رد القاضي « récusation du juge »
يعرف حق الدفاع على انه الدعاوى التي يتيح القانون فتحها للشخص الملاحق قضائيا لتسمح له الدفاع عن نفسه ومصالحه ورد التهم الموجهة إليه, وعرض اطروحاته الخاصة. ويدخل فيه:
اختيار محام واستشارته, الإطلاع على ملف القضية, الحق في المحاجة القضائية, استجواب الشهود, طلب خبرة تقنية. إضافة إلى ممارسة حق الطعن بالقرارات الصادرة في غير صالحه. والادعاء بعدم قانونية الملاحقات. وحتى إذا تطلب الأمر الطعن في نزاهة القاضي. وهذا الحق الأخير هو ما سنتطرق إليه في السطور التالية.
مجموع هذه "الحقوق ـ الدعاوى ", كما يصفها فرنسوا سان بيير في كتابه دليل الدفاع الجزائي, تشكل نظام الدفاع الجزائي المرتبط بالحقوق الأساسية والإجراءات الضرورية لممارستها فعليا, بمبادرة الشخص الملاحق ومحاميه.
حق الدفاع هذا عرف تطورات مستمرة عبر تاريخ القضاء الفرنسي, منذ عام 1808 بإصدار المجموعة القانونية, النابليونية, للتحقيق الجنائي code d’instruction criminelle في 17 نوفمبر 1808 في ظل الإمبراطورية, والى يومنا هذا. وليس هنا مجال تعقب هذا التطورات ومحتواها, وإنما تكفي الإشارة فقط إلى انه في الثمانينات من القرن الماضي كانت تجري معارضة الإجراءات الجزائية الفرنسية بنموذج " الدعوى العادلة procès équitable " الأوربية. مما أثار ضرورة الدعوة لإجراء إصلاحات واسعة.
في التسعينات تشكلت لجنة برئاسة البروفسور دالماس مارتي وتوصلت لعرض تبني إجراءات اتهامية قريبة جدا من النموذج المعمول به حديثا في ايطاليا. ولم يلق هذا قبول الحكومة الفرنسية القائمة آنذاك. كما انه بدا معارضا للتقاليد والثقافة الفرنسية في هدا المجال, وكذلك للفكر القانوني الذي يختلف عن الفكر الانكلو سكسوني.
وفي خلال الأعوام المذكورة صوت البرلمان على العديد من القوانين الإجرائية الجزائية ذات الأهمية الكبرى, ومنها بشكل خاص: قوانين 4 جانفي 1993 و 15 جوان 2000 التي منحت الدفاع حقوقا جديدة, بشكل دفع ممارسة الدفاع الجزائي إلى تحولات كبيرة. وقوانين 9 سبتمبر 2002 و 9 مارس 2004 المطورة لمسائل الإكراه, كما يرى فرنسوا سان بيير , وصولا إلى التعديلات التي جاء بها قانون 5 مارس 2007.
يعترف العديد من القضاة تلقائيا بالوقوع تحت التأثير, ولو لمرة واحدة, خلال اتخاذ القرارات, حسب ما يذكر جورج فينيش احد قضاة التحقيق الذي حقق في قضايا حساسة خلال فترة عمله ( Georges Fenech, presse, justice : liaisons dangereuses ). وسوف لا نشير هنا إلى أنواع التأثيرات المتعددة التي تؤثر في استقلال ونزاهة وحياد القاضي. وسنكتفي بالإشارة فقط لما يراه القانون الجزائي الفرنسي لرد القاضي أو المحكمة , خشية ما يمكن أن يشوب الاستقلال والحياد والنزاهة من عيوب, ويؤثر بالتالي في القرارات المتعلقة بأحد أطراف الدعوى في القضية التي يُنظر فيها, أو يُطلب النظر فيها.
يقوم القاضي من تلقاء نفسه, وبعيدا عن أية مبادرة من احد أطراف النزاع أو محاميه, بالطلب من الرئيس الأول للغرفة التي يتبع لها, أو لرئيس المحكمة, أن يعين قاض آخر غيره للنظر في الدعوى والمداولات الخاصة بها.
وحسب المواد 339 و 340 من قانون الإجراءات المدنية الجديد تسمى هذه الحالة الامتناع abstention . ويُقال أن القاضي امتنع عن الحكم se déporte
أما عندما تأتي المبادرة من احد أطراف الخصومة أو محامية, فان حق الوصول إلى قاض بديل عن القاضي المعني, والإجراءات المتعلقة بها, تسمى رد القاضي la récusation.
وقد بينت المواد L518-1 و R 518-1 وما يليهما من قانون التنظيم القضائي, و المادة 341 و ما يليها من قانون الإجراءات المدنية الجديد, الشروط والإجراءات الواجب إتباعها بهذا الصدد.
حق الملاحق قضائيا في طلب رد القاضي أو المحكمة, وطلب تعيين قاضي بديل عنه, أو محكمة أخرى غير المكلفة بالنظر بقضيته, يمكن أن يثار في مواجهة أية محكمة, وحتى ولو كان القاضي غير مهني professionnel , كان يكون محكما, أو وسيطا, أو عضوا في محكمة العمل والعمال, أو محلفا في محكمة جنائية. و في أية درجة من درجات المحاكم. كان يكون عضوا في محكمة النقض. وفي اية مرحلة من مراحل الدعوى, وهو حق غير منازع فيه في القانون الجزائي الفرنسي.
كما يرتب حق الدفاع المطالبة بإدراج مسؤولية القاضي وبالتعويض عن الأضرار التي لحقت بالطرف المتضرر.
فالمبدأ أنه عند الشك في عدم توفر ضمانات النزاهة والاستقلال والإنصاف, للملاحق قضائيا حق طلب رد القاضي أو المحكمة عن النظر في قضيته, وحق الاستجابة لطلبه.
فمحكمة استئناف تولوز, على سبيل المثال, قضت بأنه إذا كانت المادة 674 من قانون الإجراءات الجزائية تعود برد القاضي بموافقة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف إلى المادة 668 من نفس القانون يبقى, من حيث المبدأ, أن الأسباب التي من اجلها يسمح لقاضى أن يمتنع عن القضاء, ليست محددة بالقانون, وبأنها يمكن أن تعود إلى ضميره وحده, ولواجبه بالنزاهة كما تفرضها المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الاساسية (C.A. Toulouse, ord., 15 /2/2001 BICC n° 542 ).
ونظم قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي الإجراءات المتعلقة برد القضاة أو المحاكم. فمن حيث المبدأ يجب ان تسمح دعاوى الرد للشخص الملاحق قضائيا بالتماس, والحصول, على تنحي القاضي أو المحكمة, المكلف أو المكلفة, بالنظر بقضيته, عندما ى تكون ضمانات النزاهة والاستقلال غير كافية.
1ـ دعوى الاشتباه suspicion المشروع ( المادة 662 وما يليها) وبمقتضاها تستطيع الأطراف تبليغ الغرفة الجنائية لدى محكمة النقض بعريضة تهدف لتنحي كل قضاء تحقيق, أو قضاء حكم, بسبب الاشتباه المشروع, بعد التوقيع عليها من قبل المدعي شخصيا, أو من قبل محام لدى محكمة النقض, وان تبلغ بها كل الأطراف المعنية التي تستفيد من مدة 10 أيام لتقديم مذكرات ملاحظات mémoires d’observations لقلم محكمة النقض . ليس لتقديم الطلب اثر على الإجراءات المطعون فيها إلا إذا قررت الغرفة الجنائية غير ذلك.
تقوم الغرفة الجنائية بقبول الطلب إذا توفرت فيه شروط القبول, وتعيين المحكمة التي ستنظر في الدعوى. أو أن ترفضه, وذلك بقرار, في كلا الحالتين, يُبلّغ للمعنيين (المادة 666 من القانون المذكور). ويمكن تقديم طلب جديد في حالة الرفض على أن يؤسس على وقائع جديدة.
2ـ دعوى الرد récusation
ـ أسباب الرد حسب المادة 668 من قانون الإجراءات الجزائية:
حددت المادة 668 وما يليها من القانون المذكور 9 أسباب قانونية لتبرير التماس رد القاضي. فإذا وجد سبب أو أكثر من هذه الأسباب التي تشير إلى وجود نوع من القرابة, أو القرابة بالمصاهرة, أو جود ود, أو كراهية شخصية بين احد أطراف الدعوى وبين القاضي, أو زوجه, أو من يعاشره, أو من يرتبط معه بعقد تضامن اجتماعي ( pacsé ) وهي :
ـ القرابة مع احد أطراف الدعوى
ـ المصلحة في النزاع. كون القاضي, أو الأشخاص المشار إليهم, هو الوصي, أو القيم, أو المستشار القانوني, أو مدير الشركة موضوع الدعوى.
ـ صلة قرابة بين القاضي, أو الأشخاص المشار إليهم, وبين الوصي أو القيم أو المستشار القانوني أو الإداري, لطرف في الدعوى.
ـ النظر المسبق في لدعوى من قبل القاضي, بصفته قاض, أو محكم, أو مستشار, أو انه أدلى بشهادة حول الوقائع بصفته شاهد.
ـ دعوى سابقة بين احد أطراف النزاع و زوج القاضي وعائلته أو أنسابه.
ـ دعوى مقدمة في محكمة احد أطرافها القاضي نفسه.
ـ وجود خلاف مشابه لذلك القائم بين أطراف الدعوى.
ـ وجود أي مظهر من طبيعة يمكنها أن تثير الاشتباه بنزاهة القاضي.
أما قضاة النيابة العامة, فهناك تعارض بالنصوص بشأن ردهم. فالمادة 669 من قانون الإجراءات الجزائية تقرر بأنه لا يمكن أن يكون قضاة النيابة العامة موضوع طلب رد. غير أن الفقرة الأخيرة من المادة L. 111-6 من قانون التنظيم القضائي تبيح طلب رد قاضي النيابة.
ويمكن أن يفسر هذا التناقض, كما يرى فرنسوا سان بيير, بغياب تجديد قانون الإجراءات الجزائية عند تنقيح قانون التنظيم القضائي عام 2006. وباعتبار هذا النص هو الأحدث فيمكن أن يفرض نفسه على انه الحل الجديد. عندما يكون قاضي النيابة طرفا منضما partie jointe يمكن رده, مثل قضاة الحكم ( COJ. Article L.111 – 6, el. dernier ). في حين أن أحكام المادة 669 من قانون الإجراءات الجزائية تمنع صراحة رد قاضي النيابة. وهذا تناقض واضح كما يقرر الكاتب المذكور أعلاه.
على المدعي تقديم عريضة الرد, موقعة من قبله, إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ذاكرا فيها اسم القاضي أو القضاة المطلوب ردهم والمبررات المؤسسة عليها دعواه.
3ـ دعوى الرد لمصلحة حسن الإدارة المادة 665 فقرة 2 من قانون الإجراءات الجزائية.
لم يتم تحديد مفهوم " حسن إدارة العدالة" ويمكن أن يعني كل الظروف والشروط المعاكسة للسير الجيد للدعوى (فرنسوا سان بيير).
يقدم فيها المدعي طلبه إلى النائب العام لدى محكمة الاستئناف صاحبة الاختصاص المكاني. ويقوم النائب العام بتبليغ الغرفة الجنائية بذلك, أو برفضه. وفي هذه الحالة الأخيرة يبلغ المدعي خلال 10 أيام من استلام الطلب. ويمكن عندها للمدعي الطعن أمام النائب العام لمحكمة النقض. ويقوم هذا الأخير بتبليغ الطلب المذكور للغرفة الجنائية لمحكمة النقض التي تبت فيه خلال 8 أيام, وإما برد الطلب مع تبليغ المدعي بذلك.
معيار النزاهة والاستقلال التي تنص عليها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان هي في أساس الإجراءات المتعلقة بالاعتراض على القضاة والمحاكم. ومفهوم الشك القانوني يُفسر على انه التأثير على هذه الضمانات المقدمة من قبل المحكمة والقضاة.
فحق الشخص "بان تنظر في دعواه محكمة مستقلة ونزيهة " حسب ما تقرره المادة 1ـ6 من الاتفاقية الأوروبي لحقوق الإنسان, يجب أن يكون حقيقيا وضمونا. ويطبق هذا المبدأ على مراحل التحقيق الابتدائي والحكم. ومع ذلك فان القانون الداخلي للدولة لا ينص إلا على حالات محدودة لتطبيق هذا المبدأ. فلا يحتوي قانون الإجراءات الجزائية إلا على 4 مواد تعالج بشكل ضمني نزاهة قاضي الحكم: المادة 49 فقرة 2 تحرم على قاضي التحقيق أن يشارك في قضاء الحكم في القضية التي حقق فيها. المادة 253 تمنع القضاة الذين أنجزوا في قضية معينة أعمال ملاحقة أو تحقيق من الجلوس للحكم في نفس القضية في محكمة الجنايات. المادتان 311 و 328 تمنعان المحلفين والمستشارين في محكمة الجنايات من الإدلاء بآرائهم خلال المرافعات. أو أن يعبر رئيس هذه المحكمة عن رأيه في جرمية المتهم.
مرسوم 8 ديسمبر 2006 الذي حمل إصلاحا لقانون التنظيم القضائي, أحال في تعريفه للخصائص الأساسية لمبدأ نزاهة المحاكم على نص المادة 668 من قانون الإجراءات الجزائية المنظمة لدعاوى القضاة.
طلبات تغيير قضاة التحقيق
للشخص المشتبه فيه حق الالتماس, والحصول, من غرفة التحقيق, أو من رئيس المحكمة الابتدائية الكبرى, على تنحية قاضي التحقيق المكلف بقضيته, وتعيين قاض تحقيق غيره لمتابعة الدعوى. وفي بعض الحالات يمكن للمدعي بالحق الشخصي طلب ذلك.
حق رد المحلفين
يسمح هذا الحق للمتهم عند تبليغه قائمة المحلفين أثناء إجراء القرعة لافتتاح الجلسة أمام محكمة الجنايات, رد بعضهم من تشكيل المحكمة, فالقائمة تنص على اسم ولقب ومهنة, وتاريخ ميلاد كل محلف, دون ذكر العنوان, الذي يحق للمحامي فقط الإطلاع عليه. ( مادة 282 و 292 من قانون الإجراءات الجزائية). فللمتهم أو محاميه حق رد 5 محلفين. وللنيابة حق رد 4 محلفين .وليس على الدفاع أو النيابة ذكر أسباب الرد.
وبعد قانون 15 جوان حزيران 2000, الذي أنشأ حق استئناف أحكام محكمة الجنايات, أصبح حق الدفاع ,في مرحلة الاستئناف, رد 6 محلفين. وللنيابة العامة حق رد 5 محلفين.
وقد علق رينيه فلوريو على فاعلية رد المحلفين بقوله :" الرد هنا يشبه, نوعا ما, تغيير ورقة اليانصيب عشية السحب: إبدال الصدفة بالصدفة".
وأخيرا, يمكن القول إن تطور حق الدفاع وفعاليته لا ينفصل عن تطور وإصلاح النظام القضائي. وان المطالب غير المنقطعة في هذه الاتجاه, محل دراسات مستمرة ونقد عنيف. ولعل أكثرها صراحة وإلحاحا يتعلق بممارسات وتجاوزات قضاء التحقيق. بدءا بالمطالبة بتحديد دور قاضي التحقيق, وصولا إلى إلغاء هذه المؤسسة المثيرة للجدل.
كما بدأت تتعزز المطالب بوضع مذهب doctrine واضح لحقوق الدفاع, يدفع باتجاه تنشيط مهام الدفاع الجزائي, وتطوير ضمانات هذا الحق, غير المنفصل عن حقوق المحامي.
د. هايل نصر
التعليقات (0)