(1)
تفيد الرواية التي ذاع صيتها حول شرارة اندلاع الثورة التونسية أنّ حوّاء "الشرطيّة" صفعت بأنامل يدها خَدَّ شابّ يسمّى محمد البوعزيزي،فشعر هذا الأخير بالإهانة ،لا من الصفعة العابرة فحسب،بل من سلطة الحكم الباغية التي حرمته من شغل شريف يحفظ له كرامته وبالتالي يضع حدّا لمعاناته مُطارَدا كبائع متجوّل دون ترخيص قانوني،وحيث أعيته الحيلة واستبدّ به اليأس قرّر البوعزيزي أن يضع حدّا لحياته بإضرام النار في جسده أمام مقرٍّ يرمز للسلطة احتجاجا عليها..تداعيات هذه الحادثة أطاحت بواحدة من أعتى الدكتاتوريات في العالم وصنعت من البوعزيزي رمزا لها...
غير أنّ الأحداث ببدايتها،وبداية الرواية وراءها حّواء تونسية كادحة مثل البوعزيزي ومنحدرة من وجَع الحرمان الذي تعيشه الفئات الشعبية،وهي غالبيّة الشعب...شاءت الأقدار أن تسوَّق المرأة الشرطية (الصّافعة) على أنها واجهة للسلطة في مواجهة رجُلٍ(البوعزيزي) بوصفه رمزا للشعب المقموع،والحال أنّ كليهما يتقاسم مع الآخر نفس الهموم وتعذّبه نفس الأوضاع...
لكن دعونا نذهب إلى تأويلٍ يُلامس الجوهر في هذه الرّواية:
ألا يبدو واضحا أنّه لولا مضايقة هذه المرأة للبوعزيزي،ما اشتدّ إحساس هذا الأخير بفظاعة الهوان الذي هو عليه إلى حدِّ إقدامه على ما أقدم عليه لتندلع شرارة الثورة التونسية ؟...
ألم تكن حوّاء،من خلال هذا الطرح،المنطلق لهذه الثورة ؟...
أليس من الإنصاف الغوص في أعماق هذه المرأة لننبش في الأسباب التي دفعتها إلى مطاردة ذلك المعذّب البوعزيزي (الرّجل) ؟...ألا تكون بما فعلتْ،قد أطلقت صرختها المكبوتة من القهر الذي تعانيه والذي تعاينه ولسان حالها يقول : لماذا لا تثورون أيها المستضعَفون المسحوقون ؟..إن لم تكن قد تعمّدت الصرخة،كما لم يتعمّد البوعزيزي إشعال فتيل ثورة شعبية،فكلاهما في لا شعوره يضطرم احتجاج على مجتمع لا يحضنه ويرضى بذلّ الحياة...أزعم أنّ حوّاء "حافظة الأمن" طاردت في البوعزيزي لا شخصه،في حدّ ذاته،بقدر ما أنها أطلقت صرخة في وطن غاب فيه الثوّار من رجاله وتحديدا من شبابه،وهي الصرخة المستفِزّة التي شحنت الفتوّة والجرأة والإقدام في الشباب التونسي ليثأر لكرامته المهدورة،وهو يستحضر أنّ ثروة بلاده تنهبها عصابة تقودها تلك المرأة التي تسكن فراش الرّئيس الذي ترأسه من خلف ستار وتستعدّ لخلافته...
وراء كلّ عمل عظيم امرأة،ولعلّه يصحّ القول أنّ وراء كلّ كارثة بشريّة امرأة...
(2)
تفيد الرواية أنّه في أجواء هستيرية عمد طالب "سلفي"،في حركة استفزازية،إلى إزالة الراية الوطنية(العلم التونسي) من على بناية منارة جامعية بالعاصمة تونس واستبدالها براية "الجماعة السلفية" السوداء.إزاء ذهول آلاف الطلبة واستيائهم تجرّأت طالبة من نفس الكلية على تسلّق الجدار لتبلغ مكان الراية حيث الشاب السلفي وتفرض إعادة رمز السيادة الوطنية إلى مكانه بعد أن وقع تعنيفها...أما التوقيت فهو عشية يوم 7 مارس 2011 الذي يليه يوم الاحتفال بعيد المرأة العالمي...هذه حوّاء التونسية استطاعت أن تستحوذ على الحدث وتستأثر به لفائدة الرصيد النضالي المشرف للمرأة التونسية...
أمّا إذا أردنا أن نضع الحدث في سياقه،وجب تسجيل أن الشعب التونسي الذي حرّرته ثورته من الاستبداد والكبت،هرع الكثيرون منه إلى البحث عن الذات والصفات بمساءلة المحظورات لتطال حتى المقدّسات التي لم تكن يوما محلَّ خلافات...وصل الأمر إلى تشظي العقيدة الدينية التي كانت على مذهب واحد على طول الوطن وعرضه لتتناسل "السلفية" و"الوهابية" و"الإخوانية" و"الشيعيّة"...وبين تلك الخلفيات العقائدية مَنْ ينزع نزعة جهادية أومن يفرض طاعة "أولي الأمر" على هواه،أومن يحلّل الزواج بين الإسلام والديمقراطية أومن يُحرّمه...والمسألة قد تصنّف ضمن العوارض العابرة للثورة لو لم تسكن ذات الظواهر منابر العلم والمعرفة التي تؤسس للغد...ولو لم يكن في مقدّمة المعنيين بالاستهداف بصراعاتها المرأة...
بالعودة إلى حوّاء التونسية التي استأثرت بشرف الدفاع عن راية السيادة التونسية،فإنّ الرواية تقول أنها تحمل اسم "آمال"،لتضيف من خلال ذلك رمْزا مفادُه أنّ الأمل قائم في تجاوز الأعراض المرضية التي أفرزتها الثورة وأنّ الوحدة بين التونسيين،كلّ التونسيين،هي صمّام الأمان لمن لا وطن له غير تونس...
(3)
تُحيلنا حوّاء إلى زوج آدم عليه السلام لتعني،فيما تعنيه،شراكة المرأة للرجل وتلازمهما منذ الأزَل في السّرّاء والأزْل (الشدّة والضيق) ... ومهما تزوّد البعض بحجج التاريخ أو الدين أو الطبيعة للحطّ من قيمة المرأة،تبقى حوّاء اكسير الحياة دونها الفناء،آسرة حتى وإن بدت أسيرة،قادرة على الثأر لكرامتها حتى إن أريد لها أن تكون جارية،عطاؤها لا حدود له كلّما أنصفتْها بيئتها ومكّنتها من حقّها في الخصوبة ،إذ الخصوبة أنثى...شراكة المرأة،على الدوام،ثابتة في إعمار الكون والفعل في حركة التاريخ...
ختاما،قد تستظرفون معي هديّة الشاعر التونسي أولاد أحمد للنساء:
كتبْـــــتُ
كتبْـــــتُ
فلم يبْقَ حـــــــــرفُ
وَصَفـْــتُ
وَصَفــْـتُ
فلمْ يَكْــفِ وَصْــــفُ
أقـُول،إذًا،باختصارٍ وأمضي
نِســاءُ بــــلادي:
نســــاءٌ ونِصْفُ
التعليقات (0)