مواضيع اليوم

حكمة

حمادي بلخشين

2011-06-13 20:04:16

0

حكمة

قصة قصيرة

 

كانت الحافلة الهرمة تلهث بين الجبال و الأودية، فيما كان الحاج مرزوق يجيل نظراته الحزينة في الحقول التي بللتها أمطار الخريف الأولى، حين شعر بيد توضع على منكبه، حالما رفع رأسه متطلعا ، أنشرح صدره و أشرقت أسارير وجهه، حتى انه لم يملك نفسه من الهتاف:
ــ الحاج سعيد... مش معقول!

كان الحاج مرزوق في أشدّ الحاجة الي من يبثه همومه، و يفضي إليه بلواعج صدره، بعد أن تتابعت عليه المحن و كشرت له الحياة عن أنيابها، ولكنّ مجرّد رؤية الحاج سعيد كان له فعل السحر في نفسه.
وهو يقبل خده الشائك سأله:
ــ منذ متى لم نلتق؟
أجاب الحاج سعيد وهو يجلس الى جواره:
ــ منذ زواج ابنتك سميحة... فيما اعتقد.
كان ذلك قبل سبع سنوات تقريبا، فهاهي حفيدته سميّة تستعد لسنتها الدراسية الأولى!

الحاج سعيد اسم على مسمّى، رجل" لا تنزل الأحزان ساحته"، فمنذ عرفه الحاج مرزوق قبل خمسين سنة كان و لا يزال دائم البسمة، حاضر النكتة، عظيم الثقة بأن بعد العسر يسرا... ولما كان الحاج سعيد يؤمن بأن الحياة برمتها دار عسر و إمتحان، وأن السلامة من الآفات لا تتحقق الا في الجنان، فإنه لم يستعجل اليسر قط، ولم يقنط أبدا من تحققه. لأجل ذلك، فــان تتــابع الإبـتلاءات و تنوع النكبات لم تنل من تفاؤله، ولم تؤثر على معنوياته الشديدة الإرتفاع... و لأجل تلك الروح الإحتفالية التي حباه الله بها، فقد كان الحاج سعيد مبعث سرور كل من عايشه، و مصدر إنعاش كل من إحتك به، حتى يمكننا تشبيه الحاج سعيد ببطارية(أو ركيمة كما اتفق المجمع اللغوى على تعريبها) مركزيّة كل مهمتها المسارعة الى شحن بطاريات من خبت في أنفسهم رغبة الحياة، فمجرّد الجلوس مع الحاج سعيد، يصيب الحزين بعدوى انشراحه، حتى قبل أن يصيب مريض أعدى و أفتك أنفلونزا ضحيته الجديدة!

كانت الحافلة شديدة الإكتظاظ، ولولا نزول عشرة ركاب في أول محطة، ما تمكن الحاج سعيد من نيل مقعد وحيد ظل غافلا عن وجوده بسبب الأكياس التي حجبته عنه، ولولا تفاؤل الحاج سعيد و تركيزه الدائم على الجزء الملآن من الكأس التي خلت إلا من قطرات، ما جشّم نفسه عناء التنقل بين أكياس الطحين و أكداس الحقائب، بحثا عن مكان شاغر.

رغم ان رؤية الحاج سعيد قد أغنت الحاج مرزوق عن بث لواعج صدره ومكنونات ضميره، فان السنين التي باعدت بينهما قد فرضت عليهما تقديم عرض سريع لأهم المستجدات في حياتهما، وقد استهل الحاج سعيد ذلك، حين طفق يروي مشاهداته في " برّ النصارى"و يقص بأسلوبه الفكه ما صادفه في مملكة السويد التي طار إليها زائرا ثم مقيما، قبل أن تجبره قساوة المناخ على الرجوع الي قواعده التونسية سالما، كما أفضى الحاج مرزوق بدوره ــ وعلى سبيل الإخبار لا الشكوى ــ بما لحقه أثناء غيبته عنه من تنكر الصديق و ظلم ذوي القربى.
ــ لا تشغل بالك يا حاج مرزوق، ستبدي الأيام لخصومك ما لم يكن في حسابهم،
ثم مؤكدا:
ــ و الله يا حاج مرزوق، أن ربك سريع الحساب أعمل في الدنيا تحاسب في الدنيا.

ـــ ...
ــــ و لو بعد حين ولو بعد حين.
وهو يهز كتف الشاب الذي يجلس أمامهما:
ــ يا ولدي... يا ولدي الله يهديك، إرفق بنا... حتى ملك الموت يعطي راحة(1)!
ثم وهو يهز كتفه ثانية:
ـــ لقد قتلتنا يا ولدي بدخان سجائرك!
كان الشاب الجالس أمامهما، ومنذ صعود الحافلة، يدخن بشراهة من يريد أن يقتله النيكوتين غدا.
استدار الشاب الي الصديقين الأشيبين، تطلع إليهما طويلا ثم أجابهما بكل وقاحة:
ــ ما شاء الله، يكفيكما ما عشتما! أتركا الفرصة لغيركما.
قال ذلك ثم استدار ثانية ليخرج سيجارة جديدة أشعلها بعقب المستهلكة.
قال الحاج سعيد وهو يسحب زجاج النافذة:
ــ الله يهديك يا ولدي!
انتفض الشاب واقفا، أعاد إغلاق النافذة و هو يقول:
ــ عندي رشح قويّ ولا أحتمل برودة الهواء!
ردّ عليه الحاج سعيد دون ان تفارقه ابتسامته:
ــ يا ولدي هذا غير معقول!
صاح الحاج مرزوق محتجا:
ــ آش هالحكم الفقوسي(2)؟ تقتلنا بسمومك و تمنع عنا نسمة هواء!
قال الحاج سعيد و هو يحول بين الحاج مرزوق و بين مغادرة مقعده:
ــ اتركه يا حاج مرزوق، الله يهديه، و يصلح أولاد المسلمين.
ثم وهو يربّت على فخذ صديقه مهدّئا:
ـــ صدق والله من قال: الشباب شعبة من الجنون.
كان الشاب المدخّن قد دسّ سماعتي راديو في كلتا اذنيه، إمعانا منه في تجاهل الصديقين الأشيبين.. لأجل ذلك لم يبلغه ما قاله الحاج سعيد عن الشباب و الجنون.
رغم تكهرب الموقف، أضاف الحاج سعيد معارضا صديقه القديم:
ــ ليس كل فقوس الدنيا معوجّا كفقوس بلادنا !
ثم وهو يضيف مبتهجا:
ــ و الله يا حاج مرزوق، بعيني هذه التي ستأكلها الدود و التراب، رأيت الفقوس في بلاد برّ النصارى مستقيما كالمسطرة، لا تجد فقوسة معوجّة!
تساءل الحاج مرزوق متعجبا:
ـــ كبير و صغير؟
قال الحاج سعيد و هو يسترق النظر الي الشاب فيما كان يسحب النافذة:
ــ كبير و صغير يا حاج
ــ ....؟!
ـــ إستقام القوم فأستقام فقّوسهم.
ثم وهو يحرك رأسه متعجبا:
ــ و الله لا ينقصهم من الإسلام الا لااله الا الله... ثقة و أمانة متبادلة... الرخاء عمّ الجميع... لا عندهم بترول ولا شيء.. لا تجد هناك سائلا و لا محروما، ولا سجينا مظلوما... و الله يا حاج مرزوق، المواطن السويدي يدخل شقته و يترك حذائه الذي يساوي مرتّب موظف تونسي أمام الباب و لا يمّسه أحد، في حين لا يطمئن الواحد منا على نعله القديم حتى في بيت الله!
كان الحاج مرزوق يزم شفتيه تعجبا حين أضاف الحاج سعيد:
ــ كما أن شركة الحليب و مشتقاته تكدس السلع أمام الدكاكين المغلقة فلا يعتريها نقص حتى يدخلها صاحبها.
كان الحاج مرزوق فاغرا فاه حين أضاف محدثه:
ــ ذات مرة استبطأني ولدي... فنزل الى السوبر ماركت التي تقع تحت عمارته مباشرة، حيــن رآني تبسّـم، أخبرني بــعد ذلك، أن رئـــيس ـ

الوزراء السويدي كان يقف ورائي مباشرة لينتظر دوره كسائر خلق الله...
ـــ ...!
ـــ حتى ملك البلاد تجده في وسائل النقل العمومية!

حين توقفت الحافلة في مدينة بوسالم، نزل الشاب المدخن لشراء بعض ما تزخر به المحطة من صنوف المشروبات و أنواع المرطبات و السندويتشات، في حين إستغل الحاج سعيد تلك الهدنة لفتح النافذة على مصراعيها، بينما تدفق الباعة المتجولون و بأيديهم سلال الخبز و البيض و المشروبات الغازية، مما أغني سائر الركّاب عن النزول و المقامرة بكراسيّهم، خصوصا وقد توافد ركّاب جدد سرعان ما بدت علامات الإمتعاض و الخيبة على وجوههم فور تأكدهم من مكابدة الرحلة وقوفا.

فيما كان السائق يعيد تشغيل المحرك العجوز، ظهر كهل اقرع قاسي الملامح، ما أن استقر على أرضية الحافلة حتى شرع يبحث عن مقعد شاغر، ما أن عاين الفراغ الذي خلفه الشابّ حتى يممّ وجهه شطره... فيما كان يهمّ بإخلاء المقعد مما حواه، إستوقفه الحاج سعيد معتذرا:
ــ يا ولدي، يا ولدي هذا المقعد ليس شاغرا.
تجاهل الكهل الأقرع تحذير الحاج سعيد.. حتى أنه لم يكلف نفسه مجرّد الردّ عليه، فقد تناول معطف الشاب ثم رمى به على أقرب كيس طحين، دون ان يكلف نفسه حتى إعادة صحيفة سقطت من بين ثناياه، بل تركها ملقاة على الأرض قبل أن يستقر جالسا!
حين أعاد الحاج سعيد تنبيهه، رد عليه بضيق شديد:
ــ يا بابا من فضلك، لا تتدخل فيما لا يعنيك!
هتف الحاج مرزوق متشفيا:
ــ يا حاج سعيد، يرحم الله والديك، دع الرجل يجلس!
ثم وهو يقول بصوت خافت:
ــ أترك ارطبون الروم لأرطبون العرب!
دهش الشيخان حين رأيا الكهل الأقرع يلتقط الجريدة الملقاة ثم يشرع في تصفحها!
صاح الحاج سعيد محتجا:
ــ مش معقول يا حاج مرزوق.. الشاب جارنا رغم كل شيء.. و الجار أوصى به النبي!
رد عليه الحاج مرزوق معارضا:
ــ حتى لو كان خنزيرا مثله؟
هز الحاج سعيد رأسه مرتين ثم قال مؤكدا:
ــ الجار جار ولو جار!
فيما هم يتجادلان، اقبل الشاب ممسكا بسندويتش و زجاجة بيبسي كولا، ما أن عاين مقعده المغتصب حتى جن جنونه، اتجه نحو الأقرع و هو يصيح:
ــ انهض يا خويا انهض يا خويا.. فهذا المقعد لي.
ثم وهو يشير الي جريدته:
ــ وهذه الجريدة لي!
ثم وهو يفتش حواليه:
ــ أين معطفي؟
تضاعف جنون الشاب، حين تبين له ما لحق معطفه الأنيق من كيس الطحين الذي تناثرت محتوياته..شرع الشاب يرج ذراع الأقرع و هو يصيح فيه:
ــ هل أنت من فعل هذا بمعطفي؟
ثم وهو يتساءل مقلبا بصره بين المسافرين:
ــ هل هذا الرجل مجنون؟
دون ان يحول نظره عن الجريدة المفرودة أمامه، رد عليه الكهل الأصلع ببرود:
ــ أرني اسمك على المقعد، و أنا أتركه لك في الحال!
حين حاول الشاب الغاضب إجبار غريمه على القيام، إستدار الأخير نحوه، جذبه اليه ثم عاجله بنطحة أسقطته أرضا! حين أستفاق الشاب من أثر الصدمة، وتأكد من عدم قدرته على منازلة الباغي. إنزوى في ركن من الحافلة ثم شرع يتطلع الى غريمه بغضب و غيظ.

بعد حوالي نصف ساعة، وعندما أدركت الحافلة مدينة جندوبة، غادر الشاب المدخن بعد أن أوسع غريمه شتما و وصفا بأقبح النعوت، قبل أن يطلق ساقيه للريح!

كانت الحافلة تتهيأ للانطلاق من جديد، حين سمع السائق وهو يعلن متأففا:
ــ أعوذ بالله يا جماعة، على من صبّحنا اليوم، هذا ولد علجيّة... أكبر منحرف في الجمهورية التونسية!
ثم وهو يلتفت الي جموع الراكبين:
ــ بالله عليكم يا جماعة تحملوه قدر طاقتكم حتى تمرّ بقية الرحلة بسلام.
ما ان اتم السائق كلامه، حتى ظهر شاب شديد السمرة، قصير القامة، تبدو على محياه علامات الشر، بمجرد صعوده، طالب السائق بسيجارة.. فور تناوله علبة الكريستال، أخرج منها واحدة ثبتها على أذنه اليمنى، ثم تناول أخرى ثبّتها على أذنه اليسرى، ثم سحب ثالثة أشعلها.. نفث الدخان عاليا وهو يخاطب السائق:
ــ هات تذكرة حتى يفرج ربيّ!
رد السائق بصوت يشوبه ذل و مسكنة :
ــ حرام عليك يا ولد علجية
ــ...
ـــ هذه المرة الثالثة التي أقتطع ثمن تذكرتك من خبز أولادي!
ضحك ولد علجيّة ثم قال:
ــ اذا كانت الأزمة العالمية قد أثرت على اقتصاديات الدول العظمى، فكيف لا تؤثر على ولد علجيّة البطّال!

ظل ولد علجيّة جالسا في مدخل الحافلة بعد أن أجبر السائق المغلوب على ترك الباب مفتوحا.. بعد حوالي ربع ساعة غادر مكانه ثم شرع في البحث عن مقعد شاغر.. ما أن عاين الكهل الأصلع حتى اتجه نحوه وهو يصيح بأعلى صوته:
ــ أنت هنا يا ولد الكلب؟!
ما ان دنا منه حتى هوى عليه بصفعة مدويّة جعلت الصديقين الأشيببن( الذين استسلما الى نوم متقطع) ينهضان مذعورين. قال الكهل الأصلع وقد،علت وجهه صفرة من سيق الى مشنقة:
ــ بحثت عنك طويلا لكنني...
قاطعه ولد علجيّة صائحا:
ــ إنهض أوّلا حتى يقعد سيدك!
نهض الأقرع مسرعا، ما أن استقر ولد علجية على مقعده حتى صاح بأعلى صوته:
ــ عم إبراهيم، ياعم إبراهيم.
ثم وهو يدفع بالأقرع نحو السّائق:
ــ خذ من هذا الحمار ثمن خمس تذاكر!
صاح السائق مغتبطا:
ــ ثلاث فقط يا ولد علجيّة.
ثم مستدركا:
ــ فالظلم حرام!
صاح ولد علجيّة مصوّبا:
ــ خذ منه ثمن رحلتين قادمتين!
ــ ...
فمشاركة الأولاد خبزهم حرام أيضا!
فيما كان الأقرع يسدّد ما أغرم به، انحنى الحاج سعيد على الحاج مرزوق ثم قال له هامسا:
ــ حاج مرزوق
ــ ..
ـــ هل تذكر.. قبل خمس ساعات فقط
ـــ ...
ـــ حين قلت لك " أعمل في الدنيا تحاسب في الدنيا ولو بعد حين".
قال الحاج مرزوق مؤيدا:
ــ أي نعم والله.
ــ و لكن يبدو لي أن الأمر أعجل من ذلك!
ــ ماذا تريد ان تقول ياحاج سعيد؟
قال الحاج سعيد موضّحا:
ـــ ما حدث أمامنا يحملني على القول " أعمل في الكار"
ثم وهو يقرع بعكازه أرضية الحافلة:
ــ تحاسب في الكار"(3)!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ملك الموت يعطي راحة: مثل تونسي يقال لمن أرهقك ولم يعطك مهلة للراحة او لاسترجاع أنفاسك. والمثل يعني: حتى ملك الموت يمهل المحتضر( استنباطا من حالة الإنتعاش الكاذب التي تنتاب المحتضر قبيل موته).
(2) الفقّوس: خضر من فصيلة الخيار لكنها أطول كما تختلف عن الخيار بكونها معوجّة. و الحكم الفقّوسي( تعبير تونسيّ) هو الحكم المخالف للمنطق و العدل.
(3) الكار: الحافلة بالعامية التونسية.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !