" وأما حقّ السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلاّ لفوّهة كريمة، تحدث في قلبك خيراً أو تكسبك خلقاً كريماً فإنه باب الكلام إلى القلب يؤدّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شرّ"
هذا المقطع من رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين عليهما السلام يتحدث عن حق حاسة السمع، وهي الجارحة التي تمثل بوابة بين العالم الخارجي والقلب أي العقل، تتلقى مختلف الأفكار والرؤى والمعاني التي تصل إليها في صيغة صوتية، ومن ثم كان لهذه الجارحة حق على صاحبها أيضا، وسوف تكون يوم القيامة شاهدة له أو عليه.
يقول تعالى في سورة «فصلت»: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ «20»﴾.
وإذا استحضر الإنسان هذا المعنى العظيم من شهادة الجوارح عليه، وعلم أن لها حقوقا يجب أن تصان لأن في صيانتها صيانة لكرامة الإنسان نفسه، فإنه لن يقدم لها الأدلة الدامغة ضده باستماع اللهو والغيبة والبهتان والنميمة والغناء وغيرها من المحرمات.
السمع كما يقول الإمام السجاد هو باب الكلام إلى القلب، فعن طريق السمع يدخل الكلام خيره وشره إلى العقل، وبالتالي فإن الإنسان يحتاج إلى وضع مرشحات لتصفية مسموعاته، حتى لا يتلوث داخله بالكلام البذيء أو التافه. إن العالم اليوم مشغول بالتلوث البيئي كثيرا، وهو أمر مستحسن، إلا أنه وللأسف يهمل مسألة أخطر وهي تلوث النفس البشرية بالأفكار التافهة، والرؤى المريضة، والمعاني القذرة، والمسموعات القبيحة.
الإمام يجعل للسمع حقا يتمثل في إبعاده عن أي دور لا يليق به، وأن يجعل مصادره التي عنها يستقبل ويتلقى الأفواه الكريمة فقط التي تؤثر إيجابا في حياته من الناحية الفكرية أو السلوكية.
يقول الإمام الباقر في تفسير قوله تعالى:: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ﴾، قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه».
وقد فصل الإمام علي حق السمع في وصيته الحقوقية لابنه محمد ابن الحنفية، فقال له واعظا:
" ففرض على السمع أن لا تصغي به إلى المعاصي فقال عز وجل: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ وقال عز وجل: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ ثم استثنى عز وجل موضع النسيان فقال: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وقال عز وجل: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ وقال عز وجل: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ وقال عز وجل: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ فهذا ما فرض الله عز وجل على السمع وهو عمله. "
السمع السميع يكون بابا للخير العميم والجنة، كما في قصة الجن الذين استمعوا القرآن فآمنوا به:
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا «1»﴾ سورة الجن.
والسمع الأصم يكون بابا للشر والنار، ونعني بالسمع الأصم ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: ﴿قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا﴾.
فالإنسان قد يسمع ويعي، ولكنه لا يطبق شيئا مما سمعه أو وعاه، فحاله حال من لم يسمع أصلا. ولذا فقد في تفسير علي بن ابراهيم لقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ «10» سورة الملك. قال: قد سمعوا وعقلوا، ولكنهم لم يطيعوا ولم يفعلوا.
التعليقات (0)