يولدُ الطّفلُ مستقبلاً حياتَه ببكاءٍ يستلذّ به مستقبلوه أملاً في أن يكونَ دلالةً على حياةٍ مليئةٍ بالصّخب والاعتراضات،فالناس تعوّدوا على أنّ أي طفلٍ لا يبكي خارجاً من بطنِ أمّه لا يمكنُ أن يكونَ سليماً عيوبٍ عقليّة أو نفسيّة،فاستبشارهم بهذا التناقض الذي يدلّ عليه البكاء رغم مدلوله السّلبي أصلاً يدعُ مجالاً لأن نفكّر فيما بعده ..
لا يُنتزّعُ الطّفل من الأم انتزاعاً ولا يُفصَلُ عن رحِمها اعتداءً وإرهاباً بل تلِدُه في الغالبِ كرها محبوباً ومخاضاً منتظراً يزولُ ألمُه وتبقى ذكرياتُه تستخدمُ في الموعظة والنّصح لهذا المولود بعدَ أن يكبُرَ ويحيدَ عن ردّ الجميل أو الاعتراف بالحقّ لوالدته،وتشقى الأمهاتُ تربيةً ويضيقُ الآباء بالمتابعة ذرعاً ..
أولُ ما يسترعي اهتمامَ الأسرة هو حضانةُ الطّفل وكيفيّة توفير البيئة والمستلزمات والخطط التّتابعيّة لرعايته يوميّاً حتى يتخطّى مرحلة حولين كاملين لمن أرادَ أن يُتِمَّ الرّضاعة،وكانتْ العربُ قديماً تبعَثُ بمواليدها إلى مُرضِعاتٍ في البوادي يرعيْنَهُ بأجرٍ حتى يكتسبَ طبائع يُحبُّها لهم أهاليهم ويعودونَ وقد شربوا إكسير الشجاعة وتنفّسوا أوكسجين الصبر وأكلوا نباتَ الولاء وثمارَ الكرم ..
هؤلاء القوم عرَفوا من خلال استقرائهم لأحوال الأطفال حديثي الولادة بأنّ استقبال الإنسان للترتيبات والإشارات الذهنيّة لكي يكونَ كما يرغبُ فيه المجتمع أكبرُ مهمّة يجبُ الالتفاتُ إليها قبلَ أيّ دلالٍ أو عواطف قد تودي بكلّ أملٍ مستقبلي في بحور المعاناة والفقدان،وهم كذلك قدّموا المصلحة القادمة التي ستدوم طيلة الحياة على المصلحة الحالية من بقاء الطفل في أحضانِ أمّه تشمّه وتضمُّه ..
ومع توقّفنا عندَ هذا التصرّف الذي قد لا يكونُ مناسباً هذه الأيام إلا أنّنا مضطرون لأن نُلقي نظرةً فيها كثيرٌ من التدقيق على أولويّاتٌ يغفلُ ويتغافلُ عنها الكثيرُ من الأمهات ومهنّ الآباء،فالحياة العصريّة التي تطلّبَتْ من الموظفات والأمهات العاملات إيجادَ بديلٍ لرعاية الأطفال حديثي الولادة أجبرِتْ فريقاً منهنّ الاعتماد على خادمات المنازل وفريقاً آخر على إيداع الطفل في حضانة أو مؤسسة رعاية وفريقاً ثالثاً دعَتْه قدرتُه المالية إلى استقدام مربّية متخصّصة ..
وما يُهمّني في هذا الأمر هو انتشارُ الأمكنة التي تُسمى "حضانة" يبحثُ عنها النساءُ ليضعنَ أولادهنّ وبناتهنّ فيها طيلة ساعات العمل ومن ثمّ يستلمْنَ الأمانة بعدَ حينٍ في رضا تامّ عن هذا التصرّف المتّسم بالخطورة ما لم تكُن هناك احتياطاتُ وشروط ومواصفاتٌ تُخفّف من حِدّة الغربة ومجاهل التربية ومزالق الأمراض ..
لا بدّ أن تتساءلَ كلّ أمّ ما هي الوجبةُ التي تقدّمُ لطفلها؟ وما هي الألعابُ التي توفّرُ لهُ؟ ومن هنّ الحاضناتُ والمربيات؟ وما هي البرامج والخطط اليوميّة والشهرية والفصليّة؟ وكيفَ يتمّ تقييمُ الأداء الذي تؤدّيه الحضانة واستفادَ أو تضرّرَ منه هذا الطفل أو ذاك؟ وما هي الاحتياطاتُ الصحيّة الممكنة؟ ثمّ ما مدى تأثر الطفل نفسياً وسلوكياً ببقائه في هذا المعتقل طيلة هذه الفترة؟
لو كنتُ طفلاً ولكنْ بعقلٍ يدركُ لشعرتُ بأنّ ما ترغبُ فيه الأمهات هو مجرّد الهروب من عناء المتابعة وهمّ التفكير وجهد الرعاية؟ ولأحسستُ بأنّ غايةَ ما يصلُه تفكيرُ الواحدة منهنّ أن يجدَ طفلها لعبةً تُلهيه ولبناً يشربُه وعاملةً تنظّفه ومكاناً بارداً مريحاً ينامُ فيه؟ ولذلك لا ينظرُ الأغلبُ في بلادنا إلى هذه "الحضانات" إلا نظرةَ "الحفاظات" ـ أجلّكم الله ـ التي يودّون الارتياح منها ومن تغييرها ولو لوقت قصير يجدْنَ فيه نسياناً وتسليةً ..
لو عرَفَ هؤلاء بأنّ السنتين الأولى في عمر الأطفال مجالٌ رَحْبٌ لسلوكيات وتدريبات وتقنياتٍ نفسيّة واجتماعية هائلة لطالبوا كلّ مؤسسة ترفع شعار "حضانة للرعاية اليوميّة" بعرض مرئي يصفُ العمل ويقدّم سيرة ذاتيّة للموظفات والحاضنات والمربيات والمعلمات بل وحتى العاملات،ولأصرّوا على الاختيار من عدّة بدائل في مراكز تتنافس لتقدّم خدمة أجل وعملا أكفأ ..
لا يكفي أبداً أن نقدّم للطفل رضعتَه في وقتها ونُغيّرَ لهُ ملابسَه كلما اتّسخت ونصرفُ ذهنَه عن بكاءٍ مستحقٍّ له بألعابٍ لا تضيفُ جديداً ولا تتوافق مع عصرٍ مليءٍ بالمتغيرات نخالفُ نحنُ اتّجاهاته باحتقارِ حساسيّة حضانة الأطفال في هذا السن بتصرّفات غير مسئولة وطموحات فيها الكثير من الإسفاف ..
برامجٌ كبيرة تنتشرُ في العالم يقدّمُها المختصّون لهذه الفئة من الأطفال يعتنونَ فيها بتشخيص كلّ طفل ووضع برنامج خاص لكلّ واحد أو اثنين أو مجموعة منهم على حده،ولا يكتفون بذلك بل يحرصونَ على أن يكونَ تواصل الحضانة ومسئولاتها مع الأم والأب عميقاً ومتوفراً في كلّ وقت بحيثُ يستشعر الجميع فرحةً عارمةً لكلّ تقدّم يُحرزه الطفل في المجال المخصّص له ..
بل إنّ الدراسات الميدانيّة والرؤى العصريّة التي يقدّمها مفكرون وأطباء واختصاصيّون في مجال الأطفال في العالم المتحضّر لا يجدونَ لها أرضاً خصبةً مثل "الحضانة" ولكن بالمفهوم التربوي الحديث ..
وفي "حضانة" للرعاية اليوميّة بدولة مثل الصين التي ضاقت ذرهاً بالمواليد وفرضَت تحديد النسل شرطاً أساسيّا للحقوق المدنية لمواطنيها تجدُهم هناك يُخضعونَ هذه المؤسسات لتقويمٍ دوري يُعاقبُ مادّياً ومعنوياً كلّ من يحيدُ عن الضوابط النفسية والتربوية التي وضعها المشرعون في مجالات الطفولة وقدّمها الأكاديميون كبرامج أخذوا عليها مئات البراءات في الاختراع ..
أمّا في "سيريلانكا" البلد الفقير في القارة الآسيويّة فهم يعتبرونَ "الحضانة" مكاناً مقدّساً يساوي المعابد والكنائس في الأهمية ولا يقبلونَ أن يكونَ مقراً لإيداع الطفل ومن ثمّ أخذه فقط،بل يُجبرونَ الأمهات والآباء على أن يتلقّوا من المتخصصات في هذه المؤسسة جلساتٍ ودروساً تعينهم على متابعة التطوّرات التي حدَثت لأطفالهم ورعاية السلوكيات التي بدأ الطفل يستجيب لها ..
نحنُ اليوم بحاجة ماسّة لأن يتّفقَ الأداء في "حضانة الرعاية اليوميّة" مع الاسم الحديث الذي اقترحته بعض الدّول الخليجيّة أن تُسمّى "بيوتاً للضيافة" ونحرص على أن نقدّم للطفل القهوة العربية والتمر الجيّد ونعوّده على الجلوس متكئاً والتفكير في السيارة التي سيقتنيها والمرأة التي سوف يتزوّجها والخادمة التي سوف يستقدمها والأسهم التي ربّما يُضاربُ فيها ..
وعلينا حينها أن نتخلّى عن كلمة "حضانة" لأنّها ومن منطلق الفقه الإسلامي والمصطلح العربي تنطوي على الكثير من مسئوليات التربية وتبِعات التعليم وأساسيات الحماية النفسية والاجتماعية والصحية،ولمّا كُنا غيرَ قادرين على أن نقومَ بأقلّ القليل من دور الأم الذي زُرِعَ فيها فطرةً قبلَ أن تتلقّاه تعليماً فلماذا نُقحِمُ أنفسنا في شعاراتٍ ترفع أمام غرفٍ يُسجَنُ فيها الأطفال ليخرجوا منها وقد فقدوا شيئاً فشيئاً ارتباطين هامّين "مع الأم ومع الواقع" ..
ما أقولُه هو أن يتدارك المجتمع والحكومة والمسئولون الأمر بإيجاد وتبنّي برامج علميّة محميّة مُحكمة لمثل هذه "الحضانات" ويلتفتوا للسنتين الأولى في عمر أطفالهم الذين عليهم عمادُ المستقبل وبناء الأمة،ولي أملٌ كبير أن يحظى الطفل العربي بأعظم أنواع الرعاية منذ ولادته حتى يلتحقَ بجامعته،حتى لا يكونَ بكاؤه المبدئي عند ولادته بدايةً لخيبة أملِه ..
التعليقات (0)