في حضن شهرزور المفرط الخصب وتحت جبال كورستان الشمّاء..كانت حلبجة الوديعة تغفو هانئة بما من الله عليها نعمائه متمرغة مترعة بطيب ارضها وصفاء هوائها ووفرة زرعها وسماحة اهلها,وقانعة بما خصتها السماء ببركتها وما صدرته الى دنيا الناس البعيدة من علوم الاولين وطرق الزهاد المتصوفة,متنعمة بموقعها الفريد على درب الحضارات و مسار التاريخ..
وفي ذلك اليوم من آذار الخير والعطاء,والناس تعد الليالي لشعلة النوروز رافعة الاكف بالدعاء ان يزيل الله عنهم غمة وشر الحرب التي طالت بين الجارين المسلمين والتي ألفوها وألفتهم وهم على بعد دقة قلب وجلة من شررها المستعر..في ذلك اليوم من آذار,وعندما كانت القدور ما زالت على المواقد..والحسناء النؤوم ما زالت ترقرق احلام الصبا في مخيلتها الفتية مغالبة نداءات امها الضجرة..وقبل ان ترفع المآذن نداء ربها الى السماء,والشوارع تضج بصراخ الاطفال ولعبهم,اغتيلت احلام البسطاء بموت الفجأة المغلف بفرقعة الرعب المكتومة ورائحة التفاح العطن..
اربعة غربان انقضت في ذلك الضحى الدامي على الناس المذعورين بمخالب من خردل وسيانيد لتترك الارض مشوهة بالجثث المتلاصقة المتزاحمة الباحثة عن أمان مفقود في جسد الآباء والامهات القليلي الحيلة امام تساقط الموت على الرؤوس الباحثة في السماء عن رحمة عزت عليهم ومنعها عنهم حقد القرون المضطرم في نفوس اعداء الحرية والحق والانسان..
دقائق تجمد فيها الزمن من يوم السادس عشر من آذار لعام1988تركت عيون الاطفال ممزقة على قارعة الطرقات المزروعة بالاجساد الطاهرة مستصرخة الضمير الانساني ان يربت على رؤوسهم الخائفة وينصفهم من بغتة الموت القاسي..دقائق اذهلت فيها كل مرضعة عما ارضعت وضاقت الارض بالناس بما رحبت واصبح العباد فيها سكارى وما هم بسكارى من الاختناق وانهمار السوائل من العيون التي تتساءل باي ذنب قتلت..وباي ذنب تهاوت البراءة على الارصفة وفي اقبية المنازل الآمنة..
يقول احد من انجاهم الله ببدنهم ليكونوا آية على المدى الذي يمكن ان تصل اليه النفوس المغمسة بالتوحش المأزوم برهاب اللاشرعية: رأيت مشاهد لن أنساها طوال العمر، فقد بدأ القصف بصوت قوي غريب لا يشبه بشيء انفجار القنابل، ثم دخل أحدهم إلى منزلنا صارخا: الغاز، الغاز، وقد صعدنا في السيارة على عجل وأغلقنا نوافذها، واعتقد أن السيارة سارت على الجثث الأبرياء، وكان بعض الأشخاص يتقيئون سائلا أخضر اللون وبشرتهم تميل إلى السواد وتصبح متورمة، في حين أن آخرين أصيبوا بهستيريا وراحوا يقهقهون قبل أن يسقطوامن دون روح، ثم شممت رائحة تفاح وفقدت الوعي. وعندما استيقظت، كانت الجثث متناثرة حولي بالمئات.
صور ومشاهد وشواهد مخيفة ومؤلمة اذهلت العالم وازالت غشاوة الماكنة الاعلامية الضخمة المتواطئة مع الجلاد,ووضعته في مواجهة مخجلة مع واقع الهوة المخزية التي ارتكس فيها النظام البائد وآلته الجهنمية واسرافه في الولوغ بدماء وكرامة الشعب العراقي كورداً وعرباً وأقليات..صور زلزلت الارض تحت ضمائر الشعوب الحرة وانتجت الريح الغاضبة المحملة بلعنات القدر والايام التي اقتلعت اركان النظام المدان ودمغته بالعار المجلل الى يوم تنتصف فيه الشعوب الجريحة من قاتليها..
ان تلك الجريمة التي استهدفت الانسانية العزلاء الآمنة ستبقى جرحا غائرا في ذاكرة الجماهيرالكوردية النبيلة و كارثة انسانية يندى لها جبين الشعوب الحرة ومصدر الم ومشاعر مفجعة في ضمير الشعب العراقي الذي يحيي هذه الذكرى بمشاعر الغضب والاستنكار والادانة ويمارس وجوده الحر من خلال التبرؤ من قوى الشر والظلام التي تطاولت على حق الانسان في الحياة..وستظل تلك اللحظات المضيئة التي خلدتها التضحيات العظيمة لاهالي حلبجة مصدر فخر واعتزاز للشعب الكردستاني والعراقيون اجمع..وستبقى تلك المدينة الباسلة التي عمدت حريتها بالدم والدموع رمزا ومعلما للبشرية وناقوس خطر يذكر الشعوب بمسؤولياتها تجاه الحرية والسلام العالمي وستبقى تلك الدماء التي سالت في لحظة فاصلة في عمر الانسانية محفورة في ضمير الشعوب الحية المحبة للحرية والخير والسلام..
التعليقات (0)