في الذكرى السابعة لرحيل صوت الأرض طلال مداح، الفنان الأقرب من الناس، أورد حكايتين يرويهما الفنان طاهر حسين، فالأولى رأى فيها صوت الأرض وهو يعزف العود ويغني في إحدى حفلاته بمدينة الطائف ليقرر طاهر حسين تعلم العزف على العود واحتراف الفن. أما الثانية فجمعته بصوت الأرض بعد ما يقارب الأربعين عاما في إحدى الرحلات الفنية إلى جز الكناري. وهي حكاية توضح ما كان عليه طلال مداح من بساطة في مسلكه الحياتي الخاص:
الحكاية الأولى:
قبل منتصف الليل كنتُ أسير في أحد شوارع الطائف، في حي طالع قريباً من خان المفتي، حين رأيتُ ضوء احتفال في أحد الأزقة ينبعث منه صوتٌ أخاذ لم أسمع بمثله إلا في الراديو، مشيتُ نحو الصوت كمن يسير في المنام، وصعدت الدّرج حتى بلغت السطح، حيث كان أهل البيت يقيمون احتفالاً علمتُ في ما بعد أنه كان لمناسبة عودة ابنهم من بعثة تعليمية بمصر، تقدمت أشق طريقي بين الجموع المتكدسة على مدخل السطح حتى رأيته لأول مرة، كان طلال مدّاح في صدر المجلس المتسع باتساع السطح ممسكاً بآلة العود التي لم يسبق لي أن رأيتها في حياتي، كانت هذه اللحظة أبديةً وشاسعة كحقول الذرة التي قطعتها سيراً من اليمن حتى مدينة الطائف، وباتساع الأودية والشعاب والجبال الراسخة منذ الأزل على حافة البحر الأحمر كي تميز الكائنات الجبلية بشقائها الذي يخلقها من جديد كلما تكرّر.
تلك اللحظة كانت كل ما أريدُ منذ تلك الليلة. إن الأبدية تمرّ في لحظة محملة بكل ما نرغب في تحقيقه عبر سنواتٍ طوال. انتهى عهد الإمام، وأنا لم أعد إلى وطني، لكن اليمن كان دائماً معي كفيض أفلوطين، الآلهة التي لا نذهب إليها بل هي من يأتي إلينا.
الحكاية الثانية:
كنا في رحلة فنية إلى جُزر الكناري، كان ذلك في بداية الثمانينيات الميلادية. ما إن وصلنا حتى اقترح عليّ طلال أن نخرج لرؤية معالم مدينة لاس بالماس، فانطلقنا نجوب المدينة الصغيرة في سيارة أجرة. وبعد أن أحطنا بالمدينة ومعالمها، اقترحتُ على طلال أن نصعد إلى قمة الجبل المطل على المدينة، فوافق، وصعد بنا التاكسي حتى القمة. رأينا على مد البصر الحقول الزراعية، كانت قمة الجبل منبسطة وشاسعة، وتتوزع فيها الأكواخ الصغيرة والمزارع التي كان بعضها على شكل مدرجات. ارتأى طلال أن نصرف السائق وأن نبقى في الجبل لبعض الوقت، وهذا ما حدث. كنا نجلس في مواجهة ذاكرة مدينة الطائف، أنسانا اخضرارُ أشجار التين والبرشومي والعنب الوقتَ، وعندما حلّ الظلام أردنا أن نعود، لكننا لم نجد سيارة تقلنا إلى سفح الجبل، كما أننا لا نجيد الإسبانية. وبعد أن أعيتنا الحيلة جلسنا ننتظر معجزة لتحل مشكلتنا، فالجبل كان عالياً ومتعرجاً ومتعدد المسالك وهو ما يعني استحالة أن نغامر بنزول تلك المتاهة مشياً. لكن حدثت المعجزة التي لم يطُل انتظارنا لها، إذ مرَّ بنا أحد المزارعين الذي ما إن رآنا حتى فهم بسهولة ما نحن فيه، فلم يكن مظهرنا يدل على أكثر من غريبين تاها في قمة هذا الجبل المعتم، استضافنا المزارع في أحد الأكواخ. وفي صباح اليوم التالي ركبنا ثلاثة حمير بصحبة ابن المزارع الذي كان دليلنا إلى سفح الجبل.
أحبك لو تكون حاضر:
http://www.youtube.com/watch?v=MXWxpSFM9Yk
التعليقات (0)