حكاية سلوا كؤوس الطلا بين شوقي وأم كلثوم
بقلم: حسن توفيق
عن روعة الموسيقي وجمالها في شعر أمير الشعراء، يقول العلامة الدكتور شوقي ضيف إن موسيقي شوقي أكثر صفاء وعذوبة من موسيقي البارودي، وكأنه كان يعرف أسرار مهنته معرفة دقيقة، وخاصة من حيث الصوت وما يتصل به من أنغام وألحان، ولعل ذلك ما جعل شعره أطوع للغناء من شعر صاحبيه البارودي وحافظ معا، فقد أكثر المغنون في عصرنا من تلحين شعره وتوقيعه.. .
والحق أن شوقي الإنسان كان عاشقا للموسيقي وللغناء، ويكفي أنه احتضن مطربا ناشئا بصورة وثيقة، تكاد تماثل احتضان أب حنون لابنه البار، وقد أصبح هذا المطرب الناشيء - فيما بعد - موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.
بدأ عبدالوهاب غناءه لشوقي بالقصائد الغزلية الرقيقة والقصيرة، ومن بينها مضناك جفاه مرقده و مقادير من عينيك حَوَّلْنَ حاليا و ردت الروح علي المضني معك و علموه.. كيف يجفو.. فجفَا وفيما بعد انطلق لغناء قصائد عديدة من شعر أمير الشعراء، من بينها سلام من صبا بردي أرقُّ .
لم تقترب أم كلثوم من أمير الشعراء، ربما لأنه كان يحتضن منافسها عبدالوهاب في ذلك الزمان البعيد، لكن شوقي المولع بالموسيقي والغناء قام بتوجيه دعوة لأم كلثوم، وقد لبت هي الدعوة سعيدة ومبتهجة وقامت بالغناء في كرمة ابن هاني أمامه، وأحس الأمير الشعري بالنشوة تغمر روحه، فقام من مجلسه ليحيي أم كلثوم بعد أن غنت، حيث قدم لها كأسا من الطلا - الخمر، وقد تصرفت أم كلثوم بدبلوماسية ولباقة، حيث رفعت الكأس لكي تمس شفتيها دون أن ترشف ولو قطرة واحدة، لأنها لا تشرب الخمر، وقد أعجب شوقي بتصرفها الدبلوماسي وبلباقتها، فضلا عن إعجابه بغنائها بطبيعة الحال.. وعندما خلا بنفسه وانفض الساهرون، كتب قصيدة رقيقة، وفي الصباح أوصلها بنفسه - وفقا لرواية - ويقال - في رواية أخري - إنه وضع القصيدة داخل مظروف مغلق وأرسل من يسلمها إياه، وفي البداية تصورت أم كلثوم أن أمير الشعراء اراد أن يكافئها مكافأة مادية لقاء غنائها في الليلة الماضية أمامه، لكنها اكتشفت أن المظروف يضم قصيدة مكتوبة عنها.. ظلت القصيدة نائمة منذ سنة 1932، السنة التي رحل فيها شوقي، حتي سنة 1944 عندما عهدت بها إلي الموسيقار العبقري رياض السنباطي وقامت بغنائها، بعد أن تم تغيير كلمات بيتين، ورد فيهما ذكر أم كلثوم بالإسم، ويصور مطلع القصيدة كيف وضعت أم كلثوم الكأس علي شفتيها ثم أبعدتها دون أن تشرب:
سلوا كؤوس الطلا هل لامستْ فاها
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
أما البيت الأخير، فقد كان في صياغته الأصلية وفقا لما كتبه شوقي:
يا أم كلثوم.. أيام الهوي ذهبتْ
كالحلم.. آهاً لأيام الهوي آها
هذه هي حكاية سلوا كؤوس الطلا .. لكن أم كلثوم - في تقديري - لم تكن البادئة بغناء قصائد من شعر شوقي، فقد سبقتها أسمهان عندما غنت قصيدة هل تيم البان ومطلعها:
هل تيم البان فؤاد الحمام
فناح فاستبكي جفون الغمام
وفيما بعد.. غنت الرائعة فيروز قصائد عديدة من شعر شوقي، كان عبدالوهاب قد غناها من قبل، ومن بينها:
يا جارة الوادي.. طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
تحية للعبقري الضخم أمير الشعراء أحمد شوقي الذي يظل حاضرا بقوة عند محبي الشعر العربي ومتذوقيه، رغم غيابه عنا يوم 14 أكتوبر سنة 1932 أي منذ سبع وسبعين سنة.
التعليقات (0)