الديمقراطية والعقد الاجتماعي.. تسلم القرن الثامن عشر كل الاكتشافات الكبرى التي قدمها القرن السابع عشر في ميدان العلوم والطبيعة، وأصبح القرن الثامن عشر قرن التطبيقات لمكتشفات القرن السابق له، حتى أن الفلاسفة التنويريين درسوا الرياضيات، مثل فولتير، والتشريح وعلم وظائف الأعضاء والكيمياء، مثل ديدرا، بينما ركز روسو على درأسة علم النبات، من هنا نشأت الموسوعية لدى الموسوعيين الذين نقلوا حركة التنوير من خلال العلوم إلى حركة سياسية واجتماعية مست أرجل كرسي الحكم المطلق وبدأت تقوضها.واحتلت العلوم - وخصوصا التأريخ الطبيعي- والعلوم الأحيائية، المرتبة الأولى وبرز في هذه المرحلة بوفون(1707- 1788) ممثلا لعلوم ذلك العصر بحيث ركع روسو عند عتبة بيته إجلالا لعلمه، لقد وضع بوفون أسسا وضعية علمانية ترفض الأسباب الغائبة وتقوم على البراهين العلمية، إن بوفون يؤمن بوحدة الجنس البشري من خلال التأريخ الطبيعي، كما أنه يؤمن بتطور الأجناس، ويقوم كتابه (أحقاب الطبيعة) على هذه النظرية. نبيل ياسين لقد ظهرت السعادة كواجب من واجبات الدولة، ظهرت عند ديدرو كما ظهرت عند فولتير ومونتسكيو، وكانت السعادة فكرة جديدة كما يقول سان جوست، وموضوع السعادة كان فكرة قائمة في فكر بعض الإسلاميين الليبراليين مثل ابن مسكويه، وقد ظهر موضوع السعادة كذلك في فلسفة الأمام علي عن الدولة، فقد كان مُؤلَّف الأمام (عهد الأشتر)، بحثا في فلسفة الدولة ووظيفتها وطابعها الحقوقي، وبالتأكيد فإن التمتع بالحرية والحصول على المساواة والعدالة وفرص العمل والأمن والسلام والتعليم والصحة والسفر.ليست السعادة شكل الدولة الليبرالية ولكنها ثمرة توفير الوسائل إليها، هناك من يقرن انتهاك الحق منذ بدء الخليقة (قابيل يقتل هابيل) حتى قبل أن يجتمع الأفراد ليؤلفوا تجمعا يحتاج إلى أداة سياسية، ليست مشكلة أن تكون التفسيرات مختلفة بشأن سبب نشوء الدولة، ولكن المشكلة هي في تحديد العلاقة بين الدولة والمجتمع الذي يتكون منه، وشكل الوسائل التي تتبعها الدولة في توفير وسائل العيش. يقول جاك دونديو دوفابر، المنظر الفرنسي للدولة، إن الدولة لابد أن تمتلك وسائل قهر، ولكن لابد أن تكون هذه الوسائل مشروعة ومعترف بها من قبل من أعطى العقد، يساعدنا مناقشة مفهوم الدولة على التوصل إلى شكل وطابع ووسائل الدولة وموقعها في المجتمع الذي تمثله، إن العلمانية ليست دستورا، ولكنها معطى دستوري ينشأ من خلال القوانين التي تنظم شكل الدولة وطبيعتها والقوى التي تمثلها أو تقودها والسلطات التي تمثلها، وبالتالي تثمر فلسفة علمانية هي نتاج الإجراءات والنظم والقوانين ليواصل إنتاج النظم والقوانين والإجراءات الليبرالية، أو تثمر فكرا استبداديا قهريا ينتج إجراءات ونظما وقوانين أخرى تدعم جبروت واستبداد الدولة. عودة إلى تأريخ الإسلام تجعلنا نرى أن الإجراءات التنظيمية قادت إلى توحيد الجماعات الإسلامية المهاجرة والناصرة في مجتمع واحد هو مجتمع يثرب، من الضروري الاهتمام ببعض الإجراءات التي تبدو شكلية ولكنها تحمل دلالات فكرية ونفسية، فسرعان ما غير النبي اسم يثرب إلى المدينة استمرارا للطابع المدني لمكة، كانت مكة مدينة تجارية، وكان لها سمعة إقليمية تمتد من الشام الي اليمن وعمان والعراق، وكان لها علاقات مع الروم والساسانيين، سواء تجارية أو ثقافية، وأحداث العصر الجاهلي الذي سبق الإسلام تزخر بالقصص عن لقاءات بين قريش وكسرى أو هرقل، على عكس يثرب التي كانت واحة شبه معزولة يسيطر عليها الأوس والخزرج الذين وفدوا إليها في فترة ما من خارج يثرب.حاول النبي أن يضع إجراءات وتنظيمات لمجتمع المدينة سعيا للاستقرار وتكوين قاعدة ثابتة، فوضع صحيفة لتنظيم العلاقات كانت متأثرة بالواقع الذي تعيشه يثرب والذي يشكل فيه اليهود ثقلا مؤثرا، زراعيا وتجاريا ودينيا وقبليا. فالقبائل اليهودية من قريظة ومن بني النضير ومن غيرهما يملكون أحلافا وصلات موثقة.ليس صحيحا أن الدعوة الإسلامية كانت ضد القبيلة بدليل أنها اعتمدت على قريش، ولكنها سعت لجعل الانتماء القبلي هوية ثانية خاضعة للانتماء الديني الجديد وجزءا منه؛ ولذلك عادت العصبية القبلية قوية جدا في تخطيط مدينتي البصرة والكوفة وإعادة تخطيطها، استنادا للثقل القبلي في زمن زياد بن أبيه حين كان واليا لمعاوية، فكان توزيعها أخماسا وأسباعا حسب توزيع القوى القبلية، وكانت العصبية القبلية سببا مباشرا في سقوط الأمويين في الصراع الذي استعر بين اليمانية والقيسية.يرد هذا التأريخ على كثير من المؤرخين والكتاب الذين يجعلون الدولة الإسلامية ضامنة لكل الحقوق، ومستجيبة لكل التطورات الديمقراطية التي حدثت في الغرب. ويرد على من يعتقد أن الدولة الإسلامية ضمنت المساواة حسب الانتماء الديني، وأن الشريعة كانت الدستور الذي حكم الدولة في الإسلام، كما كانت محنة القضاء التي نشأت في عهد الأمويين محنة عميقة الأثر شككت بشرعية الحكم وطعنت بإجراءاته حين تحول إلى ملك عضوض، أي إلى حكم استبدادي مطلق كان مثالا طبق الأصل لما شهدته أوروبا في القرون الوسطى، وخصوصا في عهدي شارل الأول في إنجلترا ولويس الرابع عشر في فرنسا. لقد تطورت وظيفة الدولة وغاياتها حتى وصلت عند سبينوزا حدها الأقصى: «إن الحرية هي نهاية الدولة»، كان مفهوم الدولة مفهوما فلسفيا ولكنه لم يكن مفهوما مجردا. لقد انبثق من عمق العمليات الاجتماعية والاقتصادية، كانت الحرية مناقضة للفقر، أيضا. كان نبلاء وأثرياء أوروبا، وخصوصا الطبقة المرتبطة بالحكم، منعزلين عن المجتمع ولايبصرون الفقر والحرمان والبؤس الذي كان يعيش فيه ملايين الناس، كان الفلاحون يعيشون في فقر مدقع، صوَّرته لوحات فنية كثيرة مثل لوحة «آكلو البطاطس» لفان كوخ.لقد خصص لوك الفصل الخامس من (البحث الثاني حول الحكومة) لموضوع الملكية الذي يبدأ فيه مناقشة الحق الطبيعي للملكية، ولكن ليس الملكية المطلقة التي كان فيها الملك يملك كل شئ، ويستشهد بانتقال بتعاليم النبي داود في المزمور السادس عشر من أن الله أعطى الأرض لأطفال الإنسان، من آدم إلى نوح، ثم يقول أنه أعطى الأرض للجميع(19).إنه لا يدعو إلى الملكية العأمة للدولة أو الإشتراكية، إنه يدعو إلى الملكية للجميع على أساس الفردية، وحق التملك الفردي، إن الرب الذي أعطى العالم للإنسان من خلال آدم كملكية للجميع، أعطاهم كذلك الأسباب لجعلهم قادرين على استخدامه بشكل أفضل من أجل المكاسب في حياة أفضل. ويمضي لوك في التاكيد على أن الأرض، وكل ما عليها، أعطيت للبشر لتساعدهم في صنع حياة مريحة، لعل المقابل لهذه الفكرة الواردة في مزامير داود قد وردت في القرآن من خلال الآية «أن الأرض يرثها عبادي الصالحون». إن عمارة الأرض عمل صالح، وقد ورد في المنظومة الاجتماعية والاقتصادية لدى علي بن أبي طالب التاكيد على أن عمارة الأرض أهم من خراجها. أنه رأسمال صيانة الرأسمال؛ ولذلك خربت الأرض في زمن الأمويين الذين تعسف ولاتهم في جباية الخراج، ضريبة الأرض من غير المسلمين، دون أن يخصصوا جزءًا من هذه الضريبة لإعمار الأراضي الزراعية، فكان ذلك سببا مباشرا لكثير من الثورات والتمردات التي قمعت بقوة على أنها انشقاقات دينية. لقد رأينا كيف أن حركات التنوير والإصلاح انطلقت من الفكر الديني ولكن بمواجهته، ولقد شهد التأريخ الإسلامي محاولات من نوع آخر سعت إلى تخفيف حدة الفروقات الهائلة في الملكية، لقد أبقت معظم الفتوحات التي تمت في عهد عمر للعراق والشام ومصر الأرض بيد أصحابها الأولين على أن يدفعوا الخراج وهو أعلى من العشر بثلاث مرات. (بحثت ذلك بشكل تفصيلي في كتابي: الأصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الإسلامية المعاصرة الصادر عام1994).
التعليقات (0)