مواضيع اليوم

حضارة ما بعد العولمة

سلام الهدى

2010-10-17 05:38:48

0

اننا نعيش اليوم حضارة تتميز بثقافات تكونت وانبثقت إلى العالم من خلال عملية سرد وقص وتدوين لاحداث التاريخ التي تشكل النواة الأولى لمختلف دوائر المعارف والعلوم التي تشكلت حوله. هذه الحضارة ينهض بها الفاعلون الاجتماعيون والمشرعون الأوائل عبر استراتيجيات القراءة والكتابة والتأويل والتدبير والتفلسف.
كما ان استفحال ظاهرة الحرب وتهديدها بجر كل البناء الحضاري الإنساني إلى الهدم والهاوية يجعل من الضروري انقاذ هذه الحضارة بسلوك طريق جديد يتميز بالوعي واليقظة الفلسفية الدائمة مع الانتباه الى مخاطر نار العولمة الملتهبة .
إن زمن العولمة ليس مجرد مقولة اقتصادية فرضت نفسها على دنيا السياسة والثقافة بل هو المعنى الذي يمكن أن نمنحه لوجهة التاريخ الآن وهنا وهو العصر الذي نعيش فيه والذي هو بصدد التشكل والطلوع بعد تلاشي الزمن الامبريالي، وقد يحملنا هذا العصر إلى مصير مجهول لا ندري فيه ماذا نفعل وماذا نقول والى أين نتجه، لأنه عصر صنمية الصورة والفوضى الخلاقة وصعود الإمبراطورية ذات القطب الواحد التي تجعل من الحرب النمط الوحيد لاستعادة التوازن وبسط الأمن في المعمورة.
ان العالم اليوم يعيش بحالة وضعية المجهول واللاتعيين واللامكان. والتي تتميز بتفكك الذات وتحول الكون الى منطقة لاهي من جنس النظام ولاهي من جنس الفوضى وهذه هي عين الافلاس في قيادة البشرية.
ان خلاص البشرية من الافلاس يبدأ بتاسيس الفكر المتمرد الذي يخترق الاصول ويغيٌر الأسس الفلسفية الموضوعية والعقلية والحكمة،وهذا لايتم الا بممارسة لعبة الكتابة والقراءة والنقد والتفكيك والتأويل والفهم.
ان تشخيص حالة التناقض والتيه التي يعيشها الفكر الفلسفي العربي، يفتح بصيرة الفرد على حقيقة وضعيته التي يعيش فيها غافلاً غائمًا عن قضايا اللغة والتاريخ والوجود بفعل تراجعه وانكفائه داخل ذاته هروبًا، و متهمًا بمغادرة أرض الكينونة وانتباذ منزلة بين المنزلتين في أكبر عملية استقالة فكرية؛ فلا هو في منطقة التطلع نحو المنشود، ولا هو في وضعية التمسك بالموجود. كيف نبدأ,هل نبدأ بتدوين صدمة الحضارة بمفهومها الجديد؟
ان كل ما يحتاجه الانسان الحضاري تدوين صدمته, و عندما تبدا الانسانية بتدوين صدمتها تكون قد بدأت بالشعور بالتاريخ الانساني وحاضره ومستقبله.
ان الاستراتجيات الفلسفية الجديدة يجب ان تستند الى متن فكري يحاول ان يعمل على تأسيس فكر متمرد على ذاته محاكم لمسبقاته ,لانشاء حضارة جديدة تؤسس لحقبة ما فوق الفلسفة. ،وبهذا التاسيس, تبدأ الفلسفة لتعانق الفكر الحرَّ وتتقن لعبة الفهم والتعبير عبر قانون التأويل, إنها اصولية الفكر وليس الفهم وحده، والتعبير الحقيقي للوجود وليس المعنى فقط.
ان علينا ان نعمل على صياغة قانون عالمي: "لكل إنسان الحق في التفلسف والتفكير دون تكفير"، فالتفلسف حق عالمي ومن حق كل ثقافة أن تشكل فلسفتها لا كفلسفة متعالية عن هموم الإنسان وعصره بل بوصفها تطرح وتعالج قضاياه.
ان حضارة ما بعد العولمة عندما ترفع هذا الشعار فانها تؤسس دستورا جديدا لمدينة الفلسفة: فالفلسفة كإستراتيجيه هي حق من حقوق الإنسان مثل حق الحياة والحرية. وهي ليست حكرًا على أمة دون أخرى أو إنسان دون إنسان.
ان الحديث عن الإستراتيجيات يعني البحث وسط هذا الركام الوجودي عن نقطة بداية وتأسيس للمستقبل وان نقطة البداية تكون في المبادرة بتجربة بدائية أولية يملك فيها الفاعل سلطة العمل و من ثم البداية باحداث تغييرات في العالم على المستوى التفكري والنقدي, التي ستكون السبب في تغيير مسار البشرية.
والحقيقة هنا تكمن في بحث الانسان الفطري عن نقطة البداية والنهاية لهذه الاستراتيجية الفلسفية الجديدة التي تبشر بولادة جوهر انسان جديد يكون فيه الفكر الفلسفي الجديد حق عالمي طبيعي من اجل تاسيس حقبة مافوق الفلسفة التي تتميز بوحدة الشعور التي تحقق التمازج بين لغة الوجود و لغة الفكر.
وهذه هي بعض مظاهرحقبة ما فوق الفلسفة :
المظهر الاول
هي في تحمل المسؤولية والوجوبية وحتمية الفكر الوجودية في التوجه نحو البدء المختلف والاختلاف في البدء. ومن المعلوم أن لزوم الضروريات الاساسية يقضي التلبية الفورية لنداء الفطرة المنبعث من صوت الوجود الكوني, وبالتالي ليس هناك اختيار آخر لحضارة ما بعد العولمة سوى أن تبدأ من جديد وعلى نحو مغاير ومختلف, قبلتها الابداع الكوني وأرضيتها الضاد والقرآن.
ان علينا العبور إلى مرحلة التفكير في الإستراتيجيات بما يساهم في عودة الفلسفة لممارسة دورها الفعال في الواقع، وعدم التزام محراب التأمل الفكري البعيد عن عالم الواقع.وهذا يفرض علينا ترك المبادرات الفردية والتحرك بشكل واعي متناسق لاتمام هذا العمل.والابتعاد عن التنبؤات المستقبلية.
انه قد تكون سياسة الهدم إستراتيجية فلسفية يعول عليها لبناء واقع مختلف لواقع الانحطاط.
غير أن هذا التشخيص للفعل الفلسفي والفلسفة والفيلسوف في حضارة ما بعد العولمة ليس غرضه الوقوف عند موقف تحرش الواقع الانساني بكل ما هو فلسفي، ، بل الغرض منه الكشف عن مناطق أو شقوق تنبئ بانبعاث وسطوع شمس الفلسفة على قارة وجود الانسان الشاحب، إذ "من نكبة الملة ونكبة الكينونة"، ، ستتولد الفلسفة والفلاسفة، " بوصفها فلسفة مقاومة، ليصبح رهان الفلسفة الانسانية في الحضارة الانسانية الجديدة ومستقبلها ملخصًا كما يلي: "أن نتفلسف ليس أن نتدرب على المقاومة بل أن نقاوم".
وقد تكون بداية التأسيس من خلال الوقوف على نقد العولمة، ونقد الحياة في سوء النية من أجل رجة الفكر بصدمته، وإحداث اختراق في مستوى وعيه المستكين. كما أن الصدمة لن تكون فعلاً تأسيسيًا إلا إذا مر بوطن الفلسفة الحقيقي, هذا الوطن المهجور والمسروق منذ ابن سينا والفارابي وابن رشد ليقع في براثن الالحاد المادي. لقد وقع تهجير الفلسفة الانسانية الكونية من اصولها و من حقيقة تجسيدها الحضاري بفعل العولمة ، وهاهي اليوم قد ملت اللجوء وتبحث عن "حق العودة". فعسى أن تكون الإستراتيجيات هي المشروع الكفيل بتحقيق حلم العودة الفلسفية إلى حقيقة الوجود الانساني. فهل تتحقق دولة الفلسفة في مدينة "إستراتيجيات فلسفية"؟
و هنا لابد من ضرورة احتكاك الفلسفة باللافلسفة والهامشي والمتروك والساقط على قارعة الطريق، والالتقاء بمناطق الجنون والرغبة واللامعنى، عسى ان تلتقي فجأة بالحلم "حلم نهاية الجهل بحقيقة الوجود الانساني ". فهل تدشن هذه الشذرة الفلسفية عصر انتهاء الإضراب عن الفهم الحقيقي للوجود الانساني ومقوماته ؟
المظهر الثاني
تدوين الصدمة , وماذا يدون لهذه الحضارة ، والعالم في حالة صدمة وذهول عن التاريخ؟ ثم هل ستكون محاولة تدوين الصدمة بداية تاريخ التحرر والوعي والاستيقاظ من السبات؟
وآلية المقاومة هنا هي الاعتزاز بالذات بوصفها "الاساس الفردي" والمأوى لوجود الانسان وكينونته "فلا فلسفة حقيقية بدون الاعتزاز بالذات التي يلهمها الابداع والتجدد ويجعلها قادرة على صهر مفاهيمها وإبداعها في شكل يعلن عن هويتها المعاصرة".
ان الاعتزاز بالذات الانسانية, يعني الانتماء الحضاري والمشاركه في بناء الحضارة الإنسانية، ويساعد على تشكيل الهوية السردية
إن اعداد الشخصية الذاتية الحضارية، وإسقاط حصون الجهل عنها، سوف يؤدي الى ادراك الذات، و لتبدأ عملية النقد الذاتي ومن ثم نقد ثقافة الجماهير، وتغيير موقف الحشد عبر الارتقاء بالتجربة الجمالية لحضارة ما بعد العولمة.
المظهر الثالث
الارتقاء بمستوى الفن ليعانق الإبداع ولنجعل من الفن ملحمة إنسانية تعيد بناء وعي الإنسان وفق معايير الذوق الرفيع، لا أن تلهو بهذا الإنسان وتجعله يغترب عن ذاته ويهرب منها للسقوط في ابتذال تجربة فنية لا ترتقي عن متعة الحواس. فالفن ليس مجرد لعبة تمارس فيها التجارب القصوى للذات شاردة مبتذلة عبر التقنية والتسويق، أليست التقنية عندما تدخل الشيء تفسد براءته؟
ان احتشاد الحشود كالقطيع على بوابات الفن المبتذل معناه أن يتحول الفن من أداة رقي وتهذيب للنفس ومعالجتها من أمراض شيئية الحضارة إلى سبب رئيسي في مرضها. ومن هنا تولد مقولة المقاومة في الفن، فالفن المقاوم والمتخلص من شرنقة الحشد قادر على بناء الحضارة والإنسان.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !