حقيقة العلمانيين العرب
مما يحير المرء في شأن معشر العلمانيين : جماعات الشغب الثقافي ، والتفلت الأخلاقي في العالم العربي : أن مشاغباتهم تأتي دائما في مغامرات من اللغو الذي لاطائل تحته ، ويحاولون أن يصنعوا من أنفسهم أبطالا للحرية ، من بطولات وهمية ليس من ورائها اختراع نافع ولا نقد بناء ولا كلمة حق أمام سلطان جائر ولا موقف شجاع ينصر فيه المظلوم من الظالم ، فمن أين يريدون أن يصيروا أبطالا ؟ لا أدري .
يقول محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي : ( وانه لمما له دلالة خاصة في هذا الصدد أن تخلو الحضارة العربية الإسلامية مما يشبه تلك الملاحقات والمحاكمات التي تعرض لها العلماء ، علماء الفلك والطبيعيات ، في أوربا بسبب آرائهم العلمية ، ويكفي التذكير بما تعرضت له مؤلفات كبلر من بتر ومنع من طرف لاهوتيي عصره بسبب تأييده لنظرية كوبرنيك الفلكية المبنية على القول بثبات الشمس ودوران الأرض حولها ، عكس ما كان يعتقد قبل . . . أما في الحضارة العربية الإسلامية فعلى الرغم من أن فكرة كروية الأرض ودورانها كانت شائعة كغيرها من الأفكار العلمية المماثلة فإنها لم تثر أية ردود فعل لا من طرف الفقهاء ولا من جانب الحكام ) [ص 345 مركز دراسات الوحدة] .
وهذه ملحوظة مهمة جدا ، وهي من الأدلة والبراهين القاطعة على أن صراع العلمانيين مع الشريعة الإسلامية في بلادنا العربية ، ليس بسبب الجدل حول موقف الإسلام من التقدم الحضاري ولا العلوم العصرية النافعة ، وهي العلوم التي تدور في فلك دراسة الطبيعة واكتشافها واختراع ما يفيد الإنسان ، وتعتمد على المنهج التجريبي ، لان الشريعة الإسلامية لا تفرض أي تعارض بين الدين وبين هذه العلوم النافعة بعكس ما كانت الكنيسة تفعل في افتراضها هذا التعارض في أوربا قبل الثورة على سلطان الكنيسة بل الشريعة الإسلامية تدعو إلى تلك العلوم وتحض عليها ، وكلما كان العالم ملتزما بالإسلام كان أزكى عقلا فيها ، وأعظم نفعا للناس .
ولهذا لانكاد نجد أحدا في العالم العربي مثلا في مجال هذه العلوم النافعة نصب عداء للدين ، والسبب ببساطة أنه لم ير في الإسلام ما يشكل عائقا أمامه البتة ، وان وقع من أحد منهم مثل هذا العداء فانه بسبب انتماءاته السياسية أو الثقافية الأخرى لا بسبب الاكتشافات النافعة.
وانما غالب المعادين للشريعة الإسلامية وللتيار الإسلامي في العالم العربي هم قلة من جماعة " تجار الكلام " ، جل ما لديهم مجرد الكلام المستمر، الممل والمكرور، في الصحف في السخرية والاستهزاء بالدين وأحكام الشريعة والتباهي بأنهم أصحاب قلم يدافعون عن التقدم والعصرنة.
فإذا فتشت عن عصر نتهم وتقدميتهم وجدتها تدور حول الدفاع عن كاتب طعن في القرآن لا من أجل أنه اكتشف شيئا يحرم القرآن اكتشافه ، بل لان المفكر الحر جدا !! الذي يدافعون عنه اكتشف فجأة أنه لم يرق له الإيمان بالبعث بعد الموت مثلا لانه تربى وهو صغير في مدرسة أجنبية أو تلقى ثقافة ملحدة ، فغرس في قلبه أن الأيمان بالغيبيات هو شيء سخيف لا يناسب الإنسان العصري .
كما تدور حول الدفاع عن حرية بيع كتب عن الجنس الرخيص ، أو أفلام من هذا النوع ، أو احترام رأي يدعو إلى اعتبار الرقص بين الجنسين اكتشاف عصري مذهل يعبر عن تقدم الدولة ، ونحو ذلك من القضايا في هذا المستوى أو دونه ، فلاجرم أن ينصبوا العداء للدين إذن .
وقد أهدروا أوقاتهم في اختلاق صراع مع الدين بلا فائدة ، ويضيعون أوقاتنا معهم في قراءة ما يكتبون والرد عليهم خوفا على ضعفاء الأيمان من شبهاتهم .
أما الاكتشافات العلمية النافعة فلا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ولاحتى يحسنون أن يضيفوا إليها شيئا مفيدا ، أولا لان هذه ليست صنعتهم إذ لو كانت لهم صنعة مفيدة لحجزتهم عن مشكلة الفراغ التي جعلتهم من تجار الكلام .
وثانيا لانهم انشغلوا بشيء آخر ، انشغلوا بمعاداة دينهم متوهمين أنهم أبطال المعركة مع التخلف يقودون الشعب إلى النور والمستقبل ، متخيلين أنهم سينقذون أمتنا من مثل قوى الظلام التي اضطهدت "جاليلو ".. مساكين !
قرأت لواحد منهم ذات مرة مقالا يبكي فيه على العلماء كما زعمهم الذين قتلوا لانهم صرحوا بمعتقدا تهم في غابر التاريخ ، وينادي من قلب يعتصر ألما لإنقاذ الأمة من اضطهاد العلماء والمفكرين ، أتدرون أي علماء يقصد ؟؟ مثل الحلاج والسهر وردي وابن عربي . . . حفنة من الزنادقة والسحرة لم يحسنوا سوى الدعوة إلى الإلحاد ، ويعدونهم طليعة التفكير الحر في التاريخ الإسلامي . . . لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون .
فقلت في نفسي لاتخف أيها المخترع الكبير المضطهد والبطل القومي !!! انك متى قررت أن تكون مثل العلماء من الخوارزمي إلي السموأل في علوم الجبر ، وابن الهيثم في علوم البصريات ، وكل من اشتغل بالنافع من علوم الطب والفلك والجغرافيا . . .الخ فلن يمسك سوء ، كما لم يمس أولئك سوء في تاريخ الإسلام كله ، بل كانت الحضارة الإسلامية هي التي احتضنتهم حتى غير المسلمين منهم وهيئت لهم أجواء حرية البحث العلمي ، لكن مصيبتنا معكم أنكم لا تحسنون سوى السخرية من الدين وحجاب المرأة ونحو ذلك وتعدون هذه علومكم الباهرة التي تخافون على أنفسكم من الاضطهاد بسبب اكتشافها؟؟
انهم لا يزيدون على استنساخ التناقض الغربي نفسه الذي صفق لنجيب محفوظ لاكتشافه العظيم !! في رواية " أولاد حارتنا " ، وصفق لنصر أبو زيد لاكتشافاته المذهلة في الاستهزاء باليوم الآخر !! وفعل مثل ذلك لسلمان رشدي ، وسائر الأذناب ، زاعما أنهم مفكرون أحرار ، ثم هذا الغرب نفسه يقتل 60000 طفل عراقي كل شهر بسبب الحصار ، ويسحق بدعمه للكيان الصهيوني شعبا بأكمله ، وينفق على التسلح لإرهاب العالم آلاف المليارات ، ويلقي بمليارات الأطنان من منتجاته الغذائية في المحيطات حفاظا على أسعارها ، بينما تموت شعوب تحت الفقر والجوع والتخلف ، ويدعي مع ذلك أنه العالم الحر المتحضر . ؟!!!!
وخلاصة وصفهم أن الغرب أرادهم أحرارا عندما يطعنون في دينهم ، وأرادهم عبيدا له في كل ما سوى ذلك ، فكانوا كما أرادهم في كلا الأمرين ، ثم يتفاخرون علينا متباهين أنهم أبطال الحرية !!
التعليقات (0)