حاضر ومستقبل الصوفية
(حلقة 1)
أفرزت ثورة 19 ديسمبر التاريخية المُمتدة الكثير من الخبايا ومكنون حجرات مغلقة ومسكوت عنه أسهمت في الكشف عنها شفافية ثورة المعلوماتية .ونال نشاط الطرق الصوفية خلال بدايات الثورة حظه من الرصد والملاحظة؛ وسيتطور ذلك مع إمتداد تطور الثورة . لاسيما وأن عصر دولة الإنقاذ البائدة قد ضربت ضربتها وكادت أن تفرغ المؤسسات التي تدعي التصوف من مضمونها الفكري والمظهري وبالتالي مسوغات وجودها. وجاء جميع هذا الإفراغ لقدسية المؤسسات الصوفية يردفه ويساعده تغير الزمان وسيطرة المال على كافة ضروب الحياة. ونال التصوف حظه من الفقر والعوز والحاجة وحيث لم تكتب حظوظ النجاة سوى للقليل النادر الذي إختار الهجرة بأخلاقيات الصلاح والتصوف إلى الخلاء المتسع المنقطع. ولكن حتما إلى حين. لأن المتوقع هو أن تلحق الحياة المادية وتتمدد التجمعات السكنية إلى زرائب هؤلاء في المستقبل القريب.
واقع الأمر فإنه يلاحظ وجود خلط لدى العامة وحتى بعض الخاصة يتعلق بعدم التفرقة ما بين مسمى "التصوف" من جهة . ومسمى "الصلاح" من جهة أخرى . فنرى الغالبية العظمى تمزج ما بين الحالين والمسميين . ولا يلتفتون إلى واقع أن كل صـالح هو صوفي زاهد متقشف ومتخلق بأخلاق الدين الحنيف مستمداً ذلك من (صلاح) علاقته بالله . في حين لا يشترط أن يكون كل متصوف أو خليفة طريقة صوفية صالح أو على قناعة بإتباع منهج التصوف ، ليس في أخلاقياته وتطلعاته الدنيوية للرفاهية فحسب بل يشمل ذلك مظهره وملبسه من أخمص قدميه حتى أعلى رأسه ، إضافة إلى الساعة السويسرية المطعمة بالماس التي يرتديها في معصمه ، والنظارة الشمسية الماركة، والعمامة التوتال ذات الركامة ، والشال الدمقسي الذي يحيط به عنقه الناعم أو يرميه على كتفيه ؛ والمركوب الذي قتل لصناعته أكثر من شبل وأنثى نمر ؛ ناهيك عن العِطر والموبايل وتكلفة خط المكالمات الصادرة والواردة وحزمة الإنترنت ، وتكلفة الإشتراك في تطبيقات مشاهدات خاصة خلف الأبواب.
كذلك تلاحظ جنوح بعضهم الوارث الموازي لسجادة جده الرابع عشر قد إتخذ لنفسه أزياء شاذة بقماش ملفت يظن به أنه سيجعله أكثر تفرداً وغموضاً وإنطباعية وجذباً لمحبي الإستطلاع . ووضع في رأسه باروكة نسائية وتعمم بها وترك خصلات من هذه الباروكة تتدلى من تحت العمامة وتنسدل على عنقه . يحاكي بذلك العرب القدماء. وما جاء في وصف وسيرة بعض مشاهير المهاجرين والأنصار ، وأبطال فيلم الرسالة والمسلسلات الدينية.
وعليه فإنك لو حسبت كل هذا (العفش) بتضريبة بسيطة على الآلة الحاسبة في تطبيقات موبايلك الصيني العتيق أبو كرت . ستكتشف أن تكلفة هذا المظهر لدى الواحد منهم فقط ناهيك عن أولاده وبناته وحريمه وأحفاده يكفي لإطعام ألف جائع نازح أو يتيم أو ضحية من ضحايا النهب المسلح والتطهير العرقي.
أين هو التصوّف هنا؟
وما هو معنى ومراد التصوف إذن؟
وليت البعض يلتفت إلى حجم ومدى المفارقة بين حال ومظهر ورفاهية وريث السجادة الصوفية من جهة . وحال الحيران وتلاميذ خلوة القرآن الذين ينامون على البروش والخيش ويتضورون جوعاً في كل المواسم. ويظل المحظوظ منهم من يعمل في خدمة المسيد وبلدات وحواشات ومزارع شيخ الطريقة نظير ملء بطته بوجبات إضافية وأدسم ، وبضعة أمتار من قماش الدمورية. ونِعلات من موديلات تموت تخـلِّيْ.
إنها حالة تذكرك بحالة الإقطاعيات الأوروبية خلال العصور المظلمة الوسطى.
ولا يجب أن يخفى على أحد أن التصوّف يقوم على أعمدة ثابتة أساسية هي:
1) الشيخ الأصل إن وجد أو وريث بيولوجي للسجادة . ويكون عادة أكبر أولاد الشيخ ثم الحفيد فالحفيد وهكذا ... وهو ما يجعل من المشيخة هنا مجرد تسلسل وراثي ، لا علاقة له بالإنتخاب للأصلح. ولا علاقة لها بقتاعات الأبناء والأحفاد وتوجهاتهم الفردية. ومستوى الشهادت الدراسية والدرجات العلمية التي لم يحصلوا عليها من مدرسة التصوف وإنما من مدارس التعليم النظامي والجامعات داخل وخارج السودان ..... ومن هنا يحدث الشرخ وتجيء المفارقة والإنفصام. عند محاولة الجمع داخل دماغٍ واحد بين أيات القرآن الكريم وأغاني المطربين وشريعة وحديث أشرف الخلق ، ومنحوتات ورسومات مايكل أنجلو وفلسفة إبن رشد وأبن خلدون وأفكار فولتير وكافكا ونيتشة؛ ولوحات بيكاسو وسيمفونيات بتهوفن وموزارت.
2) أثرياء من التجار وكبار رجال أعمال ومهربين ومُرابين ولصوص مال عام، ومزارعين من وجهاء الأرياف وقيادات حزبية وبعض الإقطاعيين من الإدارات الأهلية الذين يبحثون عن أحواض ما يظنون أنه مطهر مقدس لغسيل أموالهم . ويتولى هؤلاء تمويل بناء وتشييد منشآت وملحقات ومرافق مسيد شيخ الطريقة . وتفاصيل ذلك عادة منزل الشيخ ومنزل الخليفة والمسجد والزاوية وسرداب ونفق الغار ، وبيت الضيافة الفخيم للوجهاء الممولين والمانحين وكبار مسئولي الدولة. ثم ورواكيب للمريدين والزائرين الفقراء . ومبنى الخلوة في الشتاء والخريف والراكوبة في الصيف . وزنازين بأبواب حديدية تقام في ركن قصي لحبس المجانين والمرضى النفسيين المقرنين بالأصفاد الذين يتركهم أهلهم عند الشيخ بغرض العلاج بالبسطونة والسياط والعكاكيز. وكذلك لتأديب كل طفل تلميذ من نزلاء داخلية الخلوة ؛ تسوّل له نفسه الهروب والنجاة من عسف ومضايقات الفكي والحيران لسبب أو لآخر. وحيث لا يتم الإلتفات إلى حجم هذه المآسي الإنسانية إلاّ إذا إستدعى الأمر نقل الضحية إلى المستشفى أو تقدٌّم ذوي الطفل بشكوى جنائية.
للأسف الشديد فإن معظم الذي نكتشفه بالتقصي والتحقيق . وما نراه بالعين المجردة والمنقول عبر الهمس بين الناس أو تلك التقارير الإعلامية المتلفزة المستقلة الموثقة بالصوت والفيديو والصورة ، وما يجري تسريبه عبر المريدين والحيران ونشره في وسائط المعلوماتية . كل ذلك وبعضه يؤكد ويعضد أن الواقع الذي والمجال الذي تكتنفه هذه المقار الكهنوتية لا علاقة له بالتصوف من قريب أو بعيد. وحيث تظل دفوع من يجري سؤالهم من المسئولين في المسيد والمنتفعين به إلى الإدعاء بأن كل ما ينشر من فضائح أخلاقية وجرائنم إنسانية ويشار إليه من سلبيات وظواهر وممارسات شرك بالله وعصيان ؛ إنما المقصود به الهجوم على دين الإسلام . وهو ما يستغرب له الشخص كون أن التصوّف نفسه منهيٌ عنه في شريعة الإسلام.
وتبقى الحقيقة في نهاية المطاف أن رب المسيد هو مجرد وارث (بيولوجي) متسلسل لهذه المشيخة دون إستعداد نفسي أو جهد تعبُّدي أو رغبة في نصرة الدين ونشر مكارم الأخلاق. وبما يجعله مجرد رئيس مجلس إدارة لمؤسسة طارئة على صغحات تاريخ الدين الإسلامي إيتدعها البعض في العراق ما بين القرنين الثاني والثالث الهجري. وجعلوها مؤسسة متفردة لها مصطلحاتها اللغوية العصية وسجعها النثري وتراتيلها وبخورها وبروتوكولاتها على نسق تلك التي كانت تمارس في أديان أمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم بين النصب والنيران والأوثان.
كان هذا في جانب ممارسات التصوف ولا نقول الصلاح . فالصلاح شيء والتصوف شيء آخـر ؛ وبينهما ما صنع الحدّاد.
وحتى لو سلمنا جدلاً بأن بينهما نافذة مواربة على هيئة مقرات بواجهات إسلامية ؛ إلاً أننا نلاحظ أنه وفي التفاصيل تبرز الإختلافات . فعلى سبيل المثال تختلف الحركات والأغراض عند ممارسة نشاط الأذكار . ما بين متئدة خشوعة وقورة عند مريدي أهل الصلاح . على النقيض من تلك التي يمارسها مريدين التصوف ، المزعجة الأصوات المتسارعة الحركات ، التي تكاد تتفوق على الديسكو وحركات مايكل جاكسون ملك البوب التي يمارسها شباب وكهول المريدين في حلقات الموالد ؛ وعند إستقبال كبار الزوار من المسئولين في الدولة. ويتمادون في هذه الحركات الغير وقورة كلما إزدادت حشود الجمهور حولهم.
أين هو الصوف والصبر على الفاقة والجوع والتجرّد والخوشنة والتفرغ للعبادة لدى من يدعون التصوّف؟ هل رأيتم أحد من شيوخ وورثة السجاجيد الببولوجيين يرتدي جبة خشنة من شعر الماعـز وصوف الخراف؟
هل سمعتم بمسيد وسجادة صوفية تتبرع لأعمال خيرية وكفالة يتيم . أو تشارك في مناشط إيواء جراء الفيضانات والسيول؟
كل أنشطة الطرق الصوفية تتوجه إلى الحصول على الهدايا والعطايا والمنح والتبرعات من المسئولين والمغتربين ، وتتقن خبرات وفنون التسوّل الذي لم يُبقِي في وجهها مُـزعَةَ لحم.
هل رأيتم شيخ طريقة صوفية لا يمتلك سيارات دفع رباعي داخل حوش المسيد ، وتنوّع موبايلات ماركة السامسوغ الكوري الجنوبي والآبفون الأمريكي في أياديه ، وشاشات تلفزيونية ، وريسيفرات وثلاجات ومبردات ومكيفات إسبيليت .. إلخ داخل حجرات منزله الفخيم. ثم وألواح الطاقة الشمسية وأطباق الأفمار الصناعية فوق الأسطُح؟
اللهم لا حســد.
ولا أدري ؛ إذا كان هذا هو حال "الصوفية" اليوم من نعنعة وترف وبذخ ورفاهية وقناعات أرضيـة مـأدية بلا روحانيات . فكيف سيكون حال الحريرية أو حتى الدبلانية والدموؤية والهزّاز إن ظهرت طرق بهذا المسمى غداً تنضم إلى تلك الشعب ألـ 73 التي تنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عنها أنها جميعها في النار إلاّ واحدة بقيت على الكتاب المنزل وسنته السمحاء والمحجة البيضاء .... وحيث لا نرى في شعبة التصوف تمسكاً وعملاً بالكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين ساداتنا في الدين ؛ بقدر عملها بمظاهر الشرك والجاهلية وتسوّل أموال السلاطين والحكام والمغتربين . وممارسة جانب عريض منها السحر والدجل وأنشطة فــكّ العمــل . والتسبب في ظاهرة معاناة الإنسان السوداني عامة والأطفال خاصة من أمراض الباطنية والنزلات المعوية التي تتسبب بها المحايات وبزاق الخلفاء في ماء كيزان الألمونيوم ، ومدها ليشرب من فضلتها كل مريد جاهل أو ثري يعاني من عقدة إكتساب المال الحرام. أو طفل ورضيع تأتي به أمه المهزوزة الفؤاد تسأل له من الشيخ الشفاء.
والمصيبة أنه يذهب بهم الغرور والوهم والتعالي الفرعوني على الجهلاء والذين يؤنبهم ضميرهم من كثرة موبقاتهم وكبائرهم وآثامهم وذنوبهم ويبحثون عن التطهير . يضحكون ويستغلون جهل وحالة هؤلاء بالقول أن الصحابة كانوا يتصارعون ويتسابقون إلى شرب فضلة الماء من إناء رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفلا يسأل هؤلاء التنابلة الأشرار أنفسهم عن أين هموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق المقترن إسمه بإسم الله عز وجل على قوائم العرش؟
إن ما يسمى بالطرق الصوفية اليوم ؛ وبعد أن لعبت برؤوس مغطم مشايخها خمور السياسة وأحلام الثراء الفاحش والتنبلة . وما تعدهم به السلطات الحاكمة من أموال وترميه لهم من بياض تحت الحساب . فإن ذلك سيقضي على البقية الباقية من سمعة هذه الطرق الصوفية التي ما كان لها أن تخوض في مستنقعات الصراع على السلطة ودماء الضحايا من جانب ؛ وتدّعي الزهد والصلاح من جانب آخر . وتندفع لنصرة فئة ضئيلة من الشعب على حساب فئة شبابية نضرة ، وأغلبية كاسحة أخرى زوراً وبهتانا لسرقة ثورتها التي سالت فيها الكثير من الدماء الطاهرة وصعدت فيها أرواح الشهداء السلميين البريئة من ضيق الدنيا إلى رحابة إلبرذخ ، والمعراج إلى الفردوس الأعلى تصحبهم دعوات أمهاتهم وآبائهم وذويهم والملايين من أبناء شعبهم الأمناء الأتقياء الأنقياء المخلصين تلهج لأجلهم ألسنتهم بأصدق الدعاء تطلب لهم المغفرة والرحمة من الله العزيز المتعال.
ومن طرائف ثورة 19 ديسمبر الممتدة ملاحظة الناس مؤخراً وبإستغراب ودهشة كيف يأتلف التصوف مع الفلول ، ويتزاوج مع حزب سياسي منبوذ من مواليد السراديب المنسية متعثر الخطوات كالسكارى. كان لا يزال يضاجع حزب المؤتمر الوطني المحلول قبيل ساعات من إندلاع ثورة 19 ديسمبر الممتدة . سبق وأن طرد الشعب زعامته ومنعه من تدنيس ساحة الإعتصام أمام مبنى القيادة العامة.
إنـهــا أمـــوال الفلول ، وفتنة من فتن المسيخ الأعور الدجّـال.
التعليقات (0)