ..
وهو نفسه الذي أصر أن يبقى واقفا في بيتنا ، طيلة استماعه لنشيد مارسيل خليفة : " منتصب القامة أمشي " ، احتراما وتقديرا لمعانيه التي سمع ترجمتها الفورية من تلميذه ..
وكان من نتائج تطور العلاقات البلغارية السورية ، افتتاح قنصلية لها في المدينة ، مما سهّل تنفيذ إجراءات السفر ، ومهّد لقيام علاقات ثقافية وتجارية نشطة برعاية القنصلية ومشاركتها الفعلية ..
حصلنا على تأشيرة السفر إلى بلغاريا ، وبناء عليها حصلنا على تأشيرة عبور الأراضي التركية ، كوننا سنسافر برا من حلب إلى اسطنبول ، ثم بقطار الشرق السريع ، منها إلى صوفيا ..
بدأت الرحلة في الصباح الباكر من حلب ، قبيل أن تستفيق الحركة في الشوارع المحيطة بساحة انطلاق الحافلات ..
كنا فرحين بالصحبة والسفر ، وكان الصحب أربعة شبان رائعين : مصطفى وبسام وبدر وعلي .. وأنا الطارئ على شلتهم الظريفة المنسجمة ، حيث جمعتهم قواسم مشتركة متينة ، ووحدة حال ناضجة قوية ، فأضفوا جوا رائعا على رحلتنا ، سواء بانفتاحهم واتساع آفاقهم وتفاهمهم ، أو بخفة دمهم ومرحهم ، أو بقضاياهم الحياتية الناعمة الظريفة ..
كان الصباح صيفيا ، أنعشته الخضرة والأشجار والتفاؤل بالرحلة الأولى ..
تناولنا قهوة سريعة ، وبدأ المسافرون بالتجمع حول الحافلة .. فاقترب مني شاب أجنبي ، سألني بالانجليزية إن كنت مسافرا على متن الحافلة ، فأجبته بنعم ..
واكتفى بذلك ، وكأنه يريد أن يطمئن لوجود من يتكلم بلغته ، فالطريق إلى اسطنبول تأخذ حوالي أربعا وعشرين ساعة ، يتخللها توقف لبضع ساعات في أنطاكية ..
بعد أن عبرنا البوابة الحدودية السورية في باب الهوى ، كانت الإجراءات على الطرف التركي أكثر صرامة ، مما استوجب بعض التأخير ، فانتشر الركاب بين السوق الحرة والمطاعم والمقاهي ، وحين انتهى الجميع ، نودينا بالصعود إلى الحافلة ، فمضيت إليها يتبعني عن بُعد بسام شحود مصطحبا الشاب الأجنبي ..
استوقفني بسام مكررا نداءه لي بلهفة ، وبصوت عال ، وكأن أمرًا ما قد وقع ، التفت إليه ، فقال كمن عثر على كنز ثمين : لقد وجدت لكَ من يتكلم الإنجليزية ..
" يبدو أن صديقي هذا كان يريد أن يجد لي من يساعدني على مشقة طول الطريق ، اعتقادا منه أنني بلبل إنجليزي صدّاح ، بينما الواقع ، أنني لا أعرف سوى القليل من تلك اللغة " ..
قلت لبسام حين وصلا إلي : أتعتقد أنه لم ينقصني في هذه الرحلة إلا شخص أجنبي أسليه ؟!
في الحافلة ، استأذنني الشاب في الجلوس إلى جانبي .. كان ألمانيًا يعرف من الإنجليزية أكثر مني بقليل ، قال بعد أن قدّم نفسه " كوبلر " :
إنه أمضى ستة عشر يوما في سوريا ، عشرة منها في حلب " الرائعة " حسب وصفه ، والباقي بين دمشق والساحل وحمص ..
كان مفتونا بحلب ، فاصطحب معه كثيرا من صور البطاقات السياحية ، وبعض المصنوعات اليدوية ، وعبّر عن دهشته بقلعتها الضخمة الفريدة ، وأسواقها القديمة ، ولم ينس أن يتلمظ ـ متأتئا ـ بالتعبير عن متعته بتذوق الطعام الحلبي ..
وكان شغوفا بمعرفة كل ما يستطيع أن يعبّر عنه باللغة المشتركة التي نتفاهم بها ..
وتأثر كوبلر جدا وهو يودعنا في محطة القطار في اسطنبول ، ووعدني بالمراسلة بعد أن ينهي رحلته ، لكني حين عدت إلى حلب ، وجدت في بريدي بطاقة لطيفة منه ، من روما ، وتراسلنا خلال السنوات التالية ، لكني نسيت أن أصطحب عنوانه معي ، حين لبّيت دعوة كريمة من صديق عزيز لزيارة ألمانيا بعد ست سنوات ..
أمضينا ساعات في اسطنبول قبيل الرحلة إلى صوفيا ، كانت أوقاتا جميلة ، تجولنا فيها بالقرب من محطة القطار ، وعلى شاطئ البوسفور ، كما زرنا حديقة الحيوانات القريبة ..
تمنيت أن أقضي فيها أطول وقت ممكن ، فهي غنية بكل آثارها وتراثها وجَمالها وتقاليدها .. لكننا كنا مجرد عابرين ، وكان الوقت قصيرا جدا على تحقيق ذلك ..
في القطار التقينا بكثير من المسافرين من جنسيات مختلفة ، عائدين أو قاصدين بلدانا أوربية أخرى عبر قطار الشرق السريع هذا ..
ونسيت كيف أكملنا الرحلة على وقع إجراءات الحدود البلغارية وجماركها ، والبضائع الكثيرة المحملة في القطار ، وصعوبة التفاهم مع المسؤولين عن ذلك بغير لغتهم التي نجهلها جميعنا ..
في مدينة فارنا ، كان في استقبالنا صديقنا د . علي وكيريل وزوجته ، فانكسر مباشرة حاجز الإحساس بالغربة ، وكان للمودة التي أحِطتُ بها تأثير كبير على شعوري بالراحة واستمتاعي بكل لحظة قضيتها هناك ..
في تلك المرحلة ، كانت أوربا الشرقية قد خلعت عنها ثوب الشيوعية والاشتراكية ، بُعيد سقوط جدار برلين ، لكنها لم تتزيّا بعد ، بالزي الأوربي ، الذي طالما حلمَتْ به ، لكنه بدأ يفرض طقوسه عليها ، وإن كانت مرحلة التحول تحتاج جهودا وعملا ، ووقتا طويلا ، ونفقات كبرى ، وكل ذلك لا يتوفر سريعا ، ولا يمكن تحسس نتائجه على المدى القريب ، لذلك ، كانت خطوات التحول بطيئة إلى حد كبير بسبب الظروف المزرية التي آلت إليها دول شرق أوربا بعد سنين طويلة من وجودها داخل حرم الشيوعية ..
ومن هنا ، كان الانفتاح السياحي هاما ، ويشكل مصدر دخل كبيرا جدا في بلغاريا ، فقدمت الحكومة تسهيلات حقيقية للراغبين بزيارتها ، واشترطوا حجزا فندقيا مسبقا للحصول على التأشيرة ، أو حجزا في شقة أو غرفة ، وقد عرضها أصحابها على المكاتب السياحية المختصة لتأجيرها للوافدين ، وهي غرف ، غالبا ما تكون جزءا من بيت العائلة ، حيث تتقاضى الأسرة أجرها كدخل إضافي في ظروف تلك التحولات ..
لذلك ، عندما وصلنا إلى فارنا ، كان مع كل منا بطاقة الحجز المسبق ، وفيها عنوان المكان المحجوز ، بواسطة شركة كوندور ( النورس ) ، المختصة بتقديم خدماتها للسياح ..
اتصل كيريل ليتأكد من وجود صاحبة البيت المحجوز قبل أن يوصلني صديقي إليه .. كان البيت أنيقا صغيرا .. سيدته ستينية وحيدة ، تعمل مرشدة سياحية ، وهي شديدة التمسك بالإتيكيت والرسميات ، بحيث يجب ألا يزورني صديقي مثلا ، دون استئذانها .. فإن وافقتْ ، تحدد الوقت المسموح به أيضا ..
لم أستطع تحمل ذلك أكثر من تلك الليلة ..
قلت لصديقي باكرا : هذا لا يطاق أبدا .. سأنام اليوم على الشاطئ أرحم من هذا الاضطهاد .. قال : لا تقلق .. ستبيت ليلتك في بيت آخر اليوم .. لقد تداركنا الأمر .. جهز نفسك .. أنا قادم لاصطحابك ..
في بهو الشركة ، كانت فانيا " زوجة كيريل " تجلس مع سيدة أخرى على كنب جلدي ..
(( وكنت التقيتها في حلب حين زارتها برفقة زوجها ..
ولأنها تحتفظ ببعض الجمال والرشاقة ، فهي معجبة بنفسها وتحب أن تكون محط اهتمام الجميع ..
وحين كنا في ضيافة الصديق أبي حسام في حلب ، حصلت طرفة ظريفة :
استأذنتهم وهممت بالانصراف بعد الغداء ، فأصرّت فانيا أن أعود إليها من عند الباب لأودعها وحدها مصافحة ..
هو أمر عادي بالنسبة لي أن ألبي طلبا كهذا لسيدة أخرى ، لكن ليس لفانيا .. المعاندة ..
لذا .. تسمَّرْتُ ، وقلت لها : من ترغب بمصافحتي ، فلتأت إلي ولتودعني هنا .. وحين تلكأت وأبت ، قلت لها : سأعدّ للثلاثة ، قبل أن أغادر ..
فجاءت إلي تصافحني ـ وسط شماتة الحضور ـ وهي تتمتم بالبلغارية التي لم يستطع صديقي سماع أو فهم تمتمتها الخارجة من بين أسنانها المصطكة )) ..
استقبلتني معانقة ، وصافحت الأخرى " زويا " ، فدعتني للجلوس وتناول القهوة ، حيث كانت تستثمر كافتيريا صغيرة في البهو .. تجاذبنا الحديث بمقدار ما سمحت لنا به لغتنا الإنجليزية البسيطة ، حتى جاء أبو حسين يصطحبني إلى نزل آخر ..
كان البيت في الطابق الأول من مبنى ضمن مجمع سكني في مركز المدينة .. فتحت لنا البابَ سيدة ستينية أيضا ، هادئة وقورة ، تخبئ خلف نظارتيها الطبية عينين براقتين ، قادتنا إلى الغرفة الثانية عن يمين الباب ، مفروشاتها خشبية أنيقة ، وسريراها مغطيان بغطاء أبيض ناصع ، ولها باب على الشرفة الخارجية ..
كانت تتحدث مع صديقي بأناة .. لكني استطعت أن ألاحظ أن اللغة البلغارية لغة تفصيلية ثرثارة ..
وضعت حقيبتي ، وسرنا خلفها عبر الممر إلى الصالة ، وهي تشير إلى غرفتين على يمين غرفتي ويسارها ، فهمت أن في الأولى تسكن ابنة أختها ، والثانية مشغولة بابنتها مع طفلها الوحيد ..
تركنا أبو حسين بعد أن تفاهم معها بأنني سأكون ضيفهم لأسبوعين ، وأنني أرغب أن أشاركهم وجبات مائدتهم ، وليس لي شرط سوى أن يكون طعامي خاليا من الثوم والبصل واللحوم المحرمة .. وشرطها ألا أدخن داخل الغرف ..
ولم يكن لي من وسيلة للتفاهم معها سوى بلغة الإشارة ..
كنت ما أزال تحت تأثير تعب الأيام الماضية ، والليلة السابقة ، فاستلقيت على السرير ، ونمت ، لأصحو على نقرات خفيفة على الباب .. قلت : بالإنجليزية : yes ، فانفتح الباب عن شابة مبتسمةٍ بخجل كسا وجهَها حمرة شفافة ، تمتمتْ بما فهمته اعتذارا عن إيقاظي ، وهي تدعوني لتناول الغداء ..
كانت طاولة الطعام مربعة ، تجلس كل واحدة على ضلع منها ، فجلست على الضلع الرابع ، تقابلني الأم .. وعن يميني ابنة أختها " مايا " وعن يساري " غالا " ابنتها التي أيقظتني ..
كانت مايا قد استيقظت للتو ، وما زالت عيناها منتفختين حمراوين ، وهي لا تعرف أي حرف من حروف أبجديات العالم سوى لغتها .. أما غالا ، فقد كانت عائدة من معهد تتعلم فيه اللغة الإنجليزية ، " إدراكا منها بتنامي أهميتها في السنوات المقبلة " .. فصارت غالا ، أشد حرصا على التحدث إلي للتمكن من مفردات اللغة الجديدة ، وهي ـ في نفس الوقت ـ المترجمة الوحيدة في البيت ..
كان الطعام مطبوخا على نار الكهرباء ، لذيذا شديد النضج .. وهو عبارة عن خليط من الخضار باللحم ، إلى جانب الأرز ..
ولم تكن خيارات تنوع الطعام كثيرة ، فلطالما تشابَهَ الشكل أو الطعم ، أو كلاهما .. لكنه في كل الأحوال ، كان شهيا وأنيقا ومعدًّا في مطبخ نظيف ..
بعد الغداء ، انسحبت مايا لذهابها إلى العمل ، وسألتني غالا إن كنت من هواة شرب الشاي .. قلت لها : بكل تأكيد .. كلمتْ أمها ، فجاءتنا بكوبين ، ونحن ندخن على شرفة الصالة ..
كانت الشوارع قد بدأت تعج بالمشاة ، وبالسيارات الهرمة الصغيرة والدراجات ، وبين الحين والآخر تمرق سيارة حديثة ، فتشرئب أنظار المارة إليها ..
وكان ظاهرا أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قد بدأت ، لكنها ما تزال في نقطة الصفر ، وهي مثقلة بأثقال وأثقال ، لا تسمح لها بإقلاع نشط أو سلس ..
سألتني غالا عن حياتي وأسرتي ودراستي وعملي .. وبدت فرحة وهي تبحث عن المفردات الإنجليزية التي تعلمتها حديثا ، فتسألني بمزيج من اللغتين أحيانا .. لكنها تستدرك أمام عدم فهمي لسؤالها ، فتصوبه قدر المستطاع ..
قالت : إنها تتعلم الإنجليزية ، كي تساعدها على تحصيل عمل ما في المرحلة القادمة ، بعد أن صارت هذه اللغة شرطا أساسيا للتوظف .. وهي تحمل شهادة الثانوية ، ومتزوجة ، وطفلها " داني " سيعود بعد ساعة من الحضانة ..
أسندت رأسها إلى الجدار ، بعد أن أطفأت سيكارتها الثانية ، وقالت وهي تحدق في الأفق : وزوجي الآن سجين ..
صمتتْ .. أشعلت سيكارة أخرى ، التمعت دمعتها عاكسة نار الولاعة .. ابتلعت الدخان كله بشراهة .. ولذت بالصمت وأنا أتشاغل بتقليب أوراق مجلة ..
كانت متأثرة إلى حد الرعشة التي سيّحت دمعا سخيا على وجهها : منذ سنتين سجن ، ولا أعرف متى سيخرج .. لقد سرق .. نعم .. سرق ويستحق العقاب .. لكن ، ما ذنب داني ؟؟
لم يكن داني قد وصل من الروضة ، لكن الموعد أزف .. غابت غالا أكثر من نصف ساعة .. ثم عادت وقد استحمت وغيرت ملابسها ..
سألتني إن كنت أحتاج شيئا من الخارج ، فهي ستنتظر عودة ابنها في أول الشارع .. وحين عادت ، كانت تجهش وتحتضنه بقوة .. لقد أصيب بجرح عميق في جبينه ، من أثر وقعة تعرض لها في الحضانة ..
خرجتُ من البيت قبيل موعدي مع الشلة في الساحة الرئيسية القريبة ..
تجولتُ غير بعيد كي لا أضل الطريق .. ليس الناس في عجلة من أمرهم كما هو حالنا .. وكثير منهم ، من الطبقة الوسطى أو الفقيرة ..
ليس ثمة جديد أو غريب يمكن أن أتلمسه .. فكل ما شاهدته ، متآلف مع ما يعرض على الشاشات الكبرى والصغرى ..
تناولت قهوة الإكسبريس مع الكولا على طاولة صغيرة في شارع يكتظ بالمقاهي ، وتحتل طاولاتها كل الأرصفة ..
لم نألف في بيئتنا تناول القهوة مع الكولا قبلا ، ولم أستسغهما معا في البداية .. لكني لاحظت أن الجميع هنا يفعلون ذلك ، يشربونهما معا ، ويدخنون .. ويتكلمون بهدوء ، ويضحكون عاليا ..
ثم ، ومع حلول المساء ، وصلت إلى الساحة الرئيسية ، تأملت كنيسة كانت مهجورة ومازالت قيد الترميم ..
كانت الطرق مكتظة بالسيارات والمارة ، وكأن كل أهل فارنا يخرجون مساء من بيوتهم ..
عشرات ، بل مئات المقاهي منتشرة في شوارع المدينة ، في ظاهرة جديدة ، هي شغل من لا شغل له ـ كما قيل لي ـ بحيث يصدق عليها ما يشاع عن مدينة دير الزور : " أن بين كل مقهى ومقهى ، مقهى .. " وفيها الآلاف من كل الأعمار ، وإن كان الشباب أغلبية قصوى ، يتحلقون حول طاولاتها ، ما عدا الواقفين بانتظار دورهم بالجلوس ..
كان في الجو شيء من رطوبة البحر الأسود .. وفي الأرجاء ، تستطيع أن ترى أنواعا وأشكالا من أزياء صرعات الشباب والبنات ، فقد أحسست أنهم يبالغون في غرائبيتها وهم في بداية مرحلة التحول ، وكأن ما يفعلونه إنما هو رد فعل غير مباشر ، وقطيعة مع ماضيهم ، مصرّين على استبداله وتغييره ، ولو لم يكن نحو الأنسب أو الأفضل ..
التقيت بالشلة .. كانوا قد خرجوا من إسار ملابس الطريق ، وقد بدت عليهم ملامح النعنشة بعد طول عناء .. تبادلنا أرقام هواتف مسكننا ، ثم مضينا معا إلى مكتب شركة كوندور ، حيث كنا جميعا على موعد مع أبي حسين ..
في الحادية عشرة ليلا ، رافقني أبو حسين إلى باب البيت ، وقال للسيدة بأني سأكون ضيفه غدا ..
وأنا أعبر الممر إلى غرفتي كان أمامي زجاج باب غرفة غالا معتما ، بينما ينبعث ضوء خفيف من خلف زجاج باب الصالون ..
دخلت غرفتي .. كانت مرتبة على غير ما تركتها .. غيرت ملابسي وخرجت إلى الشرفة التي لغرفة غالا باب عليها أيضا ..
كنت أرغب بالتدخين ، لكن مع فنجان قهوة تركية .. وقد تأخر الوقت ، وربما دخلت الأم غرفتها ، وليس مناسبا ذهابي إلى المطبخ عبر الصالون ..
أشعلت سيجارتي من عود ثقاب بدّد شيئا من الظلام حولي .. فسمعت نقرا خفيفا عن يساري .. لم أتكلم .. بل نقرت على الباب .. خرجت غالا .. حيتني بالبلغارية ، وأعقبتها بالإنجليزية .. وسألتني إن كنت أرغب بتناول العشاء .. شكرتها ، وقلت : أرغب بالقهوة فقط ..
أحرجها طلبي فاعتذرت عن عدم وجود "بنّ " لديهم ، كونهم لا يتعاطونها في البيت إلا نادرا ..
وكنت محتاطا لذلك .. أخذت كيس بنّ من غرفتي ، ومضينا إلى المطبخ معا .. حضرتُ القهوة كما أرغبها وسط متابعة حثيثة منها ، وعدنا إلى الشرفة مع زجاجتي كولا ..
كان حاجز اللغة عائقا بيننا ، مما جعل أحاديثنا محدودة بالمفردات والجمل التي يعرفها كلانا .. لكني استشعرت منها استئناسا بما عبرت عنه : " معرفة أشياء جديدة عن شعب آخر سمعت عنه عبر وسائل الإعلام " ..
تناولت غالا قهوتي المرة على مضض ، وهي تغسل فمها بالكولا بعد كل رشفة منها ، لكنها قد تكون أفضل بالسكر ـ حسب رأيها ـ ..
وكانت بين الفينة والأخرى تذهب إلى طفلها ، تغير له الكمادات الباردة على رأسه لتخفض له حرارته من أثر الجرح ، وتعود قلقة من عدم انخفاضها ..
سمعنا انفتاح الباب الخارجي قبيل الثالثة صباحا ، قالت : هذه مايا .. ذهبت إليها وعادتا معا .. تذوقت مايا القهوة باردة ، فاستحسنتها ، وسألت عن المزيد ، فذهبتا معا إلى المطبخ ، وجاءتا بفناجين أخرى ، لكن حاجز اللغة مع مايا أكبر ، كونها لا تعرف سوى عبارة واحدة شائعة من الإنجليزية : I love you ..
مر الأسبوع الأول سريعا ..
تعرفت ـ خلاله ـ على كثير من أحياء فارنا وشوارعها وساحاتها ، وزرنا د. ترايكوف أنا وأبو حسين ، كما دعانا كيريل إلى رحلة قادتنا إلى جزيرة نيسيبر جنوب فارنا ، واستمتعنا بغداء من المأكولات البحرية ..
وحين دعانا كيريل إلى بيته ، وصلناه وأنا أحمل باقتي زهر ، خلافا للتقاليد ولرأي أبي حسين .. استـُقبلنا بحفاوة .. قدمت الأولى لفانيا حسب الأصول ، وعينها المستغربة على الثانية .. عانقت كيريل ، وقدمت له الثانية مستعينا بترجمة صديقي ، قلت له : تلك الباقة هي من حق فانيا حسب تقاليدكم .. وهذه لك ، حسب تقاليدي .. مدت فانيا يدها تحاول خطف الباقة الثانية ، الأجمل برأيها ، ثم انتظرتْ لترى نهاية الموقف بعد أن طمأنتها بالإنجليزية ، أن الباقة الثانية لها أيضا ، لكن عليها أن تصبر قليلا ..
ضحك كيريل وقال : لا أستغرب مفاجآتك .. لكن أرجو أن تشرحها لي ..
قلت له : ليس في الأمر مفاجأة .. هذه الباقة لك ، لاعتبار جوهري في حياتك .. كان يتابع الترجمة ويرمقني مستعجلا الإفصاح .. قلت : لأنك زوج فانيا ..
صاحت فانيا بفرح : أووووووووووه ..
وفي غمرة اندهاشها ، شكرتني ، وحيتني بانحناءة مسرحية لطيفة .. بينما بدا على كيريل مزيج من الغبطة والحرج الشرقي الذي أشعل خديه ..
في هذا الأسبوع أيضا ، دعتني غالا لنزور معا بيت صديقتها الكائن في أطراف المدينة .. تجولنا في الساحة الرئيسية .. التقطنا صورا .. كانت تمشي أمامي إلى الوراء .. وتتقصد أن تتكلم كثيرا بالبلغارية .. ثم عقبت بالإنجليزية : أنا أعلم أنك لا تفهم البلغارية .. لكني متأكدة أنك تحس بما أقول .. فقد رأيت ذلك في وجهك وعينيك ..
لم أوافقها بداية ، لكنها كانت محقة بالتأكيد ..
اعترضنا رجل مادا يده بالسؤال ، مددت يدي إلى جيبي فمنعتني بقوة ، وغضبت وهي تقول : كذاب .. ليس فقيرا ..
ثم هدأت ، بعد أن اختارت كتابا فلسفيا بلغاريا ، قدمته لي ، ورفعت وجهها إلى جبيني ، قبّلته ، ثم نظرت عن قرب في عيني وقالت : أنا متأكدة كما أراك أمامي ..
أثنى أبو حسين على صنيع غالا ، وفسّره بأن هديتها تدل على عمق المودة والاحترام اللذين تكنهما لي .. لأن الكتاب يعني للبلغار قيمة كبرى ..
وزارت البيت أختان توأمان ، صديقتان لغالا ، قادمتان من محيط فارنا القريب ، تتحدثان بإنجليزية مقبولة ، وعبرت إحداهما عن سعادتها بالتعرف إلي ، كعربي ومسلم ، ولا تعرف الشيء الكثير عن هذين الوصفين .. كما أجبتهما عن أسئلة تتعلقان باختصاصهما الدراسي ، حول الأدب والأدباء والشعراء العرب ، وعن اهتماماتي وهواياتي وعملي .. وكانت إحداهما تصغي لي ، والأخرى تترجم لغالا وأمها ..
وفي ليلة الأحد ، اقترحت مايا أن نخرج غدا إلى شواطئ الرمال الذهبية ..
لم أكن من هواة البحر ولا السباحة ، بل ، لا أحبها .. لكن أبا حسين شجعني ، " لأن الشواطئ ومنتجعاتها ساحرة " ..
ذهبنا معا .. كان الجو رطبا كالعادة .. وأدركت حينها من أين جاءت تسميته " بالبحر الأسود " .. فهو يشفُّ عن لون النباتات المائية والطحالب التي تتراكم في أحشائه .. كان البحر هائجا إلى درجة الغضب ، والمكان يغصّ بالآلاف ، حتى بالكاد وجدنا مساحة ننحشر فيها شبه متلاصقين .. حملتنا المياه عاليا مع المئات حولنا ، في أمواج متتالية لا يفصل بينها فاصل .. كانت تلك التجربة المائية الأولى بالنسبة لي ، فلم أحتملها أكثر من دقائق ..
في بداية الأسبوع الثاني ، ذهبت أنا وغالا إلى كافتيريا فانيا .. لم تكونا تعرفان بعضهما .. استقبلتني فانيا بعناق بدا لي حميما أكثر من كل ما مضى .. وحين بدأنا نتناول القهوة ، جلست بجانبي .. سحبتْ سيجارة ، وضعتها بين شفتيها ، وانتظرت بدلع أن أشعلها ..
راقبتُ الحرجَ الذي نضح من وجه غالا ، وهي تتحسس تصرفات من فانيا عكس ما سمعته مني .. وعندما ضاقت ذرعا ببعض التمادي المقصود ، استأذنتْ للتجول في المكان قبل أن تنهي قهوتها .. خمّنت أنها تريد أن تراقب الجو من بعيد ..
وحين خرجنا ، أيدت تخميني ..
كانت مرتاحة وهادئة ، وكأنها غير التي كانتها قبل قليل ..
قالت بعد أن ابتعدنا عن المكان : أنا واثقة من دقة وصحة وصفك لها ، وتأكد لي بأنها امرأة لها طبع وسلوك خاصّان ، وأدركتُ أنها تمادت معك لتبقى هي محل اهتمامك ، ولتشعرني أني طارئة ، وهي الأصل .. إنه سلوك لا يخفى على أحد .. وهي حرة في ذلك ، ولا تعنيني ..
ما يعنيني أنك كنت مثلي ، مستغربا تصرفاتها ..
نظرت إليها ، وثنيت ذراعي بحركة تظهر رغبتي بأن تضع ذراعها فيه .. ففعلتْ قائلة : so ..
الثلاثاء ـ 15/03/2011
التعليقات (0)